أصول إشكاليات الحالة العربية وآفاق تطورها(4)

يبدو العالم العربي عالما مفككا، لا يحافظ على وجوده الهش إلا الاستبداد السياسي المتزايد عنفا، ويجد نفسه أسير معادلات سياسية مستحيلة، إذ أنّ الإدراك السياسي لحكامه والجزء الأكبر من معارضيهم يبدو مقتصرا على الإدانة الخطابية للمؤامرات الخارجية. ولهذا ـ أساسا ـ آلت الحالة العربية إلى التوصيف الذي ورد في تقريري التنمية الإنسانية لعامي 2002 و 2003، وأمكن للولايات المتحدة الأمريكية أن تحتل العراق، كما أمكن لإسرائيل أن تستفرد بالشعب العربي الفلسطيني.
إن جوهر العلاقة بين السلطة والشعب، في الغالبية الساحقة من الأقطار العربية، يقوم على قانون القوة والقهر، و على التغييب شبه الكامل لدور الشعب والقانون، وإلغاء حقوق المواطنة، وتفتيت المجتمع وتطويعه وإخراجه من عالم السياسة، وتعطيل أية إمكانية للتغيير والإصلاح، وقمع أي عمل معارض. بالإضافة إلى الاعتماد شبه الكلي على الأجهزة الأمنية وتحويل مؤسسات الدولة، الرسمية والشعبية، إلى واجهات صورية مسخرة لخدمة الفئات الحاكمة وطبقاتها السياسية النافذة، التي تتعارض توجهاتها ـ أكثر فأكثر ـ مع مصالح شعوبنا وتطلعاتها، وهي تقيم من مكاسبها الكبيرة ومصالحها الضخمة سدا منيعا في وجه التغيير أو أية مراجعة أو محاسبة أو إصلاح. وإزاء كل ذلك، يبدو واضحا أنّ الحاجة التي يحس بها بعض الزعماء للدفاع عن مصالح أقلوية ـ نخبوية تجعل من الصعب خلق مناخ يفضي إلى سياسات للتنافس الديمقراطي.
وإذا كانت الأزمة العامة في أقطارنا العربية، بديمومتها واستعصائها، تشكل كابحا لتطلعات شعوبنا، وتضع وطننا أمام طريق العجز عن مواجهة المخاطر والتحديات حاضرا ومستقبلا، فهي أيضا تزيد وتفاقم من مأزق الحكومات في التلاؤم مع استحقاقات مرحلة ما بعد احتلال العراق وتداعياتها، والتغيّرات الكبيرة في موازين القوى والأوضاع الدولية. لقد أفقدت الأحداث العديد من الحكومات العديد من مصادر شرعيتها، وأوضحت مدى ضعف المؤسسات السياسية في الأقطار العربية، وأبرزت أبعاد الأزمة على النحو التالي :
1 - غياب المشاركة السياسية من قبل الجماهير العربية في الحياة السياسية، إما نتيجة اللامبالاة السياسية وضعف الوعي السياسي، وإما لعدم الثقة في الأنظمة السياسية، وإما نتيجة تضييق قنوات المشاركة من قبل هذه الأنظمة، وإما لتوافر هذه الأسباب مجتمعة.
2 - سيطرة شخص الحاكم تسانده نخبة محدودة على مقاليد الأمور، وإحكام إغلاق الدائرة السياسية، لدرجة لا تسمح بدخول أية عناصر جديدة إلا في ظل ظروف وشروط بالغة التعقيـد.
3 - الانفصال بين الحاكم والمحكوم، وعدم وجود تفاعل بين قيم وأمنيات ومطالب المحكومين والسلوك السياسي للحاكم، الأمر الذي يؤثر في مدى توافر شرطي الرضا والقبول من جانب المحكومين، وهما الشرطان اللازمان لاستمرار الأداء السياسي للسلطة وفعاليته في المجتمع.
4 - يؤدي وضع كهذا إلى اتجاه النظام السياسي إلى استخدام كافة أساليب العنف تجاه معارضيه، الأمر الذي يؤدي إلى إهدار كافة الحريات والحقوق المتعلقة بالإنسان، كما يؤدي إلى اتساع دائرة العنف في المجتمع.
5 - غياب المؤسسات السياسية الفاعلة القادرة على إعداد وتدريب وتجنيد المواطنين بالأسلوب الديمقراطي الذي يقوم على الحوار والمناقشة الموضوعية.
6 - شيوع قيم الاتكالية والفردية والانتهازية السياسية في المجتمع.
7 - غياب البنى الاقتصادية والاجتماعية والإطار الثقافي والفكري اللازمين للممارسة الديمقراطية.
8 - عدم الاعتراف بالتعددية السياسية، وعدم إمكانية تداول السلطة بأسلوب ديمقراطي منظم.
