لا أدري كيف ستكون نتائج المساعي والمناورات الجارية على قدم وساق لإنقاذ جيش المهدي ورئيسه: هل بهدنة هشة جديدة يفرض فيها زعيم المليشيا المذكور " شروطا" ما، أم بحسم لا وسيلة سواه لاستئصال هذا السرطان الطائفي الموجه والمدعوم إيرانيا.

إن الرضوخ مجددا لابتزاز الغوغاء المسلحين والأحزاب الشيعية وضغوطها لإنقاذ الصدر تحت ستار " وقف نزيف الدم"، أو "وحدة البيت الشيعي"، لن يعني حسب اجتهادي غير ضرب هيبة الحكومة ومركزها، وبهدلة القانون، وبالتالي تهديد العملية السياسية ومستقبل العراق.

إن مستقبل العراق يتقرر اليوم في النجف كبداية لتصفية بؤر الإرهاب والعنف في الفلوجة وسامراء وبغداد وبقية المناطق الواقعة تحت السيطرة الفعلية لعصابات المهدي والزرقاوي وصدام، ومعهم عصابات الجريمة المنظمة.

إن القبول باعتبار الصدر جانبا والحكومة جانبا في "مفاوضات" تدرس "شروطا عشرة" من الصدر، يعني اعتباره طرفا سياسيا له وجهة نظر ومقبولا للحوار معه. والحال أن الحقائق هي كالتالي:

1 ـافتتح الصدر مقتدى نشاطه بعد سقوط النظام الفاشي مباشرة بعملية تدبير اغتيال للخوئيالابن ورجلي دين آخرين؛

2 ـ في نفس الوقت قام أنصاره في بغداد والبصرة وغيرها بملاحقة وقتل بائعي الخمور وملاحقة المسيحيين والمندائيين، ومهاجمة دور السينما، والتدخل في الحياة اليومية للمواطنين وفي الجامعات، واعتقال من يريدون وجلدهم في الشارع، وزجهم في سجون خاصة، وإنشاء محاكم صدرية باسم "الشريعة"، الخ.. وكل هذه هي انتهاكات فظة للقانون، واستعمال للعنف، وخروج على العمل السياسي السليم، وعدوان مستمر على الحرية وحقوق الإنسان. كما اعتدوا على حرمة المراقد الشيعية المقدسة واحتلالها، مما أدى لمعارك معروفة في كربلاء والنجف بين الشيعة أنفسهم والإضرار بمنائر الحرمين؛

3 ـ قبل شهور فرضت التدخلات ووساطة الوسطاء [التي تعاد اليوم]، هدنة هشة في النجف استفاد منها أنصار الصدر لتعزيز مواقعهم وتسلحهم، حتى تجرئوا على انتهاك الهدنة، فكانت المعارك الجارية. فالذين أشعلوا المعارك الحالية ليست الحكومة وقواتها أو القوات الأمريكية بل أعوان مقتدى، في وقت كانت فيه القوات الأمريكية قد انسحبت من النجف؛

4 ـ لم يعد من شك في كون جيش المهدي سلاحا إيرانيا لتخريب العراق وتعطيل العملية الديمقراطية المترقبة ولتصفية الحساب الإيراني والسوري مع الولايات المتحدة على أرض العراق وبالدم العراقي. وهذا هو أحد علماء قم المعروفين يدعو العراقيين "لمقاومة الاحتلال" ولو فني منه نصفه أو أكثر! ولا أدري لماذا لا يدعو سوريا لطرد إسرائيل من الجولان ولو قتل من أبنائها ألف نفر مثلا!! وبالأمس الأول صدرت دعوات إيرانية رسمية للتظاهر في إيران لصالح الصدر وضد الأمريكان، وأصدر الحرس الثوري الإيراني بيانا يدعو العراقيين للتظاهر بالشعارات ذاتها.

إن انسحاب القوات الأمريكية من المدينة القديمة، وإن مناورات الوساطة والضجة المفتعلة لصالح الصدر، فسرها كل الإرهابيين بضعف الحكومة وعجزها، فأشعلوا فتنا جديدة في الفلوجة وسامراء دعما للصدر. ولعمري إنه لموقف سياسي فيه كل الرياء والبلف. فالزرقاوي والمتطرفون الوهابيون والصداميون يكرهون الشيعة ولحد التكفير. ولكن الجميع متفقون على تحدي القانون والحكومة وخلق الفتن والفوضى. وكما قلنا عشرات المرات، فإن لكل طرف هدفه وحساباته. ففلول صدام تسعى لبعث نظام صدامي جديد يذبح أول من يذبح الشيعة ورجال دينهم؛ والزرقاويون يريدون، بعد سقوط نظام الطالبان، بعث إمبراطورية [الخلافة الإسلامية] نمن أرض العراق؛ والصدريون يريدون السيطرة على العراق لتطبيق دولة ولاية الفقيه بنسخة جديدة، وهذا هدف مشترك للأحزاب والتنظيمات السياسية الدينية. أما الزرقاويون فقد أقاموا ولاية طالبانية في الفلوجة باسم حكم الشريعة أيضا.

