العولمة والمتغيرات العربية(2/2)

الثورة الليبرالية على النطاق العالمي
ان أبرز ما قاله فوكوياما في هذا المجال هو أن ضعف الأنظمة الاستبدادية اليمينية وهشاشتها ماثلاً في فشلها بالتحكم في المجتمع المدني. وعليه، فانها عدوة لدودة لذلك المجتمع فإن كانت قد وصلت في القرن العشرين الى الحكم بنوع من التفويض كي تعيد النظام الى نصابه، أو كي تفرض الانتظام في الحياة الاقتصادية، فإن الكثير منها لم يصادف نجاحاً أكبر مما لاقته الأنظمة الديمقراطية السابقة عليها فيما يتصل بتشجيع نمو اقتصادي مطرد أو خلق وعي بالنظام الاجتماعي. وأما تلك التي صادفت النجاح فقد ارتد كيدها الى نحرها من خلال موجة الانقلابات العسكرية التي نسفت كل التجارب الليبرالية ( المزيفة )، ولقد نحر الانقلابيون العسكريون انفسهم بانفسهم حيث ان المجتمعات التي تربعت تلك المجموعات العسكرية على قمتها بدأ أفرادها يشبون عن الطوق بارتفاع مستوى تعليمهم ومعيشتهم، وبتحولهم الى طبقة متوسطة بورجوازية مال الشباب دوما للافكار التقدمية تحت مانشيتات متنوعة مثل: الشيوعية والبعثية والقومية والناصرية والحركية.. الخ وهذا ما حدث بالذات في كل من مصر والعراق وسوريا والجزائر وهي من البلدان التي اعتبرتها من الدواخل لا الاطراف! في حين بقيت التجارب الليبرالية تعكس اشكالا مختلفة من عوامل النجاح والاخفاق في بلدان مثل تركيا والاردن والمغرب والكويت.. وبرغم تنوع الاتجاهات والتيارات وخطورة بعضها على الاوضاع في فترات عدة من القرن العشرين الا ان عناصرها لم تتسلم السلطة ابدا باسم قائد او حزب او نضال..
وإذ بهتت في الأذهان ذكرى الظروف الطارئة والصعبة التي بررت عربيا ودينيا في وقت ما قيام حكومات ( ثورية) تحت اي واجهة ايديولوجية سواء كانت وطنية ام قومية ام شيوعية ام اسلامية وسواء كانت باثواب مدنية او عسكرية كما خدعت الملايين بها في القرن العشرين، فان الصورة والمضمون لابد ان يتغيرا تغييرا جذريا في القرن الواحد والعشرين، اذ لم تعد تلك المجتمعات مستعدة كما كانت في الماضي لاحتمال حكم لا يشترك فيه الجميع ومن خلال العملية الانتخابية التي لابد ان يتعود عليها البشر، فضلا عن تعوده على قبول الرأي الاخر مهما كان نوعه. هنا لابد من طرح هذا تساؤل عما اذا كان ثمة تاريخ عالمي للبشرية يأخذ في اعتباره تجارب كافة العصور وكافة الشعوب؟
انه ليس سؤالاً جديداً. فالسؤال قديم جداً وان كانت الأحداث الأخيرة تضطرنا الى اعادة طرحه من جديد.وقد كانت اكثر محاولات كتابة التاريخ العالمي جدية ومنطقية ومنذ البداية ان المحور الرئيسي للتاريخ هو نمو الحرية، من خلال تنمية الحرية في الضمائر وغرسها في الاذهان والنفوس ونشرها في المجتمع بعد ذلك.. فليس التاريخ سلسلة عمياء من الأحداث وإنما هو كل ذو مغزى نمت فيه أفكار البشر حول طبيعة النظام السياسي والاجتماعي العالمي ومضى بها الى غايتها من خلال سيادة القانون ومتغيرات العصر، فان كنا اليوم قد بلغنا مرحلة من الشيخوخة الحضارية لا نستطيع معها ان نتخيل عالماً شديد الاختلاف عن عالمنا او طريقة ظاهرة وواضحة يصبح المستقبل بها افضل بكثير مما لحق فيه، فعلينا أيضا أن نأخذ بعين الاعتبار احتمال لا ان يكون التاريخ قد بلغ نهايته كما يقول فوكوياما، بل ان يكون التاريخ ممزقا بين مختلف الاجناس البشرية كي يبدأ فصلا حافلا بالاحداث المؤلمة التي تصنعها اليوم آخر تكنولوجيا العصر القاسية والتي كانت نتاج حقيقي من منتجات القرن العشرين وخصوصا تلك التي حفلت بها الحروب العالمية والاقليمية والمحلية والاهلية.


