الشيخ يوسف القرضاوي.. علامَ السخرية من الآخر ونحن أهل مسخ أيضاً!


إن كان لكل مقال أو بحث سبب أو حافز، فلهذا المقال سببان أو حافزان، الأول ما سمعته من لسان الشيخ يوسف القرضاوي، وهو يتحدث من على شاشة قناة الجزيرة في برنامج "الشريعة والحياة" عندما سخر من عقائد الأديان الأخرى التي آمنت بالمسخ بين الكائنات، والثاني ما أبلغني به أحد مواطنينا الصابئة المندائيين من موقف واجهه به متشدد مسلم، يوم شاركه في مائدة عرس، وهو لا يدري أنه على دين آخر، ولما علم رجل الدين استرجع الطعام من معدته أمام المندائي، فقال لي "تمنيت أن الأرض شُقت وابتلعتني، لشعوري الكبير بالإهانة".
يعتقد الشيخ القرضاوي خطأ أو مكابرة أن المسلمين لا يؤمنون بالمسخ، وكأنه لم يقرأ الآية ولم يبحث في تفسيرها "وجعل منهم القردة والخنازير" (المائدة)، لذلك أطلق لسخريته العنان مع القول: "كيف يعتقد هؤلاء أن الإنسان يتحول إلى حيوان عقوبةً له في الآخرة؟". أما رجل الدين الذي أهان المندائي فكان لا يملك أدنى أُصول اللياقة، فسارع إلى افتعال مشهد من مشاهد الكراهية، وتكريس البغضاء بين أبناء البشر. فإذا كانت الأديان لا توحد البشر بعاطفة وضمير وأخلاق فمَنْ المؤهل لتوحيدها، وبث الوئام الاجتماعي والمحبة والسلام على الأرض؟ يبحث هذا المقال في عقائد الناس في الأطعمة، عقائد لا تخلو من الموروث، ولا تخلو من التحولات في المنزلة أو المكانة بين المقدسات والمدنسات. فإن أتفق الإسلام مع اليهودية في تحريم لحم الخنزير اختلف معها في لحم الجمل، وتناول نوع من الشحوم. وإن يغيب الهندي عن الوعي عند مشاهدة ذبح الشاة أو تقطيع السمك يهلل الآخرون ويباركون أفراحهم بهذا المشهد. والقرآن لم يغفل هذا الحال، حتى جعله حكمة ربانية، جاء في الآية: "ولو شاء ربك لجعل الناس أُمة واحدة ولا يزالون مختلفين"(هود). فمَنْ يتفكر في هذه الآية هل ينزع إلى جعل البشر على دين واحد؟ وهل ينزع إلى توحيد الأطعمة؟ وهل ينزع إلى السخرية من الغير وإهانتهم على طريقة الشيخ القرضاوي ورجل الدين المشار إليه، الذي لا يهمه جرح إنسان، تطلبه النجف لتعمير القبة العلوية؟ فليس هناك صاغة أكثر فناً من الصابئة المندائيين.
يختصر الحديث، الذي لا يعترف بصحته أئمة مثل ابن قيم الجوزية "لو أحسن أحدكم ظنه بحجر لنفعه" الجدل حول مبررات ودواعي عبادة الطواطم بشكل عام. لكن هاجس حب المعرفة يدفع باتجاه البحث في جذور هذا النوع من العبادة، والوقوف على تصوراتها المثيولوجية والدينية الغابرة. قد لاتتعارض المعرفة مع معتقدات وطقوس بعضها لازال قائماً، بل يؤدي إلى فهم مشترك بين الناس وتقارب أكثر في الاعتراف بالآخر. لم ينشأ الناس على مقدس واحد، وسيحيون هكذا، وبالتالي قاد هذا التنوع إلى اختلاف الطقوس، فقد تكون الصلاة للبقرة سخفاً لدى أهل الكتاب، بينما يتعجب الهندوسي من الدعاء للإله الفرد المنزه من الأوصاف الجسمانية، الذي يحيي ويميت. أدى اختلاف الطقوس إلى المقدس والمدنس من الأطعمة، فغدا طعام أهل هذه الملة رجساً يغضب الرب وغدا طعام الملة الأخرى طاهراً يرضي الرب، وبهذا يبتعد البشر عن بعضهم البعض، وتنشأ بينهم عداوة بسبب إهانة بقرة مثلما يتعصب الهندوس لها، أو نبذ أكلة لحوم الكلاب مثلما يفعل الكوريون والكمبوديون.
