دأبت السلطات العراقية الشوفينية المتعاقبة على حكم العراق اطلاق صفة (الانفصاليين) على الشعب الكردي المطالب بحقوقه الشرعية المنتهكة والمغموطة، وطالما طالبت الجماهير الكردية بأدنى الحقوق وأقلها حرصاً على وحدة العراق، وتمسكاً منها بأخوتها الحقيقية مع العرب والتركمان والكلدان والآشوريين في هذا العراق.
وعرف جميع العراقيين مقدار الظلم والدجل والكذب الرخيص التي تتصف بها السلطالت القمعية والمتلبسة اغلبها بالفكر الشوفيني العروبي.
وبقي الشعب الكردي يناضل بالكلمة وبالسلاح وبالمحاور السياسية مع هذه السلطات مبتعداً كلياً عن أتخاذ مسار الانفصال بالرغم من توفر ظروف عديدة تدفع باتجاه هذا الانفصال، القسم منها ذاتي وموضوعي، والقسم الآخر دولي وأقليمي، ومع كل هذا لم يطرح الشعب الكردي قضية الانفصال كواقع على بساط البحث.
وبقيت المسألة الأساسية التي طالب بها الشعب العراقي في شكل السلطة الفيدرالي الذي يمكن ان يكون حلاً منطقياً ومقبولاً للعراقيين بشكل عام بما فيهم الشعب الكردي الذي طالب بالفيدرالية ضمن قرار برلماني بالأجماع في العام 1992.
وأذا علمنا أن الفيدرالية تعني التوحد والالتحام وليس الانفصال، فقد تزامنت المطالبة بتفعيل الفيدرالية وتعريف الناس بها بأصوات انطلقت تدعو الى انفصال مدن الجنوب (البصرة والناصرية والعمارة) عن العراق.
هذا المنطق المرفوض والسلبي، وهذه الدعوات المريضة لاتعني بأي حال من الأحوال المطالبة بالفيدرالية للجنوب العراقي، ولاترسم تصوراً سياسياً لواقع المنطقة، ولاتتفق مع مستقبل الشعب العراقي، هذه المطالبات المنفعلة تعني خلق كانتونات ودويلات هشة لاقيمة لها تستند على الأطار الطائفي والشوفيني تنطلق من بعض الأصوات التي اختلطت عليها معالم معرفة شكل الدولة والمستقبل الديمقراطي – الفيدرالي للعراق.
ليس من الأنصاف أن يعير العراقي الاهتمام بالدعوات التي اطلقها رجل دين تدفعه رغبات شخصية مبتورة وليس لها سند من المنطق والواقع حول أنفصال محافظات الجنوب عن العراق، فهذه الدعوات تبرهن بالملموس على سوء الفهم السياسي والدستوري والقانوني لهذا الصوت، بالوقت الذي تمثل نبل الشعب الكردي وحرصه على مستقبل العراق.
في الفترة الأخيرة طرحت عدة مشاريع على بساط البحث والمناقشة، منها الفيدراليات الثلاثة كردستان والوسط والجنوب، وطرحت مشاريع دستورية أخرى ستكون مدار البحث والاهتمام من المهتمين والمشتغلين في رسم الدستور العراقي المستقبلي، وستكون جميعها مطروحة أمام الجماهير العراقية للتصويت الحر واختيار ماتراه مفيداً لمستقبل العراق وواقعه، ولكن ليس من بينها الانفصال قطعاً.
المحافظات الجنوبية وغيرها ليست معروضة للتجزئة والتفتيت والاقتسام، كما أن هذه المحافظات لاتخضع لأحلام ورغبات وانفعالات اشخاص واحزاب، ولايمكن لحريص على مستقبل العراق لايرى ابعد من نفسه أن يفكر بتقسيم العراق بهذا الشكل المروع.
الفيدرالية التي تعني التوحد تخالف الانفصال والتقسيمات الطائفية والمذهبية والدينية، ولن تكون في العراق المستقبلي بالنتيجة سوى الديمقراطية والفيدرالية والمجتمع المدني.
وهذه الأفكار التي تنم عن قلة فهم سياسي او عدم ادراك في العمل الدستوري ومستقبل العراق تنطلق من بعض الأصوات التي لاتجد لها قاعدة أو تأييد شعبي بقدر ما لها من قوة وأرهاب ضمن ساحة التفاعلات العراقية، فالعراق بحاجة الى فهم واقعي ودراسة لتجربته النضالية العريضة، والعراق بحاجة الى صوت عقلاني يفهم واقع القضية الكردية التي تمتد لأكثر من 80 عاماً من التأسيس والنضال في سبيل تحقيق الديمقراطية ودولة القانون.
لذا فأن الفيدرالية التي يطالب بها العراقي لاتتشابه مع التقزيم والتمزيق الذي يريده البعض في تشكيل دويلات ومستوطنات وكانتونات هشة وتابعة لدول اقليمية تحت شتى المزاعم والتسميات، الفيدرالية التي طالب بها اهل العراق وناضلوا من اجلها مصدر القوة الحقيقية للتوحد وضمان لمستقبل العراقيين، والفيدرالية التي نقصد تشخيص حقيقي وملموس لهوية شعبنا الكردي وتأكيد لكيانه القومي من خلال اقرارنا بمبدأ حق تقرير المصير التي أوردتها الشرائع ومباديء حقوق الأنسان.