الآليات المعتمدة دستوريا: جواب على سؤال قديم
هل بوسعنا كتابة تاريخ للعالم من وجهة نظر عالمية نستطيع من خلالها تأطير الادوار الاسيوية والافريقية، اي باختصار توضيح ادوار عالم الجنوب في سيرورة التاريخ العالمي؟
ولكي نجيب على هذا التساؤل لابد ان نستحضر جملة مبادىء تكون بمثابة موجهات منهاجية منها ان نقدم تاريخا عالميا للعالم بأثواب ومضامين محايدة، انها حاجة ضرورية وأساسية ربما يتبناها احد الاجيال القادمة، وهو عمل من اجل المستقبل يأتي في خضم المتغيرات التي ستشهدها مجتمعاتنا القادمة التي ستغدو في مركزية جغرافية العالم وتتوسط ثلاث قارات قديمة وتختزن مواريث حضارات وثقافات متعددة ومتنوعة.. ومن المتوقع ان لا يجازف العرب والمسلمون من حولهم بعبء هذه المهمة في كتابة التاريخ العالمي قبل الشروع في معرفة كل من تاريخ العالم الجغرافي القديم لكل من قارات: آسيا واوروبا وافريقيا. ان مثل هذه المهمة الاستراتيجية المستقبلية بحاجة الى مناخ جماعي ومعرفي وفلسفي مشبع بالنزعات الحديثة التي من اهم ركائزها طبيعة الخطاب التاريخي الموجه الى العالم والذي يبرز كل ما هو كائن على ضوء الغاية النهائية للتاريخ.
إن هذا التوقع غير منطقي ومثالي وغير قابل ابدا للابحار فيه حيث أنه يمثل تجريداً يغفل تفاصيل التاريخ ويتجاهل طبيعة نسجه، ويسقط كل النزوعات وآثار البقايا والرواسب على اي خطاب يوّجه.. كما ان ليس له القدرة في مناقشة الاخر وتسفيه آرائه وافكاره وما يستخلصه من بعض النتائج والاستنتاجات الخطيرة الخاصة بعالم الجنوب. وعليه، فغالباً ما ينتهي التفكير او الرأي او المقترح بتجاهل شعوب وحقب بأسرها تشكل معاً عصر ما قبل التاريخ او حتى تكوينات معينة في العصور التاريخية سواء كانت كلاسيكية ام وسيطة ام تلك التي تميز العصر الحديث بكل جزئياته وضخامته. ان التاريخ العالمي ما هو إلا أداة ذهنية ليس بوسعها أن تحل مكان المقدسات التي عرفها البشر وذلك جراء عدم الثقة فيصبح من كتب ذلك التاريخ ضحية من ضحايا التاريخ!!


لا ديمقراطية بدون فصل حقيقي بين السلطات وقطيعة معرفية بين المجتمعات وتواريخها:
إن رغبة الإنسان في الإنتاج و الاستهلاك هي التي تدفعه إلى الهجرة من الريف إلى المدينة، وإلى العمل في المصانع الكبيرة أو الإدارة البيروقراطية الكبيرة دون العمل في الريف، وإلى أن يبع طاقاته لمن يعرض الأجر الأعلى دون الاستمرار في صنعة آبائه وإلى نيل حظ من التعليم والإذعان لمواعيد العمل. ان الاحساس باهمية الزمن وثمنه يؤدي بالضرورة الى الاحساس بالقطيعة بين الذات والاخر فيعدو حرا لا تابع له، ويؤدي بالضرورة الى القطيعة بين المجتمعات وتواريخها مهما كانت تلك التواريخ مجيدة زاهرة ام قاهرة قاحلة.. فالقطيعة المعرفية لابد لها ان تتأسس من اجل احداث وعي بمسألة جدا ضرورية ندعوها الفصل بين السلطات، وان يتعلم الانسان عندنا بأن ارتباطه الاساسي بدستور بلده فهو الذي يحدد له حقوقه وواجباته، بدءا باكبر رأس في البلاد، نزولا الى اصغر مواطن فيها.