فرغم أن القرآن أباح طعام الكتابيين من يهود ونصارى للمسلم في الآية" أحل لكم الطيبات وطعام الذين أُتوا الكتاب حلٌ لك وطعامكم حلٌ لهم". إلا أن المفسرين اختلفوا بين متسامح ومتشدد حول تفسير هذه اللآية وتحديد نوع الطعام، هل هو اللحم أم الحبوب والبقول. قال البهبهاني: "الآية قاطعة بجواز أكل ذبائحهم" (ذبائح أهل الكتاب). أما المتشددون فيصرون أنه الحنطة والشعير والعدس وغيرها، لكن ما الحكمة من إباحة أكل حبوب وبقول غير المسلمين فليس فيها طريقة ذبح، ولا هي من محرمات صيد البر والبحر! إن معرفة جذور ما يعتقده الإنسان يقود إلى مراجعة تعصبه ضد ما يعتقده الآخرون، وإعادة النظر في مبرراته الجديدة في محاولة لفرض ما حرم وحلل في إطار البيئة الدينية.
كل إنسان له أسبابه المثيولوجية والدينية في تدنيس حيوان أو تقديس آخر، تراه قدس البقرة، وأجل الخيل، وتصور الملائكة بأجساد وهيئات حيوانية، واعتقد بخبر البراق التي وصفها الدميري بالقول: "دابة دون البغل وفوق الحمار بيضاء كان الأنبياء يركبونها". وخاتم الدين الصابئيى المقدس (الأسكندولة)، يتألف من صور أربعة حيوانات: "الحية والعقرب والأسد والزنبور، وهي ترمز على التوالي إلى عناصر الطبيعة الأربعة: التراب والماء والنار والهواء، تختم به سرة الوليد، وموضع القبر قبل حفره، مباركة للحياة وإكراماً للموت. وإذ لُعنَّت الحية التي تذكر الأسطورة سرقتها لنبات الخلود، الذي غامر من أجله جلجامش، من قبل اليهودية لمساهمتها في إغواء آدم، حلت رمزاً مقدسا نحته الأيزيديون على واجهة كعبتهم، وهو مزار الشيخ عادي في وادي لالش بشيخان قريباً من دهوك.
قدس الإنسان ثم دنس الخنزير والكلب، فهناك إشارة لا نعرف مدى حقيقتها تقول: "الخنزير الوضيع كان طوطماً لليهود السابقين للتاريخ"(قصة الحضارة). وقيل قُدس الخنزير "لكثرة تناسله". وبين عالم الطيور ظهر الغراب في التوراة والقرآن رسولاً بعثه نوح، لكنه لم يأته ببشارة يبس الأرض، فتعلم الإنسان منه حفر القبور ليصبح نعيبه نذير شؤم يضرب به المثل: "أشئم من غراب البين". قبل ذلك تمنى أهل دلمون السومرية أن لا ينعب فيها غراب، فالغربة الموحشة توأمه اللغوي، بينما يتخذ من الحمامة، التي حملت إلى نوح غصن الزيتون الأخضر علامة على انحسار الطوفان، رمزاً للسلام. ويصطفي أهل أهوار جنوب العراق، من بين أنواع السمك، سمكة الجري الملعونة عندهم حارساً لهم من عبث الشياطين، تعلق على واجهات بيوت القصب لتطرد ما يعرف بـ(الطنطل). بينما قديماً قرأ البابليون أكباد الغنم، مثل قراءة كف الإنسان اعتقاداً منهم بصلة روحية بين أبراج السماء وكبد هذا الحيوان.
