أصول إشكاليات الحالة العربية وآفاق تطورها(5)


إنّ العالم كله يعيد، في هذا الزمن الصعب، حساباته وتوقعاته وتوجهاته. فأين هي مصالح العالم العربي ؟ وكيف يمكن تحقيقها ؟ وماذا تعني عملية إعادة الحسابات والتوجــهات؟
نحن أمام تحديات حقيقية تستوجب تفعيل الخيارات الممكنة، من خلال إرادة سياسية صلبة، وإدارة عقلانية لكل إمكانياتنا المتوفرة، بهدف التعامل مع الوقائع القائمة كما هي لا كما تتخيلها رؤى أيديولوجية مبسطة. فليس من الواقعية والعقلانية والاعتدال أن نغمض أعيننا عن مختلف الخيارات والقدرات التي تمتلكها شعوبنا وأمتنا العربية، وذلك من خلال إعادة صياغة كل أسس القوة، بترتيب أوضاعنا الوطنية والقومية، وإعادة ترتيب العلاقات مع العالم والموازين الدولية.
العالم العربي في أزمة حقيقية، بل وفي أزمات متعددة، في هذه المرحلة من تطوره، إلا أنّ خروجه منها هو مسؤوليته وحده : مسؤولية شعوبه وقواه الحية ونخبه السياسية والفكرية والعلمية المتعددة والكثيرة. والطريق يمر حتما، ومن دون أي جدال، في تجاوزه للتأخر التاريخي واندراجه في التاريخ العالمي المعاصر، وفي تحرره من الهيمنة الاستعمارية وتحرير أراضيه من الاحتلال الصهيوني.
لقد حان الوقت لكي نفكر في المستقبل بطريقة تختلف عن الماضي وتتقدم على الحاضر، فما كان ممكنا من قبل لم يعد مقبولا اليوم، كذلك فإنّ ما كان مستحيلا قبل الحادي عشر من أيلول/سبتمبر 2001 أصبح واردا حاليا، والأمم العاقلة والشعوب الواعية هي التي تراجع سياساتها وتعيد ترتيب أوضاعها وتجدد نمط تفكيرها ولا تظل عاجزة مكتوفة الأيدي. والمسؤولية الحقيقية هي مسؤولية جماعية للحكومات والشعوب والنخب الفكرية والسياسية، فإذا لم تتوفر الإرادة أولا، ثم الرؤية الواضحة والأطر والوسائل الضرورية لوضعها موضع التنفيذ ثانيا، والحكمة وحسن التدبير ثالثا، فإنّ الكل سيدفع الثمن، وسيكون باهظا جدا. ولن يكون الواقع العربي الهزلي الراهن أكثر من مجرد شرارة بسيطة، مقارنة بالجحيم الموعود إذا ظل الوضع على ما نراه ونعيشه اليوم من انعدام المناعة والعجز المزمن.
لقد كان غياب الديمقراطية عن الحياة السياسية والاجتماعية العربية العثرة الكبرى أمام تحديث الأقطار العربية، والثغرة الأساسية في عدم تقدم الأمة، وفي عدم تحقيق الاندماج الوطني لشعوبها وحريتها ووحدتها. فمازال التحدي الديمقراطي قائما، وما زالت شرعية العديد من الحكومات العربية موضع شك وتساؤل، والشعوب العربية تسعى للوصول إلى أخذ مكانتها الطبيعية في مؤسسات دولها وممارسة الديمقراطية الحقيقية، القائمة على التعددية وحق الاختلاف، باعتبارها حاجة تاريخية ذات قدرات كبيرة على تحريك الطاقات الشعبية، وعلى تجسير العلاقة بين الحكومات والشعوب. ولن يتم ذلك إلا بقيام دولة الحق والقانون، التي تضمن سريان القانون على جميع مواطنيها دون أي تمييز، وتضمن أيضا تداول السلطة بشكل سلمي ديمقراطي، باعتبارها تأكيدا لحق الشعوب في اختيار حكامها.
وفي الوقت نفسه، سيصبح ضروريا إعادة تحديد الأولويات ومراجعة الأهداف المزمع تحقيقها، ليتم التركيز على متطلبات الإصلاح السياسي وتكريس القواعد الديمقراطية وبناء المؤسسات الدستورية ومعالجة المشاكل المعيشية وتحديث الهياكل والبنى الاقتصادية والاجتماعية، وتحقيق التنمية والارتقاء بمستويات القدرة العربية على الانفتاح على العالم الخارجي والتعامل معها من موقع المساواة والشراكة، في ظل توجهات العولمة التي لم يعد هناك مجال لتجاهل آثارها على الأقطار العربية.
إنّ الحاجة ماسة إلى نظام إقليمي عربي جديد يتكيف إيجابيا مع المتغيّرات الدولية، ويستند إلى دول عربية عصرية تقوم على أسس الحق والقانون والديمقراطية وحقوق الإنسان، ويدرك عناصر القوة الكامنة لدى الدول العربية ويفعّلها لما يخدم الأهداف المشتركة. إذ ثمة أهمية كبرى لصياغة استراتيجية عربية، تقوم على : أولا، الاستيعاب النقدي لفكر الآخر، بمعنى المتابعة الدقيقة للحوار الفكري العميق الذي يدور في مراكز التفكير العالمية، وفي العواصم الثقافية الكبرى. وثانيا، النقد الذاتي للأنا العربية، بما يعنيه ذلك من ضرورة أن نمارس النقد الذاتي لممارساتنا السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية في عقود مرحلة استقلالاتنا الوطنية على الأقل. وثالثا، إحياء فكرة الإعمار التي هي من أهم الأرصدة الثقافية للحضارة العربية - الإسلامية، بما هي واجب الإنسان في الكون. خاصة وأنّ القول قد حل محل الفعل في أداء رسالة الدور الحضاري في ثقافتنا العربية، حين اطمأن العرب إلى دورهم في الماضي، فعكفوا على تمجيده، دون الإضافة إليه.
