البصرة مدينة عراقية في أقصى جنوب البلاد، تلقب بحق، بالفيحاء وثغر العراق الباسم، اشتهرت بنخيلها التي قدرت بأكثر من عشرين مليون شجرة، من أجود أنواع التمور في العالم، مثل البرحي والخضراوي والخستاوي والقنطار والبريم والساير ومئات الأنواع الأخرى، قطع صدام رؤوس معظمها خلال حروبه العبثية مع إيران ولم يبق منها سوى 8 ملايين نخلة.

البصرة مدينة الفقيه حسن البصري وتلميذه واصل بن عطاء مؤسس حركة المعتزلة الفكرية في الإسلام والفراهيدي صاحب الأوزان الشعرية والأصمعي والجاحظ والسياب، المجدد في الشعر العربي وغيرهم كثيرون من مؤسسي المدارس الفكرية والشعرية والنحوية وغيرها,

لقد من الله على أهل البصرة بشط العرب الذي يتكون من التقاء النهرين الخالدين، دجلة والفرات عند مدينة القرنة، والذي تمتد على جانبيه بساتين النخيل بطول 200 كيلومترا من القرنة شمالاً إلى نهاية الفاو المطلة على الخليج جنوباً، ويتسم الشط بظاهرة المد والجزر مرتين في اليوم فيحسد أهلها على نعمة سقى بساتينهم وهم نيام!! ونظراً لكونها ميناءً تربط العراق بالعالم الخارجي صارت البصرة ملتقى الأمم وتلاقح الثقافات منذ القدم، لذا اشتهر أهلها بالاختلاط بسائر شعوب الأرض والانفتاح على مختلف الحضارات وعرفوا بروح التسامح والكرم واحترام الغريب والطيبة إلى حد السذاجة ولكنها ليست بالسذاجة العادية، بل الطيبة الفطرية على غرار السهل الممتنع. البصرة، المدينة الوحيدة في القسم العربي من العراق التي اشتهرت باحتفالات عيد نوروز، عيد الربيع وحتى قبل إقراره عطلة رسمية في كل العراق عام 1970، وكانت هذه الإحتفالات تسمى ببوم الكسلة. كما عرف أهلها بحب المرح والطرب وفرق الخشابة والهيوه الخليجية وغيرها كثير من وسائل الترفيه وحب الحياة ومباهجها دون تزمت.

هكذا عرفتُ البصرة الحبيبة الجميلة التي ولدت ونشأت فيها وعشقتها وعرفت أهلها وأحببتهم إلى حد الإدمان.. وكان أثقل يوم عليَّ عندما غادرتها قبل 25 عاماًً ولم أرها لحد الآن ولكنها تعيش في القلب واتابع أخبارها باستمرار. لم يخطر ببالي أبداً أن في هذه المدينة المسالمة المتسامحة ستظهر يوماً فئة من المتعصبين المتأسلمين يضطهدون الناس باسم المذهب والدين وقد بلغ بهم الجهل والوقاحة إلى حد الدعوة إلى فصل البصرة عن العراق في جمهورية طالبانية تمهيداً لابتلاعها من قبل إيران الإسلامية.

فيا ترى ماذا حلَّ بهؤلاء الناس؟ صحيح أنها فئة قليلة ولكنها صارت الواجهة الإعلامية للبصرة هي المهيمنة بقوة السلاح على مصائر الناس كما يبدو ... البصرة الآمنة المتسامحة كما عرفتها، تقوم شلة من أبنائها باختطاف صحفي بريطاني شاب لا يتجاوز الثالثة والعشرين من العمر، ذهب لتقصى الحقائق في مهمة صحفية ليس غير، ليفاجأ بثلاثين مسلحاً ملثمين يداهمون الفندق الذي يقيم به ويختطفونه، ثم يستعرضونه على شاشات التلفزة عرياناً وعندما يخاطبهم أنه مجرد صحفي بريء يجيبه الخاطف بمنتهى الرعونة (لَكْ إنجب أكل خرة ألعن أبوك لا أبو شرفك..!!)، فأية لغة سوقية هذه التي يمارسها "المجاهدون" أمام الكامرات؟ كما واعتدوا عليه بالضرب حيث بدت كدمات واضحة على عينه اليسرى. هذا السلوك ليس من اخلاقية أهل البصرة. تمنيت لو لم أر هذا المشهد المحزن المخزي الذي جعلني أشعر بالقرف. هل حقاً يوجد في مدينتي هذا النوع من الوحوش الكاسرة وبأشكال بشرية. صحيح أنهم أطلقوا سراح الصحفي المسكين واعتذروا له بعد تدخل "صاحب مفاتيح الجنة".. ولكن آثار الجريمة ستبقى لطخة سوداء في تاريخ البصرة وبالأخص تاريخ "المجاهدين" من عصابات مقتدى الصدر المنفلتة، وبالتأكيد سوف لن تمحى من ذاكرة الضحية.

