تلقيت ببالغ التقدير رسالة من رجل الأعمال المعروف محمد عبداللطيف جميل يشرح فيها إنجازات مشروعه الوطني (برامج عبداللطيف جميل لخدمة المجتمع). وبصراحة، وبكل تجرد، وجدت أن ما قدمه هذا الإنسان المتحضر إلى وطنه جدير بالحفاوة والتقدير والتكريم والكتابة. فهو بكل حيادية نموذج للمواطن المعطاء الذي أفاء الله عليه النعم، فأنفق كما يحب له الله أن ينفق، وأعطى كما يحب الوطن وأهله أن يُعطي. هذه البرامج التأهيلية في مختلف المجالات، التحق بها كما جاء في التقرير الذي تضمنته الرسالة: (1000) شاب وشابة، وهم يمثلون ما نسبته 7% ممن تقدموا للالتحاق بهذا المشروع التأهيلي هذه السنة وكان عددهم (14981) متقدماً. وتهدف هذه البرامج - كما ينص التقرير - إلى توفير عشرة آلاف فرصة عمل للشباب والشابات السعوديين بنهاية عام 2008م!!
وتساءلت وأنا أقرأ بمنتهى الإعجاب هذا التقرير: ماذا لو أن مائة فقط من كبار رجال الأعمال السعوديين حذوا حذوَ هذا الإنسان، وساهموا في مواجهة البطالة التي تكاد تعصف باستقرار مجتمعنا، بمثل ما ساهم به هذا الرجل؟.. هذا يعني وبحسبة بسيطة أن ما لا يقل عن (مائة ألف) شاب وشابة سيجدون لهم فرص عمل كل عام، وهو ما سيجعل معدلات البطالة المتفشية الآن في أدنى مستوياتها بكل تأكيد.
وأنا أعلم علم اليقين أن ثمة رجال أعمال سعوديين، وبالذات العقاريون منهم، يربحون من استثماراتهم مئات الملايين سنوياً، دون أن يبذلوا في المقابل أي جهد يوازي مداخيلهم الخرافية، ودون أن يترتب على أرباحهم هذه أي مصاريف، أو مخاطر استثمارية، تبرز هذه الأرباح، وبالذات في ظل غياب أي آلية ضرائبية كما هو الأمر في الدول الأخرى، ومع ذلك لم نسمع أن أحدا منهم فعل من تلقاء نفسه مثلما فعل هذا الرجل، ورد الجميل للوطن الذي أعطاه، وجعله في رغد من العيش والثراء، وساهم في التصدي لإحدى مشاكلنا التنموية وأدلى بدلوه في حلها، فهل هو البخل، أم أنها اللا مبالاة، أم هو الجشع والطمع والايغال في حب الذات، وايثار ال(أنا) المتضخمة، على حساب حب الأرض وإنسان هذا الوطن.
إن الرجل المعطاء، والكريم، هو بلغة اليوم، وبأرقامه، ومقاييسه، ليس ذلك الذي يُقيم المآدب، ويذبح الخراف، ويمد الموائد، وعليها كل أصناف الطعام، بل هو ذلك الإنسان الذي يعطي وطنه مثلما أعطاه، ويرد الحسنة لمواطنيه بحسنة مثلها، ويتلمس الأسباب التي من شأنها الارتقاء بهذا الكيان، وبالإنسان فيه، ودفع المخاطر عنه، بكل حب وإخلاص وعطاء ورحابة صدر. فكما يقول المثل الصيني: أن تعطي للفقير سنارة خير من أن تقدم له سمكة.
إننا في ظل مشاكلنا التنموية، وبالذات الطبقية منها، في أمس الحاجة إلى نشر ثقافة التكافل الاجتماعي بين من يملك ومن لا يملك، وتجذيرها، وترسيخها في ذهنية الفرد، تماماً مثلما رسخ أجدادنا ثقافة الكرم والعطاء في أذهاننا وفي تراثنا، ولا سيما ان هذه الثقافة ليست غريبة علينا، بل هي من أساسيات ثقافتنا العربية والإسلامية، فضلاً عن اننا في زمن نحن في أمس الحاجة فيه إلى مثل هذه الاريحيات لإشاعة الحب والتراحم والتآخي بين الناس، وتحجيم الصراع الاجتماعي الأزلي بين الفقر والغنى.
وكلما سمعت أو قرأت عن أولئك الأثرياء في الغرب الذين يساهمون في الأعمال الخيرية في أوطانهم بسخاء، ويوقفون عليها الأوقاف، والمشاريع الاستثمارية الضخمة، أتساءل: أيننا من هذه الممارسات الحضارية؟ وأين صالحونا ومصلحونا من التنافس والتسابق في هذه المجالات؟ ولماذا لا نسمع عن أساطيننا الأثرياء مثلما نسمع عن أساطين الغرب؟.
كل ما أريد قوله هنا أننا يجب أن نسعى إلى تشجيع الثقافة التكافلية، وألا نترك المسؤولية كلها على عاتق الحكومة ومؤسساتها، وأن نعيد صياغة مفهومنا (للكرم) حسب المتغيرات التي طرأت على احتياجات الناس، وبالشكل الذي يخدم قضايانا المعاصرة، ويواكب مستجدات حاجاتنا الإنسانية والاجتماعية. فالكرم لم يعد كما كان يقول الشاعر الشعبي: (والمراجل ذبحة الشاة السميني)، إنما (المراجل) هي اليوم في تعليم الآخر (حرفة) يسترزق منها بدلاً من حشو دمه بالكلسترول!.