أصول إشكاليات الحالة العربية وآفاق تطورها (3)


إنّ الصراع العربي- الإسرائيلي عميق الجذور، متعدد الجوانب، بعيد الأثر في العلاقات العربية والإقليمية والدولية. بل لا نغالي إذا وضعناه في مرتبة صراع استرتيجي حضاري، جعله يكتسب عدة مسلمات من أهمها : أنه، في العمق، صراع بين مشروعين متنافيين، ومتناقضين جذريا، مشروع التقدم العربي بمختلف عناصره ومستوياته، والمشروع الصهيوني ـ الإمبريالي الرامي إلى تأبيد واقع التفتت والتبعية والتجزئة، بل والعمل على تفتيت الكيانات القطرية القائمة نفسها، وإطلاق سيرورة الانحلال والتفسخ في الجسد العربي وصولا إلى تمزيق أوصاله إلى شيع وطوائف متعادية، ومذاهب وإثنيات تدور في فلكه، بما يضمن له مزيدا من الاستقرار والتمدد. فمنذ نشوء دولة إسرائيل قامت خمسة حروب كبرى بينها وبين العرب، في السنوات 1948 و 1956 و 1967 و 1973 و 1982 وآخرها المجازر الصهيونية الهمجية في الضفة الغربية وقطاع غزة.
ومن حقائق التاريخ أنّ زرع إسرائيل في قلب العالم العربي هو مشروع استعماري، ومن هنا نستطيع أن نحدد طبيعة الوجود الإسرائيلي في المنطقة بسمتين أساسيتين :
1 ـ أنها مشروع استيطاني قائم على طرد السكان الأصليين لفلسطين بالقوة من وطنهم، وإحلال سكان آخرين تم جلبهم من يهود كافة أنحاء العالم، أي أنها كيان كولونيالي.
2 ـ أنها القوة الضاربة للإمبريالية في العالم العربي، إذ توجد روابط عضوية بين الإمبريالية العالمية بقيادة الولايات المتحدة الأميركية وبين دولة إسرائيل. ويتجسد ذلك من خلال الوظائف العديدة التي قامت/وتقوم بها : تأمين حضور عسكري دائم في قلب العالم العربي، يحمي مواقع السيطرة الاستعمارية عليها من الخارج، والتحكم بنقطة التقاطع بين الطرق التجارية الأساسية وخطوط النفط والمواقع الاستراتيجية التي تخترق المنطقة العربية، من خلال وضع حارس صهيوني مدجج بالسلاح عند نقطة التقاطع هذه، لمنع تحولها نقطة اندماج عربي مفتوح الآفاق على إمكانات تحقيق الاستقلال الاقتصادي والقومي وبناء مجتمعات أو وحدات عربية تضرب توازن القوى المطلوب استمراره قائما في مصلحة الإمبريالية.
ونعتقد أنه لم يكن ليغيب عن بال القوتين الاستعماريتين الأساسيتين، بريطانيا وفرنسا، اللتين تحكمتا بمصير العالم العربي حتى نهاية الحرب العالمية الثانية، ولا عن بال الولايات المتحدة الأمريكية فيما بعد، أنّ هناك معضلة لابد أن تحل إذا ما أريد لشروط السيطرة الاستعمارية على المنطقة العربية أن تتوطد وتتجدد على الدوام، وهي معضلة توفير العازل المستقر بين جناحي العالم العربي الآسيوي والأفريقي.
لقد كان الخطر الصهيوني في فلسطين دائم التأثير في حركة العمل العربي، منذ " وعد بلفور" على الأقل، بل كان من العوامل الفاعلة في إطلاق سيرورة العمل العربي، لارتباطه بعملية التجزئة في المنطقة العربية، فضلا عن ارتباط الحركة الصهيونية ببريطانيا. غير أنّ قيام دولة إسرائيل كان الواقعة السياسية الأهم تأثيرا في الحركة العربية، والأكثر دفعا لعملها نحو محطات جديدة. فقيام إسرائيل على أرض فلسطين نقل الخطر الصهيوني من طور الاحتمال إلى طور التحقق، وأعطاه شرعية دولية عبر قرار التقسيم لعام 1947، مخرجا إياه من معنى" وعد " استعماري يسهل نقضه إلى " حق " تعترف به الأمم. وخلق طابعا جديدا من الكوابح الاستعمارية للتوحيد العربي، من خلال تقطيع أوصال المنطقة العربية، وإقامة عازل جغرافي بين مشرقها ومغربها.