كانت القرابين البشرية تقدم للإله، من آثارها وأد البنات والختان، ثم استعيض عنها بالقرابين الحيوانية، فكان الكبش عوضاً عن أسحق بن إبراهيم الخليل، والإبل عوضاً عن عبد الله بن عبد المطلب. تبادل البدوي مع الحيوان خيرة الأسماء فالأسد: عنبس، حيدرة، أسامة، هرثمة، ضيغم. وتعددت أسماء وألقاب حيوانات أخرى، فالذئب: أوس، نهشل وسرحان، والصقر: قطامي، وفحل الحجل: يعقوب، وفرخ العقاب: هيثم، والحمامة: عكرمة، والفيل: كلثوم وثعلبة، وبيض النمل: مازن، والحية: أرقم، والقرد: أبو خالد، أبو قتيبة، أبو حبيب، أبو خلف وأبو ربه. أما الخنزير فرغم وضاعته ورجسه تعددت كناه، فهو: أبو جهم، أبو زرعة، أبو عتبة، أبو علية وأبو قادم. تتقدم هذه الشخوص والعلاقات كفاتحة استقراء جذور العلاقة بين المقدس الحيواني وما وصلنا من إباحة وتحريم أو تفاؤل وتشاؤم، لعب فيها الحيوان دوراً رئيسيا، فتارة يظهر كمعبود، بينما تارة أخرى يبدو خسيسا يحرم لمس شعره، لكن السحر والطب جائزان بقرونه وعظامه وشحمه.
ارتبط اسم الحيوان بمعنى الحياة، ففي العربية أشتق من حيي، وقبلها عرف في السريانية (حايوتو) من حيا، وفي بعض لهجات الآرامية الشرقية (المندائية) عرف (هيوا) من هيا. بعدها سمى القرآن الحياة بالحيوان، قال: "وما هذه الحياة الدنيا إلا لهوٌ ولعبٌ وإن الدارَ الآخرة لهي الحيوانُ لو كانوا يعلمون". ولأن الولادة تعني الحياة أطلق العرب تسمية (حيي) على فرج أناث الحيوان، وتسمية (حي) على فرج المرأة كبوابة للحياة. وتقديسا لذوات هذه البوابة ورد تحريم ذبح أنثى الحيوان في بعض الأديان مثل الصابئي المندائي.
اتخذ الإنسان من الحيوان طوطماً بدافع الإعجاب بقوته مثل الأسد وبهيئته مثل الطاووس، ويقدم عرفانه للبقرة في المساعدة في العمل والغذاء، وللكلب لحمايته وحراسته. يتجلى التقديس بمظاهر شتى كأن "يحرم على جميع أفراد العشيرة، أن يمسوا بسوء أي فرد من أفراد طوطمها، كما يحرم عليهم أن يأكلوا لحمه، أو يدخلوا شيئاً من عناصره في أجوافهم. وتعد مخالفة هذه القاعدة، في نظر هذه العشائر، من أكبر الجرائم ويعتقدون أنها تؤدي تلقائيا إلى موت المجرم موتا عاجلا أو بطيئا، أو عذابه عذاباً أليمأ، ويستثنى من هذه القاعدة بعض الحالات التي حددتها التقاليد، فمن ذلك أنه يباح لأفراد العشيرة في بعض المناسبات الدينية أن يأكلوا من طوطمهم الخاص على أنه طعام رباني مقدس".
إن إباحة تناول لحم المعبود المذكور تظهر مستحيلة في مناسبات أخرى، يذكر عن المصريين القدماء انهم "أكل بعضهم بعضا إبان المجاعة، فذلك آثر عندهم من الاعتداء على تحريم أكل الحيوان الذي اتخذته القبيلة طوطماً". ما فعله المصريون قديما يفعله الهنود اليوم، فهم يمتنعون عن ذبح البقرة لأنها مقدسة، بل يمتنعون عن تناول لحم ذوات الأنفس كافة، أو قتلها إلا للضرورة القصوى، كالدفاع عن النفس مثلاً. ورغم اندثار الكثير من تلك العبادات الطوطمية وتحولها إلى عبادة الإله المنزه، لكن تحريماتها انتقلت إلى أديان موحدة فيما بعد.