الهجرة الداخلية والخارجية:
كم من الطاقات البشرية الهائلة في بلادنا العربية مهاجر إلى استراليا ونيوزيلندا أو اوروبا وبالذات الجزء الغربي والولايات المتحدة الأمريكية ولو سألنا أنفسنا ما هو السبب؟ لأدركنا أن دعم الطاقات البشرية ذات العقول العلمية والقدرات والمواهب العامة هو الذي يحفزها على الهجرة.. ولقد ازدادت اعداد المهاجرين من غربي آسيا نحو الغرب بشكل مذهل في السنوات الاخيرة. اما الهجرة الداخلية، فهي محدودة ومختصرة وخصوصا على دول الخليج العربي،ولكن ليس للاستقرار والتجنس، بل من اجل البحث عن فرص عمل وتحسين ظروف العيش الاقتصادية. ويجد المهاجرون من ابناء المنطقة الى الغرب ملاذا لهم يحميهم من المتاعب والاضطهاد والفاقة والحقوق الانسانية، بل يجد الرفاه والخدمات فما يلبث المهاجر العربي أن يرى النقود ومستوى المعيشة الراقي حتى ينسى بلده وكم هو بحاجة إليه مع أنه يعجز عن توفير له حياة راقية كما هي متوفرة له في خارج بلده.


الصراع من أجل نيل الاعتراف
في البدء كانت معركة حياة أو موت من أجل المنزلة الخالصة
الدولة العامة والمتجانسة.

أن الدولة الليبرالية دولة عقلانية لأنها تحقق مصالحة حقيقية بين كل القوى السياسية والاجتماعية وتعترف بها اعترافا دستوريا، فضلا عن كونها تعيش حياتها وتتطور ضمن هذه المطالبات المتنافسة وذلك على الأساس الوحيد المقبول من الجميع وهو هوية الفرد باعتباره كائناً بشرياً. أيضاً أن على الدولة الليبرالية أن توفر الإعتراف بجميع المواطنين لأنهم بشر لا باعتبارهم أعضاء في جماعة وطنية أو عرقية أو جنسية معينة. كما أنه و الأهم يجب أن تكون متجانسة فتخلق مجتمعاً لا طبقات فيه يقوم على أساس إلغاء الفوارق بين السادة و العبيد. من الواضح ان يزداد وضوح عقلانية هذه الدولة العامة والمتجانسة متى أدركنا أنها تقوم على أساس من المبادئ الصريحة المعلنة، كتلك التي تتبناها المؤتمرات الوطنية من اجل تطبيق المسائل الدستورية والتمكين من سلطة الدولة الحديثة التي لابد ان تجدد اساليبها من حين الى آخر تاركة تقاليدها القديمة.. اما الدين، فهو يمثل بالنسبة لها رمزا روحيا واخلاقيا من دون ان تغرق الدولة بين مقتضياته وبين مسألة الفصل بين السلطات.. وستكون النتيجة هي التي يتفق فيها المواطنون على القاسم المشترك الذي يجمعهم والذي تجسده الشروط الواضحة التي سيعيشون معاً بمقتضاها.
هكذا، نجد ان الدولة الحديثة التي تعمل على خدمة مجتمع ما لابد ان تجعله في مصافها بكل حيوية ونشاط، فهي إذن تمثل صورة من الوعي العقلاني بالذات حيث أدرك الآدميون في المجتمع لأول مرة طبيعتهم الحقه، وكان بوسعهم تكييف الجماعة السياسية لتقف مع هذه الطبيعة. أن الرغبة في الإعتراف هي الحلقة المفقودة بين الإقتصاد الليبرالي والسياسة الليبرالية، وان من مهمات واجبنا أن ننظر في ما هو ممكن من اجل تحقيقه وفرض اسسه بعد ان يتقبله الجميع وتبدأ هناك حقيقة رغبة النفس في نيل الإعتراف. يقول هيجل في مقدمة كتابه (فلسفة الحق ) إن الفلسفة هي زمانها كما يدركها الفكر وأنه ليس بوسع الفيلسوف أن يتجاوز عصره ويتنبأ بالمستقبل تماماً مثلما أنه ليس بوسع الإنسان أن يقفز فوق التمثال العملاق الذي كان قائماً في الماضي في جزيرة رودس. غير أننا بالرغم من هذا التحذير سنتطلع إلى الأمام محاولين فهم مستقبل وحدود الثورة الليبرالية العالمية الراهنة وما ستحدثه من أثر في العلاقات الدولية.