وهكذا، فإنّ التفكير في الديمقراطية كضرورة ملحة يتطلب البحث عن عوائقها التي تحول دون تأسيس مجتمعات عربية ديمقراطية، فإذا رجعنا إلى المنظومة الفكرية التي كرستها المرجعية الثقافية العربية، نجد أنها مرتكزة على بنية التشابه، بما يعنيه هذا المصطلح من تأسيس للنمطية، وتكريس لما هو قائم بالفعل. وهذا التصور الوظيفي يتعارض مع مفهوم الديمقراطية القائم على بنية الاختلاف.
ومن العوائق الأخرى التي تحول دون بناء الديمقراطية في الوطن العربي أيضا سيادة مبدأ الإجماع، وخطورة هذا التصور تكمن في إقصائه لمبدأ العمل بالأغلبية، والأدهى من ذلك أنّ ديمقراطية التزييف في العديد من الأقطار العربية تستغل مفهوم الإجماع باعتباره موروثا للبنية الذهنية العربية، وتمرر من خلاله نتائج انتخاب الحكام (100% أو 99,99%)، أو نتائج استفتاءات الرأي حول قضايا الوطن المصيرية.
وثمة عوائق موضوعية تجد مرجعيتها لا في البنية الذهنية، أو الموروث اللاشعوري، وإنما في الوضع الداخلي الملموس، أو في الظرفية الخارجية وطبيعة النظام الدولي الذي تتحكم فيه الولايات المتحدة الأمريكية التي لها يد طولى في الاستفراد بصياغة مصير الشـعوب.
1 - على صعيد البنية الداخلية للبلاد العربية، نجد أنّ الذي يسود في أغلبها اقتصاد ريعي، فالمداخيل التي تفعّل دواليب الاقتصاد العربي مصدرها ليس نتيجة لمجهود بشري فعّال، وإنما بمثابة هدية من باطن الأرض. لقد تحول النفط من أداة لتسهيل الديمقراطية في الوطن العربي إلى معوّق لها، من أداة لتحقيق كرامة الإنسان إلى أداة لتركيعه وإذلاله.
2 - أما على صعيد الظرفية الخارجية، فعلى الرغم مما يروج له عالميا من كون النظام الدولي الجديد، الذي تطبل به وسائل الإعلام الغربية ، يبشر ويدعو إلى احترام حقوق الإنسان، ويسهر على انتشار الديمقراطية في كافة أرجاء المعمورة، بل ويمارس ضغوطا على الحكومات التي يعتبرها ديكتاتورية، فإنه وللأسف الشديد نجد أنّ الدول الكبرى، في كثير من الأحيان، إنما تستعمل مفاهيم الديمقراطية وحقوق الإنسان للضغط على الشعوب وإذلالها عوض تحقيق الكرامة الإنسانية، فهي تتلاعب بالقيم الإنسانية لتمرير مخططاتها، وتحقيق مصالح جديدة في بقاع أخرى من العالم أو على الأقل للحفاظ على مصالحها القديمة.
إنّ البنى، الموصوفة أعلاه، التي تقف موقف العداء من التنوير والفكر والثقافة وتلجأ للمصادرة والاعتقال والنفي والتشريد والقتل، تعمل جاهدة على إشاعة روح الخوف والترهيب لإضعاف دور المثقفين " ضمير الأمة "، فيتحول بعض منهم إلى مسوخ تضرب على كل دف، وتنفخ في كل مزمار ما دام ذلك في رحاب السلطة وحمايتها. وتصطاد السلطة هؤلاء الذين ضعف بنيانهم، فيتحولون في الشكل العشائري إلى مداجن يتتطلعون إلى رضى السلطان، همهم الإشادة بكرم السلطة ولطفها وحنوها، فهي صاحبة القدرة على المنح والمنع، وهؤلاء المداحون يقايضون بضاعتهم بالوظائف ذات الدخل العالي أو المكافآت المالية السخية. وفي الشكل المركزي البيروقراطي التسلطي يتحولون إلى أبواق مهنتهم العمل الدعائي وتسويق السلطة للناس ليقنعوا بها، وهم بمثابة البطانة التي تزيّن للسلطة أفعالها مهما كانت قبيحة الشكل أو المضمون، وهم يقبضون ثمن ذلك مواقع ونفوذا وتأثيرا، ويتحول من يسقط في وهدة الدعاية الفجة إلى أدوات لتزييف الوعي ووسائل لخداع الناس.
وإذا كان سقوط نظام صدام حسين هو بالفعل بداية مرحلة جديدة تنطوي على تحديات وفرص عديدة، فإنها تتطلب من العرب سياسات جديدة. فالمهم أن تفهم القيادات العربية أنّ لا مناصَّ من تغيير جذري في نوعية حكمها وتحكمها، وأن تفهم الشعوب العربية أنّ حقبة التذمر ولوم الآخرين حان زوالها، وأن تفهم تيارات التطرف أنها لن تكون قادرة على إلحاق الهزيمة، بل حتى المواجهة الفاعلة مع أمريكا، وأن تفهم تيارات الاعتدال أنّ هناك فرصة لها لتوظيف المنطقة الرمادية بين الانبطاح والمناطحة.


كاتب وباحث سوري مقيم في تونس
[email protected]