رجال أعلى من درجة مواطن


ظاهرة القداسة التي راحت تنشر بآفاقها على الواقع العراقي، صارت ملفتة بطريقة مريبة ومخيفة، الى الحد الذي بات العراقي في خطابه ينكص الى لغة العصور الوسطى، في سبيل توصيف شخصية ما، أو التعليق على حدث بعينه، بل أن النفاق صار يتجلى بطريقة خارقة متخطية حدود، لازمة حفظه الله ورعاه التي كانت تلصق بإسم القائد المظفر ربيب الحفر.ومن الإفراط المبالغ فيه من التقديس الى العلامة والشيخ ، صارت الفرائص ترتعد والعيون تزور خشية وفرقا من غضب المترصدين والأتباع المتحفزين للهجوم والإنقضاض بهستيريا غريبة وعجيبة بإزاء من يتجرأ على نسيان أوصاف التقديس والتبجيل والطاعة لبشر مثلنا، يأكلون ويشربون ويمشون على أقدامهم كباقي الناس والخلق.وهم محترمون من دون شك، ولهم مكانتهم الأثيرة والكريمة وفي النفوس، ولكن يحتاج الأمر الى البعض من البحث والتبصر، على طريقة كلام هاديء في جو عاصف.


الدنيوي والمقدس
يتداول الأخوة في تونس مثلا في غاية الحذق وخفة الدم، مؤداه(( تريد تفهم تدوخ)) وبالفعل نجد الظاهرة العراقية وقد تلفحت بالمزيد من مظاهر التضبيب والتداخل، فإلى أين يسير العراق ونحو ماذا ، الى النظام الثيوقراطي، حيث القداسة التي يتم إسباغها على المشايخ ورجال الدين، وهل ولاية الفقيه تلوح في الأفق، بعد التكثيف اللافت لمصطلحات بعينها، أو حالة الإستنفار في أقصاها لدى علماء السنة والجماعة.وإذا كان العامل السياسي قد طغى على المجمل من الحقول والمفاصل الى الحد الذي تم فيه طمس الفاعل الإجتماعي، خلال سنوات القمع الفاشي وتغلب السلطان المملوكي الصدامي ، بإسم الشعارات القومية. فإن العامل الديني صار الأشد حضورا في ظل تغلب العواطف والشعور بالإنسحاق الذي يعاني منه المواطن العراقي ، بعد أن فقد الأمل بكل شيء.
كان يمكن للبعض من تداول النقد وقبوله، بإزاء النظام الشمولي، بإعتبار مرجعياته الوضعية التي يستند إليه فكره ورؤاه وتصوراته، فكيف بالعراق اليوم إذا ماتسيد المشائخ ورجال الدين لسدة الواجهة ، ومن هذا الذي سيجرؤ على رفع عقيرته صائحا أو ناقدا أو حتى (( معاذ الله ناقما))!! لا شك أن تهمة التكفير ستطاله هو وحتى السلسال السابع عشر من أجداده، فالمطلق هو السائد الذي يتحصن به رجل الدين والذي يكون عادة متحصنا بلقب العالم ، حتى كان البسطاء يقولون متخابثين(( خليها براس عالم واطلع منها سالم)) لكن الأمر هنا لاينفع معه لا(( سلامة فكرية))، سيئة الصيت والتي كانت مجالا للتحريض والتهميش والإقصاء، بل أن الإتهام سيكون شديد الربط بمفاهيم من نوع الحد والردة والطاعة العمياء لأولي الأمر، الذي سكتوا وقاسوا وتحملوا إذلال القائد، واليوم جاؤوا يحصدون ثمن الإذلال في قداسة تمد حضورها على الناس كافة، من دون الأخذ بنظر الإعتبار أطياف التنوع الديني والعرقي الذي يقوم عليه العراق.
تقرأ التحليلات التي تعج بها المواقع الألكترونية والصحف الورقية ، فيقشعر بدنك لكل هذا السيل الجارف من الخوف والخشية والريبة التي تحط على رؤوس الجميع، الكل يرتجف ويخشى من النقد والتحليل لأي قرار يصدر عن رجل دين سنيا كان أم شيعيا، خوف مركب يذكر بمحاكم التفتيش التي طال شررها غاليلو غاليلي، والذي طلبوا منه أن يعتذر ويكذب فكرة دوران الأرض، لكنه لم يستطع أن يكتم همسة مفادها(( ولكنها تدور)).


