القلق الذي نسال
أين تكمن مصادر القلق الإ نساني الاولى؟

هذا السؤال كان وما يزال محط عناية الفكر الإ نساني، ولا أعتقد سوف يكفُّ عن الإ نقطاع، أو سوف يدخل مملكة النسيان أو الإهمال، لانه سؤال منطقي ما دام الإنسان قلقا، وقد أشغل الكثير من الفلاسفة والحكماء والمتصوفة واللَّاهوتين، ولم يخرجوا بنتيجة قاطعة حاسمة، ولعلَّ إلحاح السؤال، وعدم الوصول الى جواب شاف مطمئن من أسباب القلق بالذات أيضاً.
ربما يجيب الكثير من الناس أن مصادر قلقهم واضحة لا تحتاج الى إمعان فكر، فهي بيٍّنة نعيشها، وتعيش في داخلنا وفي خارجنا، ونسعى الى حلّها وتذليلها، سواء بجهود شخصية، او بما يبذل علماء الطبيعة والنفس والأقتصاد وغيرها من ميادين المعرفة الانسانية المتنوِّعة، فهل مصادر القلق غير هذه الحروب التي تجتاج العالم؟ وهذه الإمراض التي لم ننتصر عليها لحد هذه اللحظة مثل السرطان وغيره؟ وهذه المجاعات التي تأكل الجسم الإنساني الجميل بلا رحمة ولا شفقة؟ وهذه الإثرة التي راحت تتحكّم في ضمير البشر بلا وازع من ضمير، ولا خوف من عقاب آخروى؟
وإذا بغينا ان نغوص أعمق لمعرفة الحقيقة على هذا الصعيد، فأن مصادر القلق ليست غير هذا التسابق على التسلّح الذي بات يهدد العالم، وهذا الإستغلال البشع للطبيعة، وهذا النقص الهائل في أساليب العلاج لملايين من البشر، فهل هناك ما هو اكثر وأعمق من ذلك؟
في ضوء هذه التصورات العادية يمكن ان نقول بإنّنا وضعنا أيدينا على نصف الحل، ذلك ان السبب معروف والعلَّة واضحة بينة، فما علينا الاّ ان نجد الجد لأيجاد الحلول، والإنسان في طريقه لذلك، فقد حقّق انتصارات هائلة على هذا الطريق، إ كتشف المضادات الحيوية الناجعة، وأسسّ المنظمات الأنسانية التي لا تألوا جهداً في تذليل الكثير من مشاكل المجتمع البشري السياسية و الصحية و الاجتماعية، وهناك محاولا ت عملاقة على طريق تحسين النسل، وتحجيم التصحّر، ومقاومة ا لتلوث، وتحسين الناتج الزراعي، ومدارس علم النفس في طريقها لاكتشاف المزيد من أسرار السلوك الإنساني، وقد أبدع من اسباب العلاج العنوي والمادي ما من شأنه التخفيف عن كثيرمن حالات العصاب والذهان وغيرهما من المشاكل النفسية...
هذا هو حديث الناس عن مصادر القلق وعن ينابيعه الاولى، وعن حلوله وكيفية الخلاص منه، وبلا شك هم محقون في هذا التصور، فيما السؤال المطروح يتحدث عن القلق ( الوجودي )، القلق الذي يتجاوز كل هذه ا لمقتربات، قلق يتصل باصل وجوده، باصل حياته، باصل مشروعيته في الوجود... قلق ( نيشتة )، قلق ( المتنبي )، قلق الإنبياء سلام الله عليهم، قلق اللاهوتين العظام، قلق ( المعري )، قلق ( سورين كريكورد )، قلق ( ماركس )، قلق ( سبينوزا )، وغيرهم من رجال التاريخ الذين أعطوا للتاريخ فلعنهم التا ريخ لانهم ا عطوا !
هذا هو القلق الذين نبحث عن ينابيعه الأولى...
هذا هو القلق الذي نريد ان نستشرف مصادره الكونية البعيدة...