وردت في الكتاب المقدس التحريمات التالية: "لا تأكل قبيحة، هذا ما تأكلونه من البهائم: البقر والغنم والمعز، والأيل والظبي واليحمور والوعل والرئم والثيتل والمعز البري، وكل بهيمة ذات حافر مشقوق إلى ظفرين وهي تجتر من البهائم فأيها تأكلون. وأما هذه، وهي من المجترات ومن ذوات الحوافر المشقوقة فلا تأكلوها: الجمل والأرنب والوبر، فإنها تجتر، ولكنها ليست بذات حافر مشقوق، فهي نجسة لكم. والخنزير فإنه ذو حافر مشقوق، ولكنه لا يجتر، فهو نجس لكم، لا تأكلوا شيئا من لحمها وميتها لا تمسوا ميتتها".
وأورد القرآن بعض تحريمات اليهودية في الآية: "على الذين هادوا حرمنا كل ذي ظُفر، ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومها، إلا ما حملت ظهورها أو الحوايا أو ما أختلط بعظم، ذلك جزيناهم بغيهم وإنا لصادقون". فهذه التحريمات التي أعتبرها القرآن عقوبة من الله على اليهود، تظهر في التوراة أمراً إلهياً مفيداً ورد في الكتاب المقدس: "وكلم الرب موسى قائلاً: خاطب بني إسرائيل وقل لهم: كل شحم من بقر أو ظأن أو معز لا تأكلوه وشحم الميتة يستعمل في كل عمل، ولكن لا تأكلوه. مَنْ أكل شحما من البهيمة التي يُقرَّبُ منها ذبيحة بالنار للرب، يفصل ذلك الإنسان الذي أكله من شعبه. وكل دم لا تأكلوه في جميع مساكنكم من الطير والبهائم، وأي إنسان أكل شيئا من الدم، يفصل ذلك الإنسان من شعبه".
جاء في قاموس الكتاب المقدس حول علة تحريم الشحم: "يظهر أن هذا القانون أصبح غير نافذ بالنسبة للبهائم من البقر والغنم التي تُذبح للأكل، نظراً لبعد أماكن إقامة الشعب (بني إسرائيل) عن المذبح، ولعل الفكرة يقصد بها إنكار الذات وتقديم أحسن شيء ليهوه، على أن كلمة الشحم أستخدمت في الكتاب المقدس بمعنى الوفرة والرخاء". وهنا نحن أمام التحريم بدافع التقديس، فما هو للرب يحرم على البشر، أو للحث على الزهد والتواضع في الطعام.
أما عن التحريمات التي تخص حيوان الماء والطيور، فقد ورد في السفرين المذكورين: "هذا ما تأكلونه من جميع ما في الماء: كل ما له زعانف وحَراشف فإياه تأكلون، وكل ليست له زعانف وحراشف فلا تأكلوه، إنه رجس لكم. وكل طائر طاهر فكلوه، وهذا مالا تأكلونه منه: العقاب وكاسر العظام والصقر والحداة الحمراء والحداة السوداء والحداء بأصنافها وجميع الغربان بأصنافها والنعامة والخبل وزمج الماء والباشق بأصنافه والبومة الصماء وأبو المنجل والبجعة والرخمة والغاقة واللقلق ومالك الحزين بأصنافه والبوم والشاهين والقوق والرخم والهدهد والخفاش، وكل الحشرات المجنحة هي نجسة فلا تؤكل، وكل طائر طاهر فكلوه". وردت شروح هذه التحريمات في "تفسير سفر الأحبار" بما له علاقة بطبائع الحيوان واقتران ذلك بسلوك الإنسان، فعلى سبيل المثال: أن ميزة الاجترار لدى الحيوان تعني: صلاة وقراءة كل حين، كذلك تفسر نجاسة عديم الفلوس من الأسماك بالقول: "الذي لا زعانف له ولا قشور، فأوساخه كامنة فيه، وهذا يشبه من لا ينقي ذاته، كل حين"، على هذا المنوال فسرت التحريمات الأخرى. وكثير من لحوم هذه الكائنات محرمة عند فرق مسلمة.