الدنيا تدور
هي الأرض التي دارت ومازالت تدور، بإسم الله العلي القدير الواحد الأحد، الذي لا شريك له ولا ولد.ومن هذا المعطى فإن الترهيب الذي تقوم به بعض الجماعات الظلامية ، تحت مسمى التقديس لهذا المواطن أو الفرد، لا يدخل إلا تحت مسمى الإرهاب الفكري والمعنوي.ومن هذا فإن الكائن العراقي بسنواته التي عاشها وسط الإذلال والرعب والخوف والقتل المجاني ، حري به أن يحيا عزيزا كريما مصانا، من دون وصاية لأحد عليه، لا رجل سياسة ولا رجل دين، دعوه ياسادة وعلماء ومقدسين ويابسطاء وعظماء، إتركوه بالله عليكم يحيا ما تبقى له من السنوات التي تبقت له، فقد تغضنت عروق القلب وتيبست الشرايين وجفت العواطف، أما من يرد أن يعيش الحماسة الدينية فله مطلق الحرية في ذلك، فليمارس طقوسه وشعائره وعبادته وتدينه ، من دون أن يكون ذلك سيفا مسلطا على رقاب الآخرين، أيها العراقي الجليل ياذا القدر والمهابة ، تدين وأطلق اللحى واقرأ القرآن الكريم وصل على محمد وآله الأطهار المشرفين المكرمين،وافتخر بدينك وطائفتك وانتمائك وصلواتك وتقواك،ولكن لا تجعل من هذا أداة لترويع الآخرين .فالدين النصيحة والكلمة السواء.ولنتذكر جميعا مقولة الإمام علي بن أبي طالب ((ع))، عندما أغضب حكمه رجلا مسلما، بعد أن ساوى وإياه ورجل نصراني، ليقولها صادحة عذبة رخيمة، تتناقلها الأجيال طرا بمحبة وتسامح؛(( إن لم يكن هو صنوا لك في الدين ‘ فإنه صنو لك في الخلق)).
تعالوا جميعا نعيش المحبة من دون تأليب وتحريض، لنحترم بعضنا البعض ولنؤازر بعضنا الآخر، فلا وطن ولا أرض ولا شعب من دون الإيمان بمبدأ التعايش السلمي الذي يكفله القانون والدستور، ولنتذكر جميعا بأن الجميع في العراق الجديد المأمول هم مواطنون لديهم ذات الحقوق وعليهم ذات الواجبات، يفكرون ويخطئون ويصححون، خاضعون للنقد والتصحيح والتعديل، يبدون الرأي ويبقى الواقع بمثابة الفيصل الذي يمكن الإحتكام إليه، في تحديد مجال الصواب والخطأ.لنحترم رجل الدين والسياسي والأكاديمي والعامل البسيط والكادح الذي يشقى بشرف من أجل قوت عياله، وكفانا تقسيمات وتوزيعات وطبقيات، فقد تم إذلالنا من قبل المستويات الحزبية ، ولنتذكر جيدا من كان يجرؤ للنظر في عيني عضو الشعبة أوالمكتب البعثي، فهل نعيد الكرة ونستبدل هذا بذاك، وإذا ما اعترض البعض على هذه المقارنة المجحفة والتي تندرج في إطار القسمة الضيزى، فإن التراكم للفعل الإجتماعي لا بد أن ينتج نمطا من هذا النوع، فكيف بنا إذا تراكم واستفحل.ومن هذا الذي سيمكنه الخلاص من وصاية الأمر بالمعروف والتهي عن المنكر، وكيف سيتمكن العراقي من التعامل مع المحاكم الشرعية المنصوبة بإسم الدين والتي لا تتورع عن إصدار الأحكام بعجالة إيمانية لا رادع فيها، فإن كان مظلوما فلابد أن الضحية سيكون مأواه الجنة، وإذا كان ظالما‘ فقد أخذ الجزاء الذي يستحق.

تورنتو