وليس أمام العرب إذا أرادوا التعاطي المجدي مع التحديات المطروحة عليهم وتفعيل دورهم خلال القرن الحادي والعشرين إلا أن يعيدوا الروح إلى فكرة الوحدة العربية، لا تلك القائمة على الشعارات والأيديولوجيات التي ثبت فشلها، بل الوحدة التي تحفزها الإرادة الذاتية الحرة للشعوب العربية انطلاقا من وحدة اللغة وما تعنيه من تراث روحي مشترك بين العرب، ومن المصالح الاقتصادية المشتركة، ومن ضرورة مواجهة الخطر الصهيوني الذي يتهدد العرب جميعا. ودمقرطة المجتمع العربي بتفعيل المجتمع المدني وأنشطته ومؤسساته واحترام استقلاليته، بما يؤدي إلى الاعتراف بحقوق الإنسان وإلغاء القطيعة والعدائية بين السلطة والناس. وإطلاق حرية التفكير والنظر العقلاني النقدي ورفض تكفير المثقفين والمفكرين، وتقبل الرأي الآخر، مما يؤسس للإبداع الثقافي والحضاري.
إنّ انخراط العرب في العالم المعاصر يتطلب منهم البحث عن مضمون جديد لحركتهم القومية التحررية، بما يؤهلهم لـ " التكيّف الإيجابي " مع معطيات هذا العالم، وبالتالي الانخراط في مقتضياته الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية، بما يقلل من الخسائر التي عليهم أن يدفعوها نتيجة فواتهم التاريخي، لريثما تتوفر شروط عامة للتحرر في المستقبل. فالعرب ليسوا المبدأ والمركز والغاية والنهاية، هم أمة من جملة أمم وحضارات وثقافات، لا يمكن أن ينعزلوا عن تأثيرات وتطورات العالم الذي يعيشون فيه.
ومن أجل ذلك، تبدو الديمقراطية في رأس أولويات التجديد القومي العربي، فالمسألة القومية تستدعي مقولات جديدة : المجتمع المدني، الديمقراطية، الدولة الحديثة، المواطنة. وتبدو أهمية ذلك إذا أدركنا أننا، بشكل عام، لا نملك لغة سياسية حديثة، منظمة وممأسسة، في بنانا السياسية والثقافية، إذ بقينا خارج تسلسل وتاريخ الأحداث، فماضينا مازال ملقى على هامش حاضرنا، بل يهدد مستقبلنا.
لذلك، فإنّ الأمة يجب أن تتجه نحو البحث عن حل تمديني ـ ديمقراطي، مما يعمق المحتوى الإنساني والمضمون الديمقراطي للحركة العربية، على مستوى الفكر كما على مستوى الممارسة. ففي مجتمع واسع متعدد الجماعات العرقية والدينية والمذهبية كعالمنا العربي الكبير، لا يمكن لحركته الجامعة إلا أنّ تكون حركة ديمقراطية تعترف بالتنوع وتُثرى به، وتحترم تعدد الجماعات المكونة للأمة وتسعى إلى تحقيق التكامل بينها، بل تحترم السيادات الوطنية لأقطارها وتسعى لأن تحقق تكاملها القومي بعد أنّ ترسخ إحساس أبناء هذه الأقطار بهذه السيادة.
فمن المؤكد أنه لا يجوز القفز عن واقع الدولة القطرية تحت أي عنوان، بما فيه الطموح المشروع إلى دولة عربية واحدة. فالأمة العربية لن تكون أمة " قبائل "، وإنما أمة دول حديثة تطمح إلى توحيد جهودها للبحث عن مصالحها المشتركة وتعظيمها. إنّ المشكلة الأهم المطروحة أمام الحركة العربية هي بناء الدولة الحديثة، وما يتفرع عنها من أدوات مفاهيمية تنتمي إلى المجال التداولي المعاصر : الأمة، المجتمع المدني، المواطنة، الديمقراطية، حقوق الإنسان، التعاقد الاجتماعي، الشرعية الدستورية والقانونية .
إنّ بين عروبة الخمسينات من القرن العشرين وعروبة اليوم نصف قرن استُهلكت خلاله القيم الشمولية، وبرزت فيه الديمقراطية مفهوما يستعاض به عن العصبوية الموحِّدة والمكوِّنة للدول والمجتمعات، وأظهرت التعددية قدرتها على أن تكون فعل انسجام ودافعا محركا للوحدة الوطنية تحت رعاية الدولة والمؤسسات، ولم يعد الصراع مع العدو الصهيوني يشكل وحده دافعا كافيا لإرادة التوحد، بل باتت شروط الوحدة أكثر تعقيدا.
فعلى العروبة اليوم أن تفعّل التثاقف الحضاري وأن تميّز بين القيم الغربية كجزء من القيم الإنسانية العامة وبين التدخل الغربي كمشروع سيطرة على مصادر الثروة يخدم التراكم الرأسمالي في الغرب. على العروبة اليوم أن تكون مشروعا تنمويا اقتصاديا واجتماعيا ومشروعا علميا تكنولوجيا، وعليها أن تكون مشروع حرية في مجالات الإعلام والثقافة والفكر، وعليها حماية واحتضان المجتمع المدني.


الكاتب باحث سوري مقيم في تونس
[email protected]