هل صحيح ان الاعتقاد الاكثر انتشارا هذه الايام في الولايات المتحدة هو ان الحكومة الامريكية أخذت تسنفذ قدراتها العسكرية ونفوذها السياسي والدبلوماسي وأموال الخزينة لتحقيق أهداف خيالية في العراق؟
هل صحيح ما يتردد بين اوساط الامريكيين بآن عددا قليلا فقط من العراقيين يرغب في ارساء دعائم نظام ديمقراطي.. فيما تفضل الاكثرية الشيعية الانضواء تحت راية رجال دين غير منتخبين وفرضهم تقاليد موروثة؟
هل صحيح ان الاقلية السنية ما تزال ترفض الوضع الجديد والتعددية السياسية وتسعى لآعادة حكم الحزب الواحد والرجل الواحد؟
هل صحيح ان تخصيص مليارات الدولارات للبناء والتنمية في العراق تبديد للاموال والجهد والوقت؟
يعتقد الامريكيون ان استئناف تصدير النفط العراقي وازدياد العائدات مع ارتفاع اسعاره عالميا اضافة الى مليارات الدولارات التي خصصها الكونغرس ودول اخرى لآعمار العراق كان ليكفي لتسريع عملية الاعمار.. لكنها ما تزال بطيئة ومحدودة جدا بسبب استمرار الهجمات وعمليات التخريب والنهب التي تستهدف أنابيب النفط ومحطات توليد الطاقة الكهربائية وشبكات توزيعها وتفشي حالات اختطاف الاجانب الراغبين في الاستثمار في هذا البلد (المنحوس) فيما تهيمن مجموعات ملثمة ومسلحة على معظم الطرق الخارجية التي تربط البلاد بجيرانها في وقت ماتزال فيه المطارات المدنية متوقفة عن العمل لآسباب أمنية وفنية.
هل أصبح الامريكيون يفكرون بوسيلة لسحب جنودهم ومغادرة العراق والتخلي عن مشروعهم في نشر الديمقراطية في هذه المنطقة الملتهبة من العالم؟
يجيب الامريكيون أنفسهم عن هذا السؤال بالنفي القاطع.. ويقولون لو ان القوات متعددة الجنسيات تخلت عن العراق لآنزلقت البلاد الى مستنقع من الفوضى والدماء والدمار.. حيث ستجد الحكومة الفتية نفسها في مواجهة أعداء أشداء يندفعون من داخل البلاد وخارجها لسد الفراغ الامني الذي سينجم عن انسحاب القوات الاجنبية حيث قد تغري الاوضاع المستجدة في العراق دولا مثل ايران وغيرها من الجوار الاقليمي للتدخل في شؤون البلاد خصوصا بعد التصريحات الاخيرة التي جاءت على لسان مسؤولين ايرانيين من انهم سيلجأون الى تشكيل ميليشيات عراقية مشابهة لتشكيلات حزب الله في لبنان او التنظيمات المسلحة في فلسطين اذا استهدفت القوات العراقية ومتعددة الجنسيات الساندة لها أنصارهم في مناطق جنوب العراق.
ومن غير المستبعد ان يدفع استمرار تدهور الاوضاع الامنية وانفلات سلطة الدولة والقانون اعدادا لا بأس بها من قوات الشرطة والحرس الوطني الى التخلي عن واجباتهم الرسمية والانضمام الى هذا الطرف او ذاك لا سيما ان بعض المناطق السنية مثل الفلوجة وسامراء التي ما تزال متمردة على سلطة الدولة تعلن بكل وقاحة انها لا تعترف بالحكومة الجديدة وترفض الانضمام الى أية عملية سياسية متحججة بالتهميش فيما تؤكد في بياناتها وتصريحاتها المعلنة انها (تجاهد) من اجل العودة الى اوضاع ما قبل التاسع من نيسان 2003 مشيدة في نفس الوقت بالنظام الدكتاتوري السابق تحت تبريرات تسميها قومية ووطنية.
غير ان الامريكيون يؤكدون ان اي انسحاب عاجل لقواتهم من العراق لن يقوض مشروع الدولة العراقية الجديدة فحسب, وانما سيهدد أعداء العراق قبل حلفائه.. فالمسلحون الذين يتصدون للقوات متعددة الجنسيات والامريكية بصورة خاصة ويزعزعون الامن والاستقرار ويرعبون المواطنين في العراق يظنون انهم يشنون حربا ضد الولايات المتحدة بتحريض مباشر وغير مباشر من مموليهم في دول مجاورة للعراق من الذين يخشون ضياع مصالحهم وامتيازاتهم في حال نجاح المشروع الديمقراطي في العراق.. وهؤلاء لا يدركون ان تداعيات انهيار الدولة العراقية ستكون أشبه بضرب المنطقة بقنبلة نووية إذ ستنجم عنها اضرار جسيمة للانظمة الحاكمة تهز مجتمعاتها بل قد تفككها.. حيث ستندلع حرب أهلية لن تستثني احدا ولن يتوقف شررها عند الحدود الجغرافية للعراق.. وسيتفجر صراع عرقي ومذهبي وسياسي دموي واسع النطاق بين الاطراف المختلفة الطامعة بالارض والثروات العراقية, فايران ستتدخل بحجة حماية الشيعة ومقدساتهم.. وعندها لن تبقى سوريا متفرجة وانما ستزج بنفسها للدفاع عن (عروبة) العراق فيما ستدفع تركيا بقواتها العسكرية لآحتلال مناطق كردستان العراق تحت ذريعة ضمان أمنها القومي ووحدة أراضيها.. وحينها لا يمكن لدول الخليج مثل الكويت والمملكة العربية السعودية ان تسمح لآيران بالوصول الى عتبتها والتحريض على ما هو غير مرغوب في تلك المجتمعات.. وربما ستضطر دول اقليمية اخرى للتدخل تحت هذه الذريعة او تلك.. والنتيجة.. ان كل هذه الدول ستكون هي الخاسر الاول والمتضرر الرئيسي من أي انسحاب عاجل للقوات متعددة الجنسيات من العراق.
أما الولايات المتحدة فقد تخسر مصداقيتها امام العالم.. وهذه مسالة معنوية يمكن تجاوزها وخصوصا من جانب الرأي العام الامريكي ـ وهو الآهم ـ حيث ستبرر الحكومة الامريكية قرارها بأنه نابع من حرصها على حماية الارواح والاموال الامريكية.
ان هذا الافتراض لما قد يحدث في اعقاب انسحاب عاجل للقوات متعددة الجنسيات قد يتبلور فعليا الى قرار رسمي يعلنه الرئيس الامريكي خلال حملته الانتخابية.. وهذا ما يستدعي ان تراجع فورا حكومات دول الجوار العراقي مواقفها الراهنة من القضية العراقية, وان تعلن بوضوح استعدادها للتعاون والتنسيق مع الحكومة العراقية لآنهاء عمليات التسلل وتهريب الاسلحة والاموال الى العراق ووقف التحريض المباشر وغير المباشر على اللجوء الى العنف في حسم الخلافات السياسية, وان تدعم تصريحاتها بالافعال, وتقدم العون والمساعدة للحكومة العراقية في جهودها لآستتباب الامن والاستقرار واستئصال بؤر الارهاب والاعداد بصورة سليمة للانتخابات العامة وبناء هياكل المؤسسات العامة واعادة اعمار البلاد.. وعندها فقط ستكون الحكومة العراقية قادرة وراغبة في تحديد جدول زمني لرحيل القوات الاجنبية.

[email protected]