لذلك رأينا كيف أنّ هذه القضية شكلت إحدى القوى الدافعة وراء التغيّرات التي شهدها العالم العربي، خلال مراحله المختلفة على امتداد نصف القرن الماضي، وكيف أنها صاغت خطابه السياسي، ومثلت حجر الزاوية فيه.
وليس من شك في أنّ العمل العربي من أجل القضية الفلسطينية كان عاملا هاما في تقرير ملامح الفكر السياسي العربي المعاصر، إذ أنّ الصراع العربي ـ الإسرائيلي طبع العالم العربي بخواص معينة، فهو الذي دفع القوات المسلحة إلى الاستيلاء على السلطة في العديد من الأقطار العربية، بمعنى أنّ التحدي الإسرائيلي لعب دورا مركزيا في" عسكرة " بعض الأقطار العربية، وإكساب الأيديولوجيا القومية والفكر السياسي العربي صفات هـــذه " العكسرة "، مما ترك آثارا سلبية على مجمل العمل العربي المعاصر.
وفي المقابل، فإنّ المجتمع الإسرائيلي، على الرغم من تناقضاته، يمتلك الكثير من ميّزات المجتمعات المتقدمة، سواء على صعيد مؤسسات المجتمع السياسي والمجتمع المدني أو تطور الاقتصاد، خصوصا في القطاعات المستقبلية مثل : قطاعات الاتصالات والبرمجة والتكنولوجيا الدقيقة وتطبيقاتها في جميع الحقول. ومن مؤشرات هذا التقدم أنّ إسرائيل تضم 135 مهندسا لكل 10000 مستخدم في سوق العمل، مقارنة بمعدل 85 للولايات المتحدة الأمريكية و70 في اليابان. ففي مطلع القرن الحادي والعشرين تعمل إسرائيل على تطوير أشكالها ووسائلها التقليدية، من خلال إضافة أشكال ووسائل جديدة تتلاءم مع معطيات العالم الجديد. إذ تعتقد أنها تتمتع بفرصة إجراء تغيير شامل في الشرق الأوسط، انطلاقا من قدرتها على صياغة استراتيجية سلام مع العرب، تسمح لها بالمبادرة الاستراتيجية وإعادة بناء الصهيونية.
بحيث أنّ السلام الإسرائيلي الشامل لا يعني أنّ الصراع قد توقف، بل أنه قد تحول في طبيعته وأدواته لا أكثر، وأنّ حربا أخرى، من نوع جديد، يمكن تسميتها " حرب السلام " ستبدأ على الفور في كافة المجالات الاستراتيجية : الاقتصاد والتكنولوجيا والسياسة والثقافة والإعلام وغيرها. بحيث أنّ العرب سيجدون أنفسهم " في مواجهة مجتمع إسرائيلي ديناميكي وذي طاقات هائلة، مالية وديبلوماسية وتجارية وتكنولوجية، وهو مجتمع ملتحم بالاقتصاد الغربي، وتحرك شركاته طموحات كبيرة للتوسع في المجال الحيوي العربي والتحول إلى أكبر قوة اقتصادية في المنطقة، ليس فقط من خلال الزخم الذاتي للاقتصاد الإسرائيلي بل من خلال قدرة الشركات الإسرائيلية، مدعومة بقوة المال والإعلام اليهوديين في العالم وثقافة المؤسسات والخبرات الاستثمارية والإدارية والتسويقية، على التحرك بسرعة واحتلال مواقع متقدمة في الأسواق العربية، وبناء رؤوس الجسور إلى هذه الأسواق في فترة قصيرة نسبيا".
إنّ تأمل ما يزيد عن نصف قرن من الصراع العربي ـ الإسرائيلي، من منظور المقارنة بين الأدائين العربي والإسرائيلي، والمقارنة بين مسار ذلك الصراع ومسار صراعات أخرى عرفها العالم في الفترة نفسها، يقودنا إلى استخلاص عدد من الدروس الأساسية :
أولها، أنّ قوة أي مجتمع وقدرته على مواجهة التحديات الخارجية، تنبع أساسا من داخله، أي من قوة بنائه السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي قبل أي شيء آخر. مما يعني أنّ قدرة الأمة العربية على التعاطي مع التحدي الإسرائيلي بنجاح، ترتبط بوجود نظم سياسية ديمقراطية، تعبر بحق عن إرادة شعوبها، وقادرة على تقديم أفضل أفرادها للقيادة واتخاذ القرار، وصيانة حقوق الإنسان وحرياته الأساسية، إضافة إلى وجود نظم اقتصادية رشيدة وفعالة، تستلهم الحقائق العلمية، وتتزايد قدرتها على الادخار والاستثمار والإنتاج والتصدير أكثر من قدرتها على الاستهلاك والاستيراد. ووجود مجتمع مدني فاعل يحشد طاقات الأفراد ويوظف قدراتهم لخير مجتمعاتهم، ووجود ثقافة لا يمنعها ارتباطها بجذور وطنها من التفتح والتفاعل مع ثقافات الآخرين وإبداعاتهم.
