برزت الدعوة الامريكية الى الاصلاحات بعد احداث الحادي من سبتمبر دون أطر محددة لم تتخذ ما اتخذته فيما بعد من صيغ او تصريحات رسمية او تعديلات لتك التصريحات نفسها. كانت تلك اول دعوة علنية تنطلق بهذه الصيغة لتتوجه خارج حدود الولايات المتحدة الامريكية ونحو المنطقة العربية بشكل خاص. ورغم كونها شكلا سافرا من اشكال التدخل في الشؤون الداخلية لدول اخرى ذات سيادة وسابقة لا يجيزها القانون الدولي فانها عدا ذلك تحمل اكثر من مفهوم وتنطلق من دوافع شتى.
لايمكن نكران ان الانظمة السياسية العربية تحتاج بين فترة واخرى الى مراجعة نقدية والى تحديث الكثير من الصيغ وجعلها متلائمة مع حركة الزمن.. وهي ليست مطالب سياسية من منظمات المجتمع المدني او من الحركات السياسية والجمعيات المختصة او من الاجيال الجديدة فحسب بل ان الدول نفسها تطرح ذلك وتعي الحاجة اليها داخليا وخارجيا.
هناك اذن حاجة لاصلاحات حقيقية في المجتمع العربي تنطلق من وعي الواقع السياسي والاجتماعي والثقافي ولكن هذه الحاجة يجب ان تقيس مسافة وسرعة خطواتها كي لا تترنح التجربة او تصبح ادعاء شكليا بالاصلاح وليس سعيا حقيقيا نحوه. هنا لا بد من الاخذ بنظر الاعتبار حقائق مهمة لا يمكن تجاوزها او القفز عليها : اولها احترام المكونات الفكرية والثقافية لهذه المجتمعات وعدم تقديم حلول فجة لم يحن اوان نضجها وقطافها بعد.
للاصلاح مفهومان مختلفان تمام الاختلاف : ما يفهمه المواطن العربي من هذا المصطلح الجديد من جهة وما تعنيه الادارة الامريكية من هذه المفردة من جهة اخرى ؛ فالاصلاحات تعني عربيا اجراء تغييرات سياسية بالدرجة الاولى اهم ما فيها المشاركة الشعبية الاوسع في الحكم واتخاذ القرار وفي قيام المؤسسات التي تضمن سلامة ذلك، اما الاصلاحات بالمعنى الامريكي فانها اتخذت منحى اخر لانها تهدف الى خلق نتائج مختلفة منطلقة من الخلط بين الارهاب والحاجة الى الاصلاح فهي تعتقد ان من اسباب نشوء الارهاب البيئة الفكرية القائمة في بلد ما.. او المناهج الدراسية وتغليب الفكر الديني في مفرداتها.
الولايات المتحدة الامريكية - رغم اصرارها على انكار ذلك - تدرك ان الصراع العربي الاسرائيلي كان عاملا رئيسيا في حالة الصدام هذه ولانها منحازة تماما فأن على الجانب العربي وحده ان يتكيف مع الواقع.. ان يغير مناهجه وسياساته الخارجية ويعلن حربه على الارهاب ( بما في ذلك الارهاب الفلسطيني ) بينما لا يطلب من الجانب الاسرائيلي اي التزام يذكر.
الاصلاح ذو وجهين ايضا، ولان اغلب الانظمة العربية لا تمارس الديمقراطية بشكلها السائد وان وجود الزعماء لا يعتمد على قرار شعبي فأن هذه الانظمة استقبلت الدعوة الى الاصلاحات بترحيب كي تكسب رضى الادارة الامريكية وليس رضى شعوبها وهنا تنقلب الدعوة الى انكار حق الشعب ويطلب من الدولة تغيير مواقفها الخارجية وما يتصل بذلك من اجراءات داخلية وليس تغيير اسس الحكم ولا تنال الشعوب من هذه الدعوة شيئا يذكر.