الجذور الاساسية للعمل
على ضوء الارتباط القوي بين الديمقراطية والتصنيع المتقدم، تبدو قدرة الدول على النمو الإقتصادي على مدى فترات زمنية طويلة، ذات أهمية كبرى بالنسبة لقدرتها على خلق مجتمعات حرة والحفاظ عليها ومع ذلك ورغم أن أنجح الاقتصاديات الحديثة قد تكون هي الرأسمالية، فليست كل الاقتصاديات الرأسمالية ناجحة، أو على الأقل، ليست في درجة نجاح اقتصاديات أخرى. وكما أن ثمة فوارق حادة بين قدرات الدول الديموقراطية على حماية الديموقراطية. فكذا ثمة فوارق حادة بين قدرات الاقتصاديات الرأسمالية على النمو. وأعتقد أن النمو الإقتصادي في بلد ما يختلف عن غيره وهذا يعود لأمور أساسية تسمى البنية الإقتصادية ربما جهلنا بها يحول دون التوفيق فيها ولكن ربما هي السبب في هذا التفاوت.
أن الثقافة ايضا من طرفها تؤثر في قدرة الدول على إقامة الليبرالية السياسية و الحفاظ عليها فإنها تؤثر أيضاً في قدرتها على إنجاح الليبرالية الإقتصادية. وهذا يعود بنا إلى حالة الديموقراطية السياسية وهنا نجد أن نجاح الرأسمالية يتوقف إلى حد ما على استمرار بقاء التقاليد الثقافية المنتمية إلى ما قبل العصر الحديث في عصرنا هذا. وعليه، نستنتج بأن الليبرالية الإقتصادية شأنها في ذلك شأن الليبرالية السياسية تحتاج إلى درجة من الثيموس غير العقلانية.وهناك نقطة أساسية أخرى تنبؤنا بالاختلافات الثقافية في المواقف من العمل بين اليابان والولايات المتحدة من جهة وبين الكثير من دول العالم الثالث التي لم تنجح مثلها في إقامة رأسمالية فعالة من جهة أخرى. هكذا فان الليبرالية الإقتصادية هي أفضل الطرق إلى رخاء أي شعب مستعد للإفادة بها. ولابد لأي شعب من الشعوب ان تصل به الثقافة المدنية الى الحد الذي يمكنه من خلالها ان يميز بين المعاني والاشياء من اجل ان يمتلك القدرة على الخيار عندما ينتخب او يشارك في العملية الليبرالية الحقيقية.


إمبراطوريات مخطط لها ودويلات الفوضى
ثمة قضية مشوقة وهي أنه حتى في الولايات المتحدة فإنه يمكننا أن نلمح بدايات أيديولوجيات جديدة غير ليبرالية وهي نتيجة متميزة للمواقف الثقافية المختلفة من النشاط الإقتصادي. ونقول في تعليل ذلك أنه في عنفوان حركة الحقوق المدنية، تطلع معظم السود الأمريكيين إلى الاندماج التام في المجتمع الأبيض، لما يعنيه ذلك من قبول كامل للقيم الثقافية المهيمنة على المجتمع الأمريكي. وقد فهمت مشكلة السود الأمريكيين لا على أنها تتعلق بالقيم ذاتها، وإنما على أنها متصلة بمدى قبول المجتمع الأبيض والاعتراف بكرامة السود القابلين تلك القيم. غير أنه بالرغم من إلغاء العقبات القانونية في سبيل المساواة في الستينات وظهور البرامج المتنوعة للعمل الإيجابي تعطى الأولوية للسود فإن قطاعاً معيناً من السكان السود الأمريكيين لم يحقق أي تقدم اقتصادي، بل وساءت حالته من ذي قبل.. كما ونجد ان اشكالا متنوعة ومتعددة من العلاقة غير المتكافئة قد تسود بين الطرفين. اننا لو قارنا اوروبا وأمريكا الشمالية بالكثير من الدول الآسيوية فإنه سيبدو واضحاً أن السلطة السياسية في الدول الأخيرة لها جذور خاصة، وإن الديموقراطية الليبرالية تجد هناك تفسيراً مختلفاً عنه في الدول التي شهدت بداياتها التاريخية.
أن الديموقراطية اليابانية تبدو وفق المعايير الأمريكية أو الأوروبية مشوبة بشيء من الاستبداد مثلا، وأن أقوى الناس في اليابان إما من كبار البيروقراطيين،أو من قادة الجماعات داخل الحزب الديموقراطي الليبرالي الذين وصلوا إلى مراكزهم لا بناء على اختيار شعبي وإنما نتيجة خلفيتهم التعليمية أو احتضان الأقوياء لهم.وكلمة أخيرة أريد الإشارة إليها أننا نشهد في العالم المعاصر ظاهرة مزدوجة غريبة تتمثل في انتصار الدولة العامة و المتجانسة مع استمرار اختلاف الشعوب.


