بين أنة وأخرى يتبدى الوجع، وبين حرابة وأخرى تبرز الغضون والندوب والفواجع، تتلفت عن يمين وشمال فلا تجد غير الأسى الذي يأبى أن يغادر الربوع التي تعرف، وعندما تحاول تحسس مافيك، لا تجد موضعا من جسدك وروحك إلا وقد تناهبته الجروح، تخرج الى الريح تصيح فيها وهي لا تفتأ تصك عليك الأذنين، تفتح فمك فلا تجد سوى العيون الغاضبةوالمزمجرة، والتي تأمرك بالصمت، فلا تملك غير أن تلوذ بالبلل والخذلان والطاعة العمياء، لمن أخافوك وأذلوك.


الموت كمدا
من سكيوة الى شمهودة، لا يفتأ العراقي غير أن يقول ؛(( آه يازماني إنطّر قلبي ولج ياسليمة))، وبالفعل تمزقت نياط القلب ياسليمة، فسكيوة لا تعرف من الندب سوى ((يا أم البيت جينه وما لقيناها)) تلقيها على عواهنها رجلا كان المندوب أم إمرأة ، المهم أن تندب وتثبت للحاضرين أنها موجودة،فيما تخطيء شمهودة في التوقيت، فكلما حان موعد الغداء أم العشاء، حتى تنبري نادبة راثية الى الحد الذي تتعرض فيه الى تأنيب الحاضرين الذين هدهم التعب من العويل والرثاء والبكاء، لكنها لا تتعظ!!ياشمهودات العراق الحزين وياجميع سكيواته وسليماته، تعب القلب من الندب والصراخ والبكاء على الأحبة، لقد ملّ الصبر من صبرنا، وصارت الكآبة تشعر بالكآبة لمرآنا واجمين غاضبين متألمين تعسين.
كأن العراقي ما خلق إلا ليندب، فهو يندب حين يغني ويتوجع عندما يلتقي بقريب أو حبيب، وتدمع عيناه في الفراق واللقاء، دموع وأحزان وشجن على شجن، هكذا كُتب عليه أن يتألم، ورثها من جده جلجامش الذي بكى بحرقة إمرأة ثكلى على فقده صديقه وخله الوفي أنكيدو، حتى راح يخترق الآفاق بحثا عن شجرة الخلود، وها هو ذا يصبر ويصابر متكئأً على مجامر الوجع الكامن فيه، ليحيا ويجالد متجرعا مرارة فقد الأحبة وأكاذيب الأفاقين وحيل المشعوذين والدجالين، فهو طيب من دون سذاجة، لكنه على السجية يعيش ويتنفس ويخلد، إنه الكائن الرائع الذي تصدق فيه مقولة (( شيمّه وأخذ عباءته)) وبالعربي الفصيح إمدحه وخذ منه ماتشاء حتى الأنفس والأغلى والأعز لديه.
ماذا يعوز العراقي حتى يكون الأخير من بين أقرانه العرب، هل يعاني من نقص الخيرات ، هل ينقصه التعليم والكفاءة والخبرة، هل تشح فيه العقول والرجال، هل يعاني من ضعف في الإيمان. من النهرين العظيمين الى منابع النفط الغزيرة فالكبريت فالمعادن النفيسة، الى تجربة الدولة القطرية الحديثة والتي أثمرت نتاج الكفاءات الإدارية والعلمية البارزة ، الى النخب الفكرية والعلمية التي يشار إليها بالبنان، تكون العراق الحديث، وحقق تجربته الوطنية والتاريخية برغم الإحترابات والنزاعات والتقاطعات الفكرية والأيديولوجية. تعلم أبناؤه حتى بلغ التخمة من الخريجين الذين لم تعد تستوعبهم سوق العمل.وتوسعت مجمل القطاعات الخدمية والإدارية فيه ، من دون منة أو فضل من نظام أو مكرمة من أحد فهذه سنة التقدم والتطور تحكم المجتمعات، لكن الملفت في كل هذا يتبدى في حالة التقهقر التي تنتاب هذا الوطن الجريح، حيث النزف على أشده، الى الحد الذي يكون فيه السؤال حاضرا حول هذه القوى الظلامية التي باتت تعلن عن حضورها، بفجاجة وقحة تذكر بالعصور الوسطى. فما بين لص وقاطع طريق الى أفاق ودعي وفاسد ومرتشي، وحالم وطامع بالسلطان والجاه، تتبدى أزمة العراق الراهنة ، لتقع الرزايا على رأس هذا الشعب المسكين، الذي صار بورصة لرفع منسوب العواطف والمشاعر القومية والدينية والأيديولوجية، فما بين مرّوج لثقافة الإرهاب الملثم ، وهو الدأب الذي حرصت عليه الفضائيات العربية، الى مزايد لم يتوان من حث أبناء العراق للتسابق الى الموت المجاني ، تحت شعار محاربة الأعداء، وهو المستظل بالعم الإسرائيلي في عاصمة بلاده، هو مؤمن وبإخلاص عميق في النضال السلمي عندما يتعلق الأمر ببلاده، لكنه يتنادى بالمقاومة المسلحة وتقديم الدماء وبذلها رخيصة من أجل الوطن، طالما أن الأمر بعيد عنه.ولا يبتعد ذلك المعمم عن صاحبه الذي لم يتوان من التصريح من إحدى عواصم البلدان الإسلامية ، بأنه لا ضير من تقديم نصف الشعب العراقي ضحية ، من أجل الحصول على الحرية وتطهير البلاد من رجس الإحتلال الأجنبي.


رهان الأشقاء
بهكذا مزايدات يكون التعامل مع هذا الشعب، الذي ماعرف يوما طعم السلام والراحة والدعة والطمأنينة،إذ مامر عام إلا والعراق فيه جوع، هكذا أنشدها السياب المبتلى بالموهبة والمرض،وتعالوا نعد ونحصي المصائب التي حلت على هذه الأرض في تاريخها المعاصر ولنبدأ بـ فيضان بغداد عام 1913، فسنوات الإحتلال البريطاني حيث المواجهات المسلحة، فحركات الشمال عام 1933 وانقلاب بكر صدقي عام 1936، وحركة رشيد عالي الكيلاني عام 1941 فالفرهود في ذات العام، والوثبة عام 1948، فإعلان الأحكام العرفية عام 1952، فثورة عبد الكريم قاسم 1958 وأحداث كركوك والموصل وحركة الشواف وإعدام ناظم الطبقجلي، فإنقلاب 1963 والحرس القومي وصولا بالعام 1968، حيث الرعب الممنهج والمنظم على أصوله بدءا من ناظم كزار وأحداث أبو طبر، مرورا بتجدد القتال في الشمال، حتى سنوات الحرب مع إيران التي حصدت النسل والضرع ولم تبق بيتا عراقيا إلا وطالته بلهيبها وموتها الأسود البشع.ليكون التتويج بأم الهزائم فالحواسم الى أن يخسأ الخاسئون.
شمهودة يامن ينكرون عليك الخطأ في التوقيت، إندبي والطمي ساعة تشائين ووقت ترغبين، فلا وقت للعراقيين لجذب الأنفاس أو حتى التفكر بحياتهم ، فقد رصد هذا الشعب للمزايدات والمراهنات، وتحت مختلف المسميات والشعارات القومي منها والإسلامي،شمهودة شدي إزارك وتهيئي، فاللطم والرثاء والبكاء الحار السخين قادم وبوفرة تحسدين عليها، طالما أن الغربان مازالت تنعق وتنادي هل من مزيد.

تورنتو