من الواضح اذن ان ثمة تباينا صارخا بين قيام اصلاحات حقيقية في المنطقة العربية وبين الدعوة الامريكية لتلك الاصلاحات. هل تجهل الادارة الامريكية بكل ما تتوفر عليه من معلومات ذلك ؟
ان بعضا من التأمل يقودنا الى الاستنتاج التالي : تدرك امريكا ان الكثير من الحكومات العربية هي اقرب اليها من شعوب المنطقة وان تصدير الديمقراطية اليها مغامرة خطيرة لا تحمد عقباها لذلك فأن من غير المعقول ان تسعى الى ما يهدد مصالحها وخططها وستراتيجياتها في الشرق الاوسط الكبير.
يرى البعض ان اخفاق النموذج العراقي كان سببا مهما لاستمرار الحديث عن الاصلاح وان العلاقة بينهما جدلية لا يمكن تجاهلها.. هذه العلاقة الخفية جعلت بعض الدول العربية تتطير منها وتعلن ان مسألة الاصلاح هي مشروع داخلي ينطلق من البلد نفسه ولا يفرض عليه بشروط تجارب غريبة على مجتمعه. لقد انتبهت هذه الدول الى ان ما يطلب منها هو فوق طاقاتها وانها لا تستطيع تأدية كل ما يراد منها وان وضعها الداخلي لا يسمح لها بذلك. وقد غيرت الادارة الامريكية نبرتها لتقول انها لا تريد فرض ذلك وان الامر يجب ان يباشر داخليا.
لقد تعثر مؤتمر القمة العربي قبل انعقاده في تونس ثم انعقد على نحو ما بسبب تلك الدعوة والتباين في طريقة استقبالها. ولم نعد نميز بين الاصلاحات الطبيعية التي تجري بارادة وطنية وتلك التي فرضت او تم الاتفاق عليها، كما لم يقدم احد جردا علنيا بما تم انجازه حتى الآن.
نعود ثانية فنقول ان الاصلاحات في البلاد العربية حاجة ماسة ولكنها مع الاسف غير التي تطالب بها الادارة الامريكية، واذا كان المقصود هو القضاء على ظاهرة الارهاب فان الموضوع اوسع واعمق من هذا الجهد. ان الطرف الاقوى في هذه المعادلة هو الاكثر فعالية وحضورا وتأثيرا لذا فهو المطالب قبل غيره بخطوات ومبادرات لتسهيل هذه العملية وتحقيق الاهداف المرجوة منها. صحيح ان المجتمع العربي يتململ من تخلف بعض الانظمة الا ان الاغلبية الساحقة ساخطة على الموقف الامريكي وفي مقدمة اسباب السخط موضوعة النزاع العربي الاسرائيلي اليس من العدل ان نطالب الادارة الامريكية مباشرة اصلاحات جوهرية في سياساتها تجاه العرب والعالم.. اليس من حقنا ان نطلق مثل هذه الدعوة الى العالم الحر ان كان حقا يؤمن بالحرية له وللاخرين ؟
يمكن للولايات المتحدة بما تملك من ثقل سياسي واقتصادي وعلمي ان تكون رائدة حقيقية للعالم ولكن على نحو مختلف.. ان تكون مقبولة وليست مفروضة بالقوة، نرى انها تملك كل الوسائل لتحقيق ذلك :
ان تخليها عن اقدم نظرية في العلاقات الدولية – نظرية القوة – وعن آثار الحربين العالميتين في رسم سياستها الدولية هو اول ما يجب ان تسعى وان تعترف بأن العالم يتغير وان قرنا جديدا يطل على الكون لا يجوز ان تسود فيه قيم واساليب القرون الغابرة، ان نظرية القوة ترجع الى حياة الكهوف انها نفس الفكرة رغم تطور الادوات.. ان العالم اذ يحيي غزو المريخ او السعي الحثيث لاكتشاف دواء للسرطان لايمكن له ان يحيي المجازر وجنون التسلح والاساطيل المخيفة التي تجوب بحار الكون... اننا نشهد نموا مشوها للحضارة الانسانية فهناك تطور مذهل في ساحات وتخلف مزر في ساحات أخرى.
عليها ان تدرك ايضا ان من الطبيعي ان تنتصر عسكريا في اية معركة نظرا لتوفر كل اسباب القوة لديها لكنه ليس انتصارا بالمعنى الحضاري وهو لا يستحق احتفالا او اقواس نصر.. انه هزيمة حضارية بكل معاني الكلمة..