خلاف ذلك، ألغت المسيحية التحريمات السابقة كافة، مكتفية بتحريم ما ذبح لوثن والمخنوق. ظهر ذلك في مكملات العهد الجديد من أعمال الرسل والرسائل. من التحريمات التي وردت في "أعمال الرسل": "إجتناب ذبائح الأصنام والدم والميتة والزنا، فإذا احترستم منها تُحسنون عملاً، عفاكم الله"، و"أن أجتنبوا نجاسة الأصنام والزنا والميتة والدم" جاء في إباحة اللحوم: "فرأى السماءَ مفتوحةً، ووعاء كسماط عظيم نازلاً يتدلى إلى الأرض بأطرافه الأربعة، وكان فيه من جميع ذوات الأربع وزحافات الأرض وطيور السماء، وإذا صوت يقول له: قم يا بطرس فأذبح وكُلْ، فقال بطرس: حاشى لي يارب لم آكل قط نجسا أو دنسا، فعاد إليه صوت فقال ثانياً: ما طهره الله لا تنجسه أنت، وحدث ذلك ثلاث مرات، ثم رفع الوعاء من وقته إلى السماء".
عموماً، ورد في المسيحية: "ليس ما يدخل الفم ينجس الإنسان بل ما يخرج من الفم هو الذي ينجس الإنسان". لأن ما يدخل الفم ضرره على الذات، لكن ما يخرج منه من طعام أو كلام مؤذي يعم ضرره على الآخرين. إن الحديث الرسولي التالي يشير إلى إيمان المسيحية أن الأصل في الأشياء الإباحة، مثلما هو في الفقه الإسلامي، قال بولس: "كل شيء حلال ولكن ليس كل شيء بنافع، كل شيء حلال ولكن ليس كل شيء يَبني". تراعي المسيحة مشاعر الناس، فتوصي أن لا يُشعر المسيحي أهل الأديان الأخرى بنجاسة طعامهم، إنه كلام مؤذي وحرامه أكثر من تناول الطعام المحرم، ورد في الحديث الرسولي: "كلوا من اللحم كل ما يُباع في السُّوق، ولا تسألوا عن شيءٍ مراعاة للضمير، لأن للرب الأرض وكل ما فيها. إن دعاكم غير مؤمن ورغبتم في تلبية دعوته فكلوا كل ما يقدم لكم ولا تسألوا عن شيءٍ مُراعاة للضمير، ولكن إن قال لكم: هذه ذبيحة للآلهة فلا تأكلوا منها لأجل مَنْ أخبركم ومراعاة للضمير". وكم يناغم الإمام أبو حنيفة النعمان هذا النص المقدس حين يوصي أحد تلامذته وهو يودعه بعد إنهاء دراسته على يده بالكوفة: "عاشر أهل الأديان بمعاشرتهم".
أختزل الإسلام تحريمات اليهودية والمندائية إلى تحريم الميتة والدم الخنزير كما ورد في القرآن، وفقهيا إلى تحريمات أخرى. لقد ورد تحريم الخنزير في أربعة آيات صريحة منها: "قل لا أجد في ما أوحي أليَّ محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتةً أو دماً مسفوحاً أو لحم خنزير"، وفي هذه الآية ألغى الإسلام تحريمات العرب السابقة مثل أناث الضان والماعز وغيرها، مثلما هي محرمة عند الصابئة المندائية. وتفسر الآية: "وجعل منهم القردة والخنازير". التحريم الإسلامي للخنزير كونه بشراً ممسوخاً، والأساس هو تحريم لحم البشر لكرامة جنسه، فالله خلقه على صورته، كما ورد في "التوراة" والحديث النبوي. ولا أثر مطلقاً في الفقه أو التفسير الإسلاميين إلى مانع أو سبب لتحريم لحم الخنزير، أو أي كائن آخر. لقد أُبتُدع السبب الصحي حديثاً. أقول هذا رغبة في البحث عن حقيقة علة تحريم لحم الخنزير وغيره الدينية، لأنه ممسوخ لا لأنه مضر في الصحة.
