وردني العديد من الرسائل والاتِّصالات الهاتفيَّة تقرِّظ مقالي السابق "الدكتور". وإذا كان معظم الذين كتبوا أشاروا إلى النَفَسِ الفكاهي في المقال وابتعاده على غير عادة عن السياسة، فإنَّ الموضوع في رأيي مهمٌّ وله انعكاسات ومدلولات اجتماعيَّة وسياسيَّة، مبكية أكثر منها مضحكة.
إنَّ ظاهرة شراء الألقاب أو سرقتها ليست جديدة، وربَّما تعود إلى بداية الحياة الاجتماعيَّة للإنسان. لن ندخل في مركَّبات النقص التي تدفع أحدهم أن يشتري أو يدَّعي رتبة لا يستحقَّها، فهذا اختصاص علماء النفس. ولكن الفرق بين الحصول على لقب "بك" أو "باشا"، وبين شراء لقب علمي يكمن في أن الأول قد يأتي بالوراثة أو نتيجة رغبة سياسية لعوامل ذاتية أم مادية. أما اللقب العلمي فلا يمنح إلا للمستحق، أي مستحق، نتيجة توفُّر مجموعة من الشروط الأكاديميَّة الموضوعية، وبغضِّ النظر عن وضع المرشَّح للدكتوراه السياسي أو المالي أو حسبه ونسبه.
إدِّعاء الدكتوراه ظاهرة متفشِّية في العالم العربي. وهناك أربعة أنواع من حَمَلةِ شهادتها: حامل الدكتواره عن استحقاق من جامعة معترف بها عالميًّا؛ حامل الدكتوراه عن استحقاق من جامعة غير معترف بها عالميًّا؛ مَن اشترى "دكتوراه" في السوق السوداء بما فيها استكتاب أحدهم لأطروحته؛ ومن بلغت به القحَّة أن يدَّعي الدكتوراه، بل أن يفرضها على أصدقائه حتى دون أن يشتريها. ولا نتكلم هنا عن الدكتوراه الفخرية التي تمنحها بعض الجامعات لرؤساء الدول أو لمبدعين معيَّنين لعطاءاتهم الكبيرة في حقول اختصاصاتهم.
يقوم العديد من الناس عن قصد أو عن غير قصد بالترويج لكذبة الدكتوراه. الصحيفة التي تنشر مقالاً لكاتب دون أن تسأله عن شهادته؛ عريف الاحتفال أو الندوة الذي يقدِّم مَن يدَّعي أنَّه دكتور دون أن يتحقَّق من ذلك؛ الأصدقاء الذي يقبلون أن يجاروا الصديق في كذبه عبر مخاطبته "دكتور" على الرغم من معرفتهم الأكيدة أنَّه ليس كذلك. المجتمع في شكل عام الذي بَلَع كذبة أنَّ "من ليس دكتورًا لا اعتبار له"، فحكم بذلك على أكثر أعضائه بعدم الاعتبار بمن فيهم المؤلِّف والصحافي والموسيقار ومعلِّم المدرسة ورجل الأعمال والدبلوماسي والنحَّات.
في المجتمعات الغربيَّة نادرًا ما يُسأل المتقدِّم إلى وظيفة ما عن شهادته. فالمجتمع يقوم على مبدأ الثقة والحساب. الثقة أنَّ ما يقوله المرء هو الصدق ولا شئ غير الصدق، والحساب لمن لا يقول الصدق. مَثَلٌ على ذلك أنَّ عضوًا في البرلمان الكندي ادَّعى لنفسه شهادة لا يحملها. فلما اكتشف الأمر طرده حزبه من صفوفه وبقي عضوًا مستقلاًّ في البرلمان، منبوذًا بل محتقرًا. هذا الأمر، مع الأسف، لا ينطبق علينا. فحتَّى قيام مبدأ الثقة والحساب، لا نرى بدًّا من التحقُّق من صحَّة ادِّعاء أيٍّ كان بحمله شهادة دكتوراه. ولعلَّ أسهل أسلوب لذلك هو سؤال "الدكتور" عن عنوان أطروحته واسم الجامعة التي تخرَّج منها. إنَّها مادَّة جذَّابة للمحادثة وباب للتعارف.
نحن، في عالمنا العربي، نعيش سلَّمًا معكوسًا من القيم، يمكن اختصاره بالقول: "أكذب تكذب معك الدنيا، اصدق، تصدق لوحدك." هذه المنطق المعكوس قد جلب علينا الكثير من الويلات والمصائب والهزائم. كم يكون جميلاً لو نصوِّب سلَّم تلك القيم المعكوسة، فنقول مثلاً: "أصدق، تصدق لنفسك، واكذب تكذب على نفسك." ذلك أنَّ من يكذب، وفي نهاية المطاف، يكون كمن ينتحر بسمٍّ طيِّب المذاق ولكن ببطء وسط تصفيق الناس وهتافهم له: "أهلاً يا دكتور.