فوجئت وأنا أقرأ أن المملكة تصرف بطريقة رسمية، أو غير رسمية ( شعبية )، على الدول العربية والإسلامية أكثر من عشرة آلا ف مليون دولار سنوياً على شكل معونات مباشرة أو غير مباشرة.. هل تصدقون ؟!.
مبلغ مثل هذا، كان بإمكانه أن يُساهم في حل الكثير من مشاكلنا التنموية، كالقصور في الخدمات الصحية مثلاُ، فيما لو وجه الوجهة الصحيحة والأمينة. وهنا لا بد من الإعتراف أن السبب يعود في هذا التبذير الغير مبرر الى "الفكر الأممي" الذي كان يُبشرُ به بعض الأخوة العروبيين، ومن ثم الصحويين، وينطلق في طرحه من أن الأمة العربية، أو الأمة الإسلامية، شركاء معنا في الثروة، ولهم حق علينا، على اعتبار أننا وإياهم كذلك أخوة وشركاء في الواقع والمصير، وهذا، كما تعلمنا من التجارب التاريخية، لا يعدو أن يكون إبتزازاً، وهراء، وتهريجاً، بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى. فما زلنا نتذكر، ولن ننسى، يوم إن إكتضت شوارع "غزة" بالمتظاهرين الفلسطسنيين وهي تردد : " بالكيماوي ياصدام " إبان غزو الكويت. كما لن ننسى ما قاله ومازال يقوله عنا أقطاب وأساطين الإسلام الصحوي أو الجهادي ، كأبي محمد المقدسي مثلاُ، وكيف جعلوا من بلادنا ومن صغار شبابنا قنابل موقوتة يفجرونها في البلاد والعباد متى أرادوا وفي أي مكان يشاؤون.
فالسعودية، والثروات السعودية، هي للسعوديين أولاً، ومن ثم لكل ما يُساهم في خدمة السياسة والقوة والنفوذ السعودي في العالم ؛ عربياً كان أو غير عربي، مسلماً كان أو غير مسلم.. فقد علمنا التاريخ، وعلمتنا تجاربنا القريبة والبعيدة، أن "الأخوة العربية" المزعومة لم تكن في حقيقتها سوى "كذبة" كلفتنا كل هذا التخلف الذي نعيشه، ونئن من حضيضه، كما علمتنا الأحداث أيضاً أن "الأممية الإسلامية" المعاصرة كما يطرحها المتسمين بالجهاديين هي الأخرى "أيديولوجية" متطرفة متخلفة بغيضة تنثر الإرهاب والحقد والقتل والدمار والخوف أينما حلت، وأينما إتجهت رحالها.
ولو عدنا إلى التاريخ، إلى تاريخنا القريب، وبالتحديد يوم أن إنطلق الملك عبدالعزيز من الرياض لتوحيد المملكة في بداية هذا القرن، ثم طرحنا هذا السؤال : هل ساهم واحدٌ من العرب، أو من المسلمين، في هذا المشروع ؟، وهل إنتدب أحد من العرب و المسلمين نفسه لنصرة عبدالعزيز في مشروعه ؟، لكانت الإجابة : لا.. بكل وضوح. ومع ذلك انتصرت وحدة عبدالعزيز، وشمخت، وتجذرت، وبقيت، في حين فشلت وسقطت أخريات غيرها.. لذلك يجب أن نتعلم أن قدرنا، وبقاء وحدتنا، هو مع الأسس التي بنى عليها المؤسس مشروعه، تلك الأسس التي كانت ترفع شعار " مصلحة الوطن أولاً ".
وعندما توحدت البلاد، وجاء دور بقائها وتجذيرها واستقرارها، كان لا بد من الإقتصاد، لدعم هذه الوحدة، وترسيخ هذه اللحمة. وهنا أدرك عبدالعزيز أن ذلك لا يتحقق بالشعارات وإنما بالموضوعية. ولأن الموضوعية والمصلحة تقتضي بأن يتحالف مع الأمريكان، لم يتردد لوهلة واحدة من التحالف معهم، خوفاً على وحدة بلاده من الأنجليز الذي كانوا يحيطون ببلاده من كل حدب وصوب، وثانيا لأنه قرأ بذكائه وألمعيته أن المستقبل هو مع الأمريكان، وليس مع المستعمر البريطاني القديم الذي كان لتوه خارجاً من الحرب العالمية الثانية في غاية الجهد والإنهاك. لذلك إتجه إلى الأمريكان تحقيقاً لذات المبدأ : مصلحة الوطن أولاً.
كل هذه المؤشرات يجب أن لا تغيب عنا كسعوديين عندما نحدد سلم أولوياتنا وسياساتنا وتحالفاتنا. فمصالحنا، بل وما يتطلبه بقاؤنا ونمونا ورفاهيتنا، يقضي بأن تبقى " مصلحة الوطن" أمام أعيننا لا تغيب عنها ولو لوهلة، وأن لا ننجرف وراء ديماغوجية الشعارات، فننتقل من "بلاد العرب أوطاني " إلى "جبال الأفغان أوطاني"، بينما أن "وطننا"، لا بلاد العُرب، ولا جبال الأفغان، هو الذي جعل منا شعباً ذو شأن، بعد أن كنا أعراباً جلفاً، نفترش السماء من الفقر، ونأكل الجَيف من الجوع، ونلبس وبر الأباعر وصوف ألأغنام، في عَوزٍ ما بعده عوز.
ولأننا الآن على وشك الدخول إلى "طفرة" إقتصادية جديدة بعد أن وصلت أسعار النفط إلى مستويات قياسية، يجبُ أن نتوخى الحذر، وأن نتعلم من ماضينا، وأن نعيد ترتيب أولوياتنا وبالذات في الصرف والإنفاق، وأن لا ننجرف وراء شعارات العروبيين، ولا مزايدات الصحويين، فلدينا من الإستحقاقات الوطنية، ومتطلبات الإنسان السعودي، ما يجب أن يكون له الأولوية المطلقة في الإهتمام والصرف، فالمآسي التي كلفتنا إقتصادياً حتى وصلت بنا الديون منتهاها بعد غزو الكويت، سببها أيديولوجية "الأخوة العربية".. ناهيك عن مآسينا السياسية، وبالذات العنف والجهاد، والتي جعلتنا والعالم أجمع على طرفي عداء مستحكم سببها أيديولوجية "الأممية الإسلامية" كما يطرحها الصحويون وليس الإسلاميين غير المتحزبين. ودون أن نعترف بذلك سنظل في تقديري مغفلين، ومؤهلين لإعادة أخطائنا من جديد. فالسعودية للسعوديين أولاً وأخيراً، شاء من شاء وأبى من أبى؛ وكفانا إبتزازاً أيها السادة.