ماذا يقول الفيلسوف ( كريكورد )
كان الفيلسوف الدانماركي الشاب ( سورين كوركيود ) من القلائل الذين أولوا القلق أهتماما بارزا في مشروعه الفلسفي العملاق، ذلك المشروع الذي بدأ من دراسة الموجود وليس الوجود، والموجود البشري بالذات، وقد كان متعاطفاً مع القلق باعتباره أعظم سمة إنسانية، رافضاً كل التفسيرات المبتذلة لهذه الظاهرة العظيمة، وقد أجترح هذا الفيسلوف الشاب منظومة مفاهيم خاصّة به لتحليل الوجود الإنساني، ولم يتورَّط في التوغل في لُجَّة الوجود الخارجي، ومن هنا أمتلأت محاولته الرائدة بمفاهيم تنتمي الى الهم الإ نساني مثل ( القلق، الياس، الخطيئة، التعالي، الإثم... ).
نعم يمكن أن تجد هذه المقولات طريقها الى فلسفته من حيث علاقة الوجود الخارجي بالانسان، فهل هذا الوجود يوحي بالفرح أم بالحزن، وهل هو مصدر إ طمئنان ام قلق، وهل هو باعث على الأ لفة أم النفور؟ وأكثر فلاسفة الوجودية إنشغالا بالموجود الفردي يتعاملون مع الوجود الفلسفي التقليدي من هذه الزاوية المشتعلة بالحماس أو الإحباط.
يرى هذا الفيلسوف أن القلق عبارة عن رد شامل على أزمة الوجود، وقد بدا القلق مسيرته في حياة الإنسان منذ ان إرتكب الخطيئة الأولى، ففي الخطيئة بدأت بذرة الوعي والإرادة، فهو أصبح قادراً على ألأ ختيار، ومن ثم يمكن أن يختار الطرف ا لمرجوح، أو الخيار الذي من شأنه الدمار والخراب، ويمضي الفيلسوف الشاب في تحليله للقلق، فيكشف عن مصدر آخر للقلق، ذلك أنّه من الصعوبة التمييز بين الشر و الخير، فضلاً عن أنَّ خطر توزّع الفكر بين الهلاك الأبدي والخلاص ا لأبدي. لكن الفيلسوف يواصل ذلك بمشكلة عميقة، ذلك هو عالم الممكنات، فهو واسع، ويبدو ان كل شي ممكن، وإذا بهذه الساحة التي يجد فيها حريته تبتلعه بقسوة رهيبة، لانَّ تلك الساحة تركض أ مامه، لا تعطيه فرصة الإ ستراحة، وفي النتيجة يكتشف انّ ما أنجزه، او ما حصل عليه دون هذه المطلوب بدرجة تصل حد اللامتناهي !
يقوم القلق عند فيلسوفنا في نقطة لقاء بين عالم الإ نسان وعالم الوجود الخارجي، وقد نشأ هذا الصراع منذ ان ارتكب الانسان الخطيئة، هي بدئ المسيرة المتوترة، المتمزّقة، ولكن هي الطريق الى الله في ذات اللحظة، لو لم يخطا أبن أدم لما تواصل مع ملكوت السماء...


القلق والعدم
القلق يؤدي الى إكتشاف العدم، لان هناك إ نزلاقاً رهيباً لهذا الوجود في الَّلحظة التي أشعر بها بالقلق، يتعرَّى الوجود أمامي مُنسلخاً... مُخيفا... سواء كان قلقي من شيئ، أو كان على شيئ، فهذا القلق يكشف عن فراغ كبير في الوجود، يفاجئني في لحظة سريعة... بل يكشف عن سيل من الفراغات التي تتحايث مع الوجود... هناك فجوات مرعبة .
ولكن هذه الفجوات والثغرات هي ذاتها مصدر الخصب البشري، فإذا كَمُلَ الوجود جدبَ الإنسان، فالقلق نبع الفكر، ومصدر الإثراء الروحي، كمال الوجود يعني تعطيل الإنسان.
القلق ظاهرة شمولية، لانّه يستوعب في حضوره أو في حركته كل شي، هل الخلاص بعيد عن القلق؟ أم أن الموت في منأى عن هذا الأضطراب الرهيب؟ أم أن الحياة خالصة من همٍ عارض أو دائم؟
نيتشة والبذور الأولى
القلق كائن أبدي مادام هناك صراع بين الغريزة و الحرية، وبالتالي هو دائم التخلُّق، ينبثق باستمرار من هذه الدوامة من الصراع المرير، الصراع بين عبودية الذات من الداخل، وحريتها من الداخل أ يضا، فالذات حصيلة صراع داخلي، رغم دور الخارج في صيرورة هذا الصراع، وإحساسنا بهذا الصراع هو عين القلق، ولكن ما قيمة هذا الصراع الدائم، وما فائدة هذا الإحساس بالصراع ا لمحتدم، فيما أخلاق العبيد هي التي تصمم وجودنا، هذا القلق هو المنتصرإذن، ولسنا نحن المنتصرين، يحقق حضوره فينا، ولم نحقق حضورنا فيه .