وثانيها، أنّ النجاح في الصراع ضد الأعداء يرتبط بالقدرة على استخدام جميع الأساليب، على كل الجبهات. فالأسلوب العسكري ليس هو الأسلوب الوحيد بل أحيانا لا يكون هو الأكثر فاعلية. ويعني ذلك، أنّ نجاح العرب في صراعهم مع إسرائيل يرتبط بقدرتهم ليس فقط على حشد الجيوش وتكديس الأسلحة، ولكن أيضا على المواجهة السياسية والديبلوماسية والإعلامية في العالم كله.
وثالثها، أنّ الشحن العاطفي والنفسي للشعوب، لا يمكن أن يحل محل التقديرات والحسابات العقلانية للنخب والقيادات. مما يعني أنّ نجاح العرب في التعاطي مع الخطر الإسرائيلي لن يتحقق بمجرد الانسياق وراء أكثر الشعارات حماسا وتطرفا وعاطفية، وإنما بالتقدير العلمي والموضوعي لعناصر القوة والضعف، مما يمكّن من تحقيق الأهداف بأفضل صورة ممكنة.
لقد شكلت القضية الفلسطينية أحد أهم قضايا العمل العربي المعاصر، وكان لذلك انعكاسات إيجابية وسلبية في آن واحد. فإذا كان الصراع العربي - الإسرائيلي عامل توحيد للعرب في مواجهة التحدي الإسرائيلي، فإنه جلب أيضا مضاعفات سلبية كان من أهمها الانجراف نحو " التسيس الانفعالي " قبل سن " الرشد السياسي "، الذي تبلغه المجتمعات عندما تجتاز الحد الأدنى من بنائها الوطني/المدني، الذي يقوم على اندماج شعوبها في بنية مدنية متحضرة تتجاوز البنى التقليدية ما قبل الوطنية.
وهكذا، جرت عملية " عسكرة " العديد من الأقطار العربية و" أدلجتها " عن طريق الحركات الشمولية الكليانية ذات النهج شبه الفاشي، وتم قطع التراكم التحضري والتعليمي المتفتح الذي شهدته هذه الأقطار في المرحلة الأولى من نيلها الاستقلال الوطني. وتحت شعار" لاصوت يعلو فوق صوت المعركة " تم القفز عن أوجه القصور الذاتي العربي في المستويات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية، وأصبحت الأولوية المطلقة للتعبئة العسكرية. مما عكس قصور وعي النخب الحاكمة، التي عزلت القوة العسكرية عن عناصر القوة الأخرى. وبذلك تحولت المعركة من معركة ضد التأخر العربي الشامل إلى وجه من وجوهه، ألا وهو تمكّن الحركة الصهيونية من إقامة كيانها العنصري في فلسطين، والتوسع على حساب الأرض العربية، بل إنكار حق الشعب العربي الفلسطيني في تقرير مصيره وإقامة دولته الفلسطينية المستقلة على 22% من أراضي فلسطين التاريخية.
وفي هذا السياق، فإنّ النضال الوطني الفلسطيني يجتاز اختبارا عسيرا منذ زلزال 11 أيلول/سبتمبر 2001 الذي مست تداعياته القضية الفلسطينية، حين أُريد لها أن تكون ضحية المغامرة الإرهابية الشنيعة في خضم الخلط بين مفهوم الإرهاب ومفهوم المقاومة الوطنية المشروعة والدفاع عن النفس. فلم يسبق، منذ زمن بعيد، أن حظي جيش محتل بهذه الدرجة من الحرية في ارتكاب المجازر وتدمير الممتلكات وتنفيذ الاغتيالات بحق شعب تحت الاحتلال، كتلك الحرية التي حظي بها جيش الاحتلال الإسرائيلي، غير آبه بالمرة لإمكانية المحاسبة الدولية، ولو بصورة معنوية، أو على المستوى الأخلاقي.