والفيدرالية التي يريدها اهل العراق تشكل المبادئ الأساسية والإطار الدستوري الذي يرسم الحقوق المتوازنة والمتساوية التي ينبغي ان تكون بين جميع اطراف الأتحاد، والفيدرالية التي نريد رداً على عدم صدقية السلطات الشوفينية التي تعاقبت على حكم العراق وخذلت جزء مهم وفاعل من شعبنا في العراق حين انكرت حقوق الشعب الكردي وحقيقة المساواة الدستورية.
ماننتظره في المستقبل القريب انشاء الله ليس تفتيتاً للعراق ولاأضعافاً لمكونات شعبه وتركيبته القومية المتجانسة، انما تأكيد على قدرة العراق في التوحد والخلاص من الظلم والغبن وسبيل قانوني ودستوري لضمان حياة آمنة ومستقرة للشعوب التي تسكن فوق ارض العراق.
الفيدرالية خلاصنا من الأنظمة الشمولية ودحراً للأفكار الشوفينية التي حاولوا ان يزرقوها في دماء شعبنا وأن يدسوها مع لقمة العيش، وبالوعي السياسي والنضال والكفاح المستمرين بقي العراقي مصراً على معرفته سبل خلاص شعبه ورؤيته الواضحة في المستقبل بعيداً عن التطرف واستغلال الآخر وغمط حقوق الآخرين، بعيداً عن مفاهيم عتيقة أمتلأت بها كتب التربية والجغرافية تتحدث عن تحقيق أحلامنا دون الآخرين، وعن التغني بحقوقنا دون الآخرين.
الفيدرالية التي نريد المشاركة السياسية الحقيقية والمساهمة الفعالة لجميع القوميات الموجودة فعلاً في العراق دون الانتقاص من أي واحدة منها، لذا سيسير الجميع بخطوط متوازنة وبنصوص دستورية تخضع لإقرار الشعب العراقي وبموافقته لتصير دستوراً للبلاد.
الفيدرالية الرد الأقوى على دعوات التمزيق والانفصال ودويلات المحافظات التي لفرط سذاجة البعض يريدها، ولم تصل الأمور بالعراق ليكون قطعاً ممزقة أو أوصال تتقاسمها دول الجوار وتعيث فيها التجمعات المتحجرة والمنغلقة أفكارها قصيرة النظر، ويكفي أن شعبنا الكردي بقي أميناً على أصراره النقي للمطالبة بالفيدرالية طيلة الزمن الطويل الذي بقيت به كردستان العراق بأقليميها المحررين من سلطة الطغيان والظلم والدكتاتورية في العراق، وبالرغم من كل المعطيات والأسباب والظروف الأقليمية والدولية، الا أن الارادة الكردية المتمثلة بقرار البرلمان الكردي المتمثل بالمطالبة بالفيدرالية كخيار يريده الشعب الكردي منذ السنوات الأولى لتحرر كردستان العراق من سلطة صدام البائد.
الفيدرالية تعني تحقيق الديمقراطية للعراق وهي انجاز العراقيين ونتيجة التضحيات الجسام التي قدمها الشعب العراقي بكل أطيافه وقومياته، وأن نستعيد مامر علينا من تجارب السلطات السياسية التي تعاقبت على حكمنا وأن نستخلص من تلك التجربة المريرة وما احدثته من نتائج كارثية وما خلفته من ضرر بليغ وجسيم على الحياة والمستقبل في العراق.
وأذ تتزامن دعوات الانفصال مع الدعوة لعدم تقبل الفيدرالية وأشاعة مفاهيم مضادة لحقوق الأنسان من قبل مجموعات ليس لها ذلك التأثير الفعال في الحياة العراقية، ولافي تاريخ العراق السياسي، قوى طارئة وطفيلية لاتلبث ان تنزوي في زواياها متحجرة كالسابق، فأن دعواتها بالانفصال وأن كانت رخيصة ومهلهلة، فانها بالضرورة تكشف عن حجم الخراب والخواء الذي يجتاح نفوسها حين تتهم الشعب الكردي بالانفصال.
وأن هي طالبت بالانفصال فأنها من أعتقادها بأن مايحق لها لايحق للأخرين، كما أنها من فهمها أن الانفصال يحقق لها مكانة ومستقبل، ومن فهمها أن الفيدرالية هي تمزيق العراق وتقسيمة بين الأطراف.
أن هذه المفاهيم المبتورة التي ابتلي بها الشعب العراقي، ولايدركها سوى الحصيف المتمعن في واقع العراق ليجد أن الفيدرالية التي نطالب بها انما هي ليست فقط تحقيق للحقوق واقرار بمباديء العدالة والمساواة بين الناس، انما هي الضمان الوحيد لقوة العراق واستقراره وتطوره في المستقبل.
الفيدرالية الرابطة الطوعية بين الشعوب العراقية على أسس من الانسجام والتوازن والحقوق بقصد ايجاد سبل قانونية ودستورية مشروعة تنبثق من خلالها شكل الرابط الطوعي بين هذه الشعوب والأمم.