وفي الوقت الذي يركّز فيه نيتشة على قيم الصراع الداخلي للذات كي يشتق منها معادلة القلق، يغرق سارتر في عالم الحرية ليقوم بعملية إشتقاقه الخاصة به، فليس القلق سوى كيفية وجود الحرية، ليس وجوداً فطرياً، ليس وجوداً سابقاً على التجربة، بل وجود نخلقه نحن !
الحرية هي جوهر الوجود الإنساني، ولما كانت الحرية عملية إكتساب مستمر، فإن القلق حالة مستمرة، وبالتالي فهناك تماهي بعيد بين ( القلق ) وبين ( أنا )، القلق هو( أ نا ) بالذات، انا بلحمي ودمي وروحي وكل كياني، فإذا ما هرب الانسان من القلق، فإ نما يقدِّم دليلا محسوسا على هروبه من الحرية، وبالاخيرهو هروب من معادلة الوجود الحي، هروب من ذاته الحرّة...


القلق والنزوع الى الخلود
يولد الإنسان وتولد معه نزعة طاغية الى الخلود، يريد ان يتحول الى مخلوق مُفارِق كما يقول علماء اللاّهوت، يعلو على الزمان والمكان، ولذا يجزع من الموت، ويفكر دائما بمشروع جديد بعد كل مشروع دخل مرحلة الإنجاز النهائي، فهي محاولة لتحقيق هذا الخلود، وهنا تدخل مفارقة مزعجة ومؤلمة بالنسبة للانسان، فرغم تأصُّل هذه النزعة للخلود في ذاته بالفطرة كما يقولون، إلاّ ان وسائل أو ممكنات تحقيق هذا الخلود على مستوى الواقع و الفعل غير موجودة، وما ينجزه الإنسان من مشاريع على وجه الآرض وفي عمق السماء إنّما تحقق له خلوداً صُوريَّاً ليس إ لا ّ.
لقد خدع الشيطان آدم، ولكن ما هي آليِّة الشيطان في ذلك، لقد أغرى آدم بالخلود، بجنّة الخلد، الأمر الذي يشي عن حقيقة كبيرة، ذلك أنَّ الخلود هي النزعة الأصيلة في أعماق المخلوق البشري.
هذه النزعة تصطدم بفقر آليات تفعيلها، آليات إ نتصارها، ولكنَّها تلح على الإنسان، تعمل في داخله، تيار صعب إيقافه أو صدّه، ومن هنا ينشا شي من القلق، فإن هذا الصراع حقيقي وليس وهمي، اطرافه حقيقية، وليست خيالية , صراع بين الهدف الذي يلح فطريِّا وبين الواقع العاجز عن تحقيق هذا الهدف.
فهل نلوم الله؟
في تصوري ان هذا التناقض او التفاوت بين النزعة المذكورة وبين عالم الممكنات نعمة من الله سبحانه، لان إمكانية الخلود الفعلي تسلخ الإنسان من إنسانيته، ثم هذا الصراع بين المستحيل والممكن هو الذي يخلق الصيرورة، لا صيرورة مع الخلود...
تبارك الله...
تبارك الله...
الله والقلق
لا أتحدث عن دور الإيمان بالله في موضوعة القلق، فَلِيَ به رأي خاص، ذلك ان الإيمان بالله هو منبع القلق الخلاّق، القلق على الوجود، القلق على العلاقة با لله ذاته، القلق على المصير الكوني، قد أتكلم به في فر صة أُخرى، ولكن أتحدث عن القلق وعلاقته بالله تبارك وتعالى، فهو سبحانه أكثر قلقا من غيره... يقلق على عباده... على خلقه، ولكنَّه قلق يليق بجلاله وسنائه ورحمته وعطائه.
ألم يفرح سبحانه وتعالى فيما إ ذا إنتصر الانسان على أنانيته؟
إذن هو يقلق إذا إستبدّت هذه الإنانية بالانسان !
كيف؟
ربما نتحدث طويلا عن ذلك.