واقعية مزيفة لا تستند إلى واقع حقيقي
قد تتخذ الواقعية صورة (وصف) في السياسة الدولية أو (وصفه) لكيفية إدارة الدول لسياستها الخارجية. وتنبع قيمة (الوصفة) الواقعية من ذمة (وصفها) والمفروض أنه ما من إنسان ذكي يأخذ الامور على عواهنها من دون التفكير بما يكمن فيها ومن يختبىء وراءها، وقد عرف التاريخ المعاصر جملة من النماذج التي تشير الى ان صناعة الحدث التي يقدم الواقع كما نشهده ما هو صورة مزيفة لواقع من نوع آخر يسبح في بحر من الاسرار والخفايا التي تعتبر هي بالذات من حقائق التاريخ لا غيرها ابدا.. وان صناعة الواقع السياسي الدولي والاقليمي وحتى المحلي تختفي وراءه ركامات من الخطط السرية التي سيكشف المستقبل من يسّيرها وفق الأحكام الواقعية القائمة على الشك ما لم يضطر إلى ذلك اضطراراً حسب فكرة او فلسفة ماكيفيلي في كتابه " الامير ". ان الواقعية بكل من حقيقتها وزيفها توفر لنا عدة قواعد مألوفة تعتمدها سياسات عدة دول كبيرة وصغيرة، مؤثرة او عديمة التأثير، وخصوصا في جانب التعامل في ما بينها.
أن الحل النهائي لمشكلة البحث عن الحقائق في اكوام من التزييفات يكمن في التشكيك بكل ما نقرأه ونسمعه في واقعنا المضني حتى تنبلج الحقائق بعد زمن، وخصوصا عندما يختلف الزمن بغير زمن ذلك الواقع اي عند مضي جيل كامل وولادة جيل جديد، اي بعد ثلاثين سنة على اقل تقدير. وان من الواجب اختيار المصادر بالنسبة للمعلومات بصفة أساسية على ضوء مدى قوتها المعرفية والمعلوماتية الوثائقية لا على ضوء الإيديولوجيا او الاعلاميات العادية أو طابع النظام الداخلي لأي نظام سياسي. ان على الساسة والمراقبين وهم يقيمون الأخطار الخارجية في واقع سياسي معين أن يدرسوا بعناية أكبر القدرات العسكرية لا النوايا حسب وخصوصا في واقع مليىء بالمخاطر والتحديات.. واقصد بذلك ليس التحديات التي تواجهها الدولة كمؤسسات فقط، بل المخاطر التي تواجه المجتمع في كل جغرافياته كتنوعات!
وعليه، لابد ان تزرع هذه المبادىء حب المناقشة في النفوس وخصوصا عند الاجيال الثلاثة القادمة في القرن الواحد والعشرين، وأن لا يعتريها اي مظهر من مظاهر المقارنة مع ما سبق ان حصل في حقبات متنوعة من تاريخنا الحديث، ولا أي شائبة يمكنها ان تعيق تطور الحياة الداخلية بجملة مؤسساتها واجهزتها، وأظن أنها مبادىء يمكنها ان تعبر عن قدرات واسعة في الحركة والنشاط والتلاقي مع جميع الاطراف في العالم وان تكون المركزية العربية وما يحيطها من جيرانها على صواب فقبل أن يتخذ المسؤولون قراراتهم مهما كانت درجتها من الخطورة، لابد ان يواجهوا انفسهم وشعوبهم في المحافل و المعتركات السياسية بكل شفافية وبمنتهى المقدرة الديمقراطية من اجل المشاركة دولة ومجتمعا في اتخاذ القرارات المناسبة.. وعليهم أن يدرسوا أولاً قدرات البلاد بشكل علمي استعدادا لأي مواجهة سياسية واعلامية وسايكلوجية قبل ان تكون عسكرية وقتالية ودفاعية..
نعم، لقد لعبت الواقعية دوراً كبيراً ومفيداً في تكييف تفكير الأمريكيين – مثلا - بصدد السياسة الخارجية عقب الحرب العالمية الثانية، إذ أنقذت الولايات المتحدة من ميلها إلى الحفاظ على الأمن في صورة النزعة الدولية الليبرالية الساذجة حقاً، مثال ذلك الاعتماد الكبير على الأمم المتحدة في تحقيق هذا الهدف.
شكرا على حسن استماعكم متمنيا ان تثير هذه " الافكار " جملة من الحوارات الممتعة حول مستقبل الليبرالية وحاجة اجزاء من العالم ومنه منطقتنا العربية الى المزيد من المتغيرات النوعية والبحث في كيفية ايجاد آليات حقيقية من اجل التغيير الحقيقي.. وارجو ان اكون قد فتحت الباب الان لمحاضرة ثالثة عن مفهوم الدولة واصنافها في التاريخ وصورة رؤيوية للدولة في المستقبل.

مؤرخ عراقي وأكاديمي مقيم في كندا والامارات
[email protected]

( نص ترجمة لمختصر المحاضرة العلمية الثانية )