نحن اليوم في أدق اللحظات من عراق ما بعد صدام، فإما السير بحزم وبلا هوادة لحماية القانون والحريات ودحر الإرهابيين، وإما سقوط هيبة الحكومة والشرطة وتحويلهم لمثار سخرية واستخفاف، ومن ثم انتصار الإرهابيين وسقوط كل أمل في قيام الديمقراطية في العراق، وجعله فريسة التدخل الإقليمي والتقسيم، والحروب الأهلية المتواصلة والطاحنة.

أعرف الصعوبات الجمة في طريق الحكومة، وأعني أولا انجرار شطر كبير من الشارع الشيعي وراء مقتدى الصدر وبدوافع مختلفة، ما بين جهل وبطالة، وإغراء مالي من الكيس الإيراني، وما بين تغلغل ضباط مخابرات الحرس الثوري وفيلق القدس في جيش المهدي، ومعهم المئات من أعوان صدام كما أكدت المرجعية الدينية الشيعية العليا بنفسها منذ بداية ظهور حركة الصدر. وقد ظهر من مظاهرات أنصار الصدر يوم الجمعة أمس مدى تغلغل شعاراته ودعاياته الطائفية والسياسية الغوغائية في الشارع الشيعي، ومدى التضليل الذي تعرضت له قطاعات من الجماهير البسيطة والمخدوعة والمصابة بالهستيريا الطائفية كرد فعل على التمييز الطائفي الدموي البشع لنظام صدام وقتل عشرات الآلاف من الشيعة وزعمائهم. وقد يقال إنه ما من حكومة " تقاوم الجماهير".

أعرف هذا كله، ومع ذلك أتساءل: أي خيار فيه مصلحة الشعب والشيعة أنفسهم، ومستقبل العراق وأفق تقدمه وازدهاره وحفاظه على وحدة البلاد؟ بل أي خيار كفيل بوقف النزيف لا في النجف وحدها بل في سائر المدن المحتلة من الإرهابيين وأعداء الديمقراطية؟ أي خيار فيه ضمان حرية المواطن بما فيها حرية ممارسة الشعائر الدينية وتجنب خطر قيام نظام التمييز الطائفي والعرقي والقمع الدموي، سواء نظام صدام أو نظام دولة ولاية الفقيه العراقية، أو نظام الطالبان اللادنية ؟

لقد قال بومبيدو رئيس الجمهورية الفرنسية الأسبق عام 1974 في عشية وفاته إنه يعاهد الشعب على مواصلة نهج تطوير فرنسا والترفيه عن الشعب ويواصل نهج "حفظ الأمن الذي هو ضمان الحرية"، كما قال حرفيا.

نعرف أن الطريق طويل ولضمان الأمن شروطا أخرى غير الحزم العسكري. ولكننا، وكما ذكرت في مقال سابق، نعيش في لحظة لم يعد فيها من مفتاح رئيسي لحل المشكلة الأمنية غير تصفية بؤر الإرهاب، وأولا إنهاء حرب مقتدى الصدر الإيرانية على العراق والحرية والقانون؛ وبذلك يسهل التصدي بنجاح وثقة لبقية البؤر المشتعلة ولنشر الاستقرار الذي بات أمنية الأماني للمواطن.

إنني أتألم حين أقول قد خاب أملي في الأحزاب والنخب الديمقراطية والعلمانية: فأين صوتها؟ وأين جماهيرها؟ أليس من الواجب على سائر القيادات والنخب الوطنية أن تعلن بجرأة ووضوح تامين عن دعم إجراءات الحكومة في الشارع العراقي نفسه، وذلك مهما كانت خلافات البعض مع الحكومة أو شخص رئيسها ؟؟ أليست المصالح الوطنية وكل التضحيات التي بذلتها هذه القوى والشعب للوصول لنظام ديمقراطي فدرالي علماني تستدعي وضع الخلافات بين الوطنيين جانبا في الوقت الحاضر، والعمل سوية لضرب بؤر الإرهاب بالعمل والقلم واللسان والإعلام، والعمل لتوعية الجماهير المخدوعة المبلبلة، التي لا تعي مع الأسف مصالحها الحقيقية بحكم التخريب السياسي والفكري والأخلاقي والنهج الدموي لصدام حسين؟؟

إن استمرار خطر الإرهاب وبؤره لن يسمح بخلق الظروف المناسبة للانتقال إلى العمليات الانتخابية الديمقراطية التي سوف تضع كلا في مكانه الصحيح وتدشن العملية السياسية السلمية في تداول السلطة.

أجل إن الطريق طويل وأقول طويل جدا. ولكن لا بد من الجرأة على اقتحام الصعوبات وقهرها. فلكل شئ ثمنه!

وكل أملي أن تواصل حكومة الدكتور علاوي إجراءاتها الحازمة في النجف بمساعدة القوات الأجنبية، وأن يرفض بقوة وتصميم كل تفاوض حكومي مباشر أو غير مباشر مع زعيم ميليشيا كلفت العراقيين آلافا من الضحايا وحجما واسعا من الخراب. وليرفع كل الوطنيين والديمقراطيين أصواتهم بشعارات:

"كفى عدوانا على القانون"!، " حفظ الأمن ضمانة للحرية"!