لقد كان بالإمكان تجنب الوقوع الفلسطيني في هذا المأزق لو كانت آليات العملية السياسية وصنع القرار السياسي منتظمة وفاعلة فلسطينيا، وليست محتقنة ومعطلة لا تسمح بوجود حوار داخلي ومشاركة سياسية فعلية كان بإمكانها استدراك الأمر قبل الولوج إلى دائرة المحظور. وكان جديرا بالمقاومين الفلسطينيين أن يعوا التغيير الذي طرأ علي المجتمع الدولي بما جعله يتحول إلى رفض واستنكار العنف بكل صوره، ومن ثم كان ينبغي على الجهاديات الفلسطينية أن توقف أعمال العنف ضد المدنيين، مهما كانت ضراوة الاستفزاز الإسرائيلي. فلقد كانت المعركة بعد الحادي عشر من أيلول/سبتمبر هي معركة إعلامية بين صــــورة " الإرهاب " وصورة السلام، بين طفل يحتمي بحضن أبيه الأعزل من رصاص الجنود الإسرائيليين الذي أرداه قتيلا، في مقابل صورة أشلاء دامية لمدنيين تتدلى أطرافهم من الحافلات، ليراها العالم كله وهو يعرف أنهم مدنيون أبرياء، حيث ترتبط صورهم في أذهان الملايين بصور أولئك الأبرياء الذين اضطروا إلي القفز من أعلى برجي التجارة العالمية في نيويورك هربا من الموت حرقا إلى الموت سقوطا.
فإذا كانت " الحرب الباردة " قد سمحت لنزاعات وصراعات محلية وإقليمية بالاستمرار والتصاعد كلما كان ذلك يخدم غرضا للقوى المهيمنة، ففي ظل " الحرب ضد الإرهاب " لن ينقسم العالم - على الأرجح - معسكرات مثل تلك التي شاهدناها خلال القرن العشرين، لأنّ هذه حرب جاءت في وقت تهيمن فيه دولة عظمى واحدة، إذ جرت في ظل هيمنة الولايات المتحدة الأمريكية التي قادت هذه الحرب وأدارتها كما وضعت الكثير من قيمها وقواعدها وأنظمتها وأشكالها.
ولا شك أنّ الحل الذي سيفرضه ميزان القوى الحالي بين العرب وإسرائيل يستوجب التعايش مع التناقضات لفترة زمنية قادمة، مرهونة بمدى تقدم العرب ووحدتهم وقدرتهم على مواكبة العصر في مختلف الميادين السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والعلمية والتكنولوجية والعسكرية ، باعتبار أنّ محصلتها تشكل عناصر القوة العربية.
إنّ السلام الحقيقي، العادل والشامل، يتطلب هزيمة الصهيونية إذا أردنا للشعبين الفلسطيني واليهودي أن يعيشا مواطنين متساويين في الحقوق والواجبات في مجتمع عصري تسوده الحرية. إنّ إسرائيل، وفقا للحتميات الجغرافية والديمغرافية، لن تستطيع أن تظل جسما غريبا في المنطقة إلى الأبد، ومن ثم فالمستقبل هو لدولة ديمقراطية تتساوى فيها حقوق كل مواطنيها.
ومن المؤكد أنّ العامل المفتاحي هو الوضع العربي ذاته، فمن البؤس توجيه اللوم إلى العوامل الخارجية فيما أصابنا من ضعف وعجز ومهانة، بحيث نبدو عاجزين عن أي شيء غير الإدلاء بتصريحات الاستنكار التي لا أمل في أن تؤدي إلى أي تغيير في الوضع المأزقي الحالي. وفي هذا السياق، نشير الى ان السلم الذي يقترحه المجتمع الدولي لا يقتصر على وقف الحروب على الحدود بين الكيانات السياسية، بل هو مسار معقد من التبدلات الجوهرية في السياسات العامة، ويحفر عميقا في بنيات الأنظمة، ويقوم على تحويلها باتجاه مقتضياته، من الأيديولوجيات إلى المؤسسات السياسية وأشكال التعامل الاقتصادي المتنوعة، ومن المس بهياكل الأمن وأجهزته ووظائفه، إلى تنظيم الثروات الطبيعية واستغلالها. وهذا نسيج يفترض أنه لا يصدر عن قرارات الحكومات، بمعزل عن المجتمعات التي تسوسها. بل هو يتوطد من خلال معطيات ملموسة يجري بناؤها لتأمين الثقة، وتوفير الضمانات الآيلة إلى تثبيت الاستقرار، ولا تقوم بأود هذا السلم إلا مجتمعات منفتحة على المشاركة السياسية الواسعة.


كاتب وباحث سوري مقيم في تونس
[email protected]