أية آيديولوجية هذه التي أحالت هؤلاء المسالمين المتسامحين إلى وحوش بشرية لا يختلفون عن وحوش بن لادن والزرقاوي وفلول صدام حسين؟ إن هذا السلوك الهمجي الوحشي غريب جداً على اخلاقية الشعب العراقي وتقاليده وبالأخص أهل البصرة الطيبين... إن ما قام به هذا النفر الضال من أعمال بربرية إزاء هذا الصحفي البريطاني الأعزل وغيره، لا يشرف أحداً ولا يجلب سمعة طيبة، لا للبصرة ولا للإسلام ولا للمذهب الشيعي الذي يدعون الجهاد باسمه.. فبأي وجه نواجه العالم؟ إن مناظر هذه العصابات المسلحة وهي ترقص على أشلاء ضحاياها تذكر بالقبائل البدائية من أكل لحوم البشر في مجاهل غابات أفريقية. إنكم تحثون الخطى نحو الهاوية وأنتم نيام... فعندما تفيقون من غفوتكم ويعود لكم الوعي المغيب، إن حصل ذلك، فستندمون على أعمالكم في ساعة لا يفيد معها الندم.

عزائي هو أن ألجأ إلى علم النفس الاجتماعي لأجد تفسيراً وتبريراً لهذا السلوك المشين، لا شك أنه ناتج عن معاملة حزب البعث لكم خلال 34 عاماً من سياسة التجهيل والجوع والظلم والقهر والاستلاب، فلم تعرفوا معنى الحرية، لذا عندما حصلتم عليها بفضل الأمريكان، أنكرتم الجميل وأسأتم التصرف بها وتعاملتم كسكارى متهورين بلا وعي. 34 عاماً من التجهيل لتحل محله خطابات الإسلام السياسي الإيراني من شيوخ المساجد الذين ملئوا عقولكم بالحقد والكراهية للحياة وتمجيد الموت وشحنوكم بالعداء لكل من يختلف معكم في الرأي ولا يسير على سكتكم.. إنها نسخة طبق الأصل لسياسة البعث المقبور.

أقنعوكم أن مقتدى الصدر يحمل مفاتيح الجنة ويوزع عليكم حور العين إذا ما قتلتم في سبيله. ولم يقولوا لكم: "أن كل نفس بما كسبت رهينة"، ويوم لا تنفعهم شفاعة الشافعين.. إلا من أتى الله بقلب سليم.

لقد أساء هؤلاء للحرية والديمقراطية ومن ورائهم أولئك "المثقفون" الذين يحرضونهم على المزيد من المعنف ضد شعبهم بحجة إخراج القوات الأجنبية. فكما قال رئيس الوزراء الدكتور أياد علاوي في مؤتمره الصحفي يوم أمس (14/8/2004) لمن كانت له مشكلة مع القوات متعددة الجنسيات «نطلب منه خوض الانتخابات العامة بداية السنة المقبلة، وخلال الانتخابات فإن الشارع هو الذي يقرر وينتخب من، فإذا رشحته الجماهير لرئاسة الدولة او الحكومة فليطلب آنذاك من الأمم المتحدة عدم رغبته ببقاء تلك القوات في العراق، والتي ستغادر بعد أسبوع من طلبه حسب ما نص عليه قرار مجلس الأمن».

فإذا كان مقتدى الصدر وغيره من الذين يدعون الوطنية، أن يلتزموا بصناديق الاقتراع السري وليس بالتمرد المسلح ونشر الفوضى وتدمير المؤسسات الاقتصادية. فالخروج على القانون بالتمر المسلح دليل على الإفلاس السياسي والإخلاقي. كذلك نطالب الذين يطالبون بالحل السياسي مع مقتدى الصدر، فهل كلفوا أنفسهم بفتح حوار معه ودعوته لوقف القتال، أم إنهم فقط يكتفون بإلقاء اللوم على الحكومة وقوات الشرطة المسؤولة عن حماية الأمن ومطالبتها بعدم المواجهة مع المتمردين؟ فكيف تعامل الدول الديمقراطية التمردات المسلحة؟

http://www.sotaliraq.com/abdulkhaliq.html