كان يمكن ان يتحول الحلف الاطلسي الى تكتل سياسي بعد انهيار الاتحاد السوفييتي وغياب حلف وارشو وقد سبق للرئيس بوش الاب ان اشار الى امكانية ذلك عام 1989 الا ان السنوات اللاحقة شهدت تراجعا كبيرا في هذا الاتجاه وعودة الى زمن مضى وانقضت اسبابه ومظاهره.
لقد آن اوان أن نناقش امتياز العضوية الدائمة في مجلس الامن وهو امتياز لا يمكن ان يستمر الى الابد بعد ان نتج عن انقضاء حرب مر عليها ستون عاما، قبل اعوام اصغينا الى دعوات اليابان والمانيا لتكونا عضوين دائمين.. واستجدت دعوات اخرى تدعو الى ان تحتل امريكا اللاتينية وافريقيا كقارتين مقعدين دائميين في مجلس الامن.. هل هناك دولة تستطيع ان تنكر او تستنكر هذا التجديد او الاصلاح في مجلس الامن ؟
وعودة الى النزاع العربي الاسرائيلي فان من غير المقبول ان تعجز الادارة الامريكية عن التوصل الى حل لهذه الازمة المزمنة اذا كانت ترغب حقا في ذلك واذا كانت تمسك بميزان عادل لتسوية الامور. لقد باتت اسرائيل اشبه بدولة دائمة العضوية في مجلس الامن لكثرة ما استخدمت امريكا ( الفيتو ) نيابة عنها بل ان اغتيال شخصيات فلسطينية لقي مباركة امريكية وهو موقف لا يليق بدولة لها مكانة الولايات المتحدة الامريكية، ان هذا السجل يمكن ان يستغرق لوحده كتبا اذا قمنا باحصاءات لتلك المواقف التي تدعم الاحتلال الاسرائيلي للاراضي الفلسطينية والعربية : لقد صرح الرئيس بوش مؤخرا بأن حدود عام 1967 غير مقدسة وعليه تصبح قرارات مجلس الامن المتعلقة بالموضوع غير ذات معنى.
ان الشعب العربي الذي يطلع يوميا على مثل هذه التصريحات والمواقف لا يستطيع فعل شيء غير الغضب والسخط ازاء ما يرى ويسمع، هذا الشعب في ظل اصلاحات ديمقراطية حقيقية لن يقبل بأي نظام موال للولايات المتحدة.
هذه الحقيقة تدعم رأينا في ان الادارة الامريكية غير مخلصة في طرح هذا الشعار البراق لانها تعرف اكثر من غيرها عواقبه، اننا نتذكر تجربة الجزائر عام 1991 والمماطلة الامريكية لاجراء انتخابات مبكرة في العراق لنتأكد من معرفة امريكا الاكيدة للاتجاهات الشعبية في المنطقة العربية، هاجس الامن لدى امريكا هو الذي انتج مثل هذه الدعوات ومرة اخرى تخطيء امريكا طريقها ولا تعالج ما تسميه الارهاب بل تذكي أواره.
كانت المملكة العربية السعودية موضع اتهام امريكي بانها حاضنة ارهاب وذهب الاعلام الامريكي الى اتهام شعبها وحكومتها بذلك.. ما الذي تقوله اليوم وقد غدت المملكة من اولى ضحايا الارهاب، ان المملكة تعالج بشكل افضل بكثير هذه الظاهرة لانها تواجهها دون ان تغمض عينيها وتمسك بخيوط الحل.
الارهاب ظاهرة فكرية واجتماعية لا بد من دراستها كما يدرس فقهاء القانون الجريمة والقضاء عليها لا يعتمد على القضاء على رؤوسها ورموزها بل دراسة اسباب نشوئها وانتشارها وبيئاتها والنظر الى الجذور المكونة لها ليمكن فيما بعد تفكيكها وضمان عدم نموها ولكي لا تلقى تهمة الارهاب جزافا فأن التعريف القانوني وليس السياسي هو الكفيل بتمييز هذه التهمة عن غيرها.
- آخر تحديث :
التعليقات