يعلل الجاحظ التصريح بتحريم الخنزير دون القرد رغم الاعتقاد بمسخه أيضا بالقول: "زعم ناس أن العرب لم تكن تأكل القرود، وكان من تنصر من كبار القبائل وملوكها يأكل الخنزير"(كتاب الحيوان). وقال الجاحظ في السياق نفسه: "علم الناس كيف استطابة أكل لحوم الخنزير، وأكل لخنازيرها، وكيف كانت الأكاسرة والقياصرة يقدمونها ويفضلونها، ولولا التعبد لجرى عندنا مجراه عند غيرنا، وقد علم الناس كيف استطابة أكل الجري لأذنابها".
من غير ما حرمه القرآن حرم الفقه الإسلامي العديد من اللحوم، بالاستناد إلى سنة نبوية أو قياس على المسوخ من الحيوانات، يأتي في مقدمتها لحم الكلب، واختلاف المذاهب في نجاسة وطهارة شعره، كما هو الموقف من جسم الخنزير. كانت مرجعية هذا التحريم أحاديث نبوية منها: "لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب ..."، بينما ورد نص قرآني يؤكد إباحة وتفضيل ما تصيده الكلاب على صيد الكواسر من الطيور، جاء في الآية: "قل أُحل لكم الطيبات وما علمتم من الجوارح مكلبين". كذلك روى البخاري في صحيحه عن عبد الله بن عمر حديثاً للنبي: "خمس دواب لا حرج على مَنْ قتلهنَّ: الغراب والحدأ والفأر والعقرب والكلب العقور". وروى ابن ماجة عن عائشة حديثا آخر يقول: "الحية فاسقة والعقرب فاسقة والفأرة فاسقة والغراب فاسق"، معلوم أن الفسق يوجب التحريم عملياً. وظهر تحريم سمك الجري في الفقه الجعفري، أسوة بالسمك الذي لا فلوس والطير الذي يصف جناحيه عند الطيران غالبا، ومبرر هذا التحريم هو المسخ أيضا.
يعزو بعض الفقهاء علة التحريم المرتبطة بالمسوخ إلى القصد التالي: "لكي لا ينتفع بها، ولا يستخف بعقوبته". من المسوخ المحرمة يذكر صاحب "مستدرك الوسائل": أن بشراً مسخوا إلى قردة لأنهم اصطادوا الحيتان في السبت على عهد داود، وآخرين مسخوا إلى خنازير، بسبب كفرهم بمائدة السماء التي نزلت على عيسى بن مريم (أنظر إلى محتويات هذه المائدة أعلاه، تجمع من كل ذوات الأربعة بما فيها الخنازير والكلاب، فكيف يمسخ الله عقوبة الذي كفر بهذه المائدة؟)، ومن مسخ إلى عقرب كان يسعى بين الناس بالنميمة، وسمك الجري كان تاجرأ يبخس الناس في المكيال والميزان، والفيل كان شابأ جميلا ينكح البهائم من البقر والغنم، والدعموص كان رجلاً إذا جامع النساء لم يغتسل من الجنابة فجعل قراره في الماء إلى يوم القيامة، والدب كان رجلاً يقطع الطريق ولا يرحم الغريب، والضب كان رجلاً من الأعراب يضل السائلين عن الطريق، والعنكبوت كانت امرأة خائنة لبعلها، والقنفذ كان إعرابيا يغلق الباب بوجه الضيوف. وهكذا، حسب هذه المعتقدات، ينحدر عالم الحيوان من الإنسان، فالحيوانات جميعاً كانت بشراً مسخت عقوبة لمخالفة الشرائع والأعراف. فمَنْ يدري لعلَّ هناك مَنْ سيواجه نظرية دارون "أصل الأنواع" بنظرية المسوخ!
ختاماً، لا أجد الشيخ يوسف القرضاوي فتش في مقالات الأديان الأخرى فتوصل إلى السخرية بها، كما لا أجد المتشدد الذي جرح مواطنه الصابئي تخلص من نكة، ابتدعها العوام، أن المندائيين يعبدون كائناً يقال له "شميدهيه" بينما الحقيقة أنهم يقول بالمندائية، وهي الآرامية الشرقية "بيشميهون ادهي ربي" أي "بسم الله المتعال"، وما يقابله عند المسلمين "بسم الله الرحمن الرحيم". لكن شر الشرور الجهل!

[email protected]