اين الحقيقة؟ اين الصواب؟


قرأت مقال الاخ الدكتور خير الدين حسيب المنشور في جريدة الزمان يوم 2 سبتمبر / ايلول 2004 بعنوان : " المشاهد المستقبلية المحتملة في العراق " والذي ضمنه اجوبة متنوعة عن احتمالات ما سيجري من تأثيرات الانتخابات الامريكية واجوبة عن تساؤل يقول: هل ستلعب الامم المتحدة دورا رياديا في العراق. وكم كنت اتمنى ان يبقى الاخ خير الدين في مقاله صاحب رؤية مستقبلية وتأملات موضوعية نتيجة خبراته القديمة في الشؤون العراقية بدل المقدمة التي كتبها مادحا فيها النظام السابق! وعليه، فلقد صبغ رؤيته بالتحيز لا بالحيادية وكأن كل ما ظهر وما بطن حتى اليوم لا يدين اشرس نظام قمعي في التاريخ.. مهما بلغت درجة ايجابياته ان كانت له ايجابيات كما ادعى ذلك الاخ خير الدين حسيب الذي كنت اتمنى عليه من صميم الاعماق ان يراجع مواقفه وتفكيره مع نخبة من الساسة والمثقفين القوميين والاسلاميين العراقيين بعد كل ما حصل وان يلقي باللائمة في ما جرى الا على سياسات العهد السابق التي أودت بالعراق والعراقيين الى هذا المآل من سلسلة الكوارث والمآسي والنتائج المريرة. فالنتائج لابد لها من مضامين واسباب حقيقية ان لم يدركها البعض، فالكل يدركها وستدركها الاجيال الاتية في قابل الايام.


تاريخ شراكة فكرية بيني وبين الرجل
بادىء ذي بدء لابد ان اقول بأنني احترم الاخ الدكتور خير الدين حسيب وان علاقة فكرية قديمة ربطتني به وبمركزه مركز دراسات الوحدة العربية ببيروت منذ العام 1982 حتى سنة 2000 وكنت شديد الاعتزاز به وبجهوده في ذلك المركز الذي شاركت في عدد من ندواته ومؤتمراته فضلا عن مشاركاتي بمقالات ومتابعات في مجلته " المستقبل العربي " ، وكثيرا ما رددت مع غيري عنه انه ( شاخت العراق ) كواحد من ابرز رجالات الاقتصاد في العراق الحديث.. وبالرغم من ان خلافا حادا وقع بيني وبينه منذ العام 2000 وهو خلاف سياسي بالتأكيد، الا ان ذلك لم يمنعني من ان اقدر الرجل حق قدره وقد كتبت عنه تفصيلا في كتابي ( انتلجينسيا العراق: نخب المثقفين في القرن العشرين ) ونشرت مؤخرا مقالا عنه ضمن سلسلة كتابي ( نسوة ورجال: ذكريات شاهد الرؤية ).. مقّدرا جهوده الفكرية ولكن كل هذا وذاك لا يمنعني من ان اخالفه سياسيا في الرؤية الحقيقية للعراق سواء كان على ايام العهد الجائر ام ما تحقق فيه حتى اليوم.. واختلاف الرؤية دليل واضح على اختلاف المنهج والتفكير والمنطلقات برغم ما اردده دوما من ان العروبة لا يمكن ان يحتكرها حزب واحد او جماعة متجبرة او تيار شوفيني او دكتاتور جائر.. فلا يمكن للتيار القومي اليوم – مع احترامي للعديد من ممثليه ومن بينهم اصدقاء لي والدكتور حسيب يعرفهم حق المعرفة – ان يصادر حق الرأي في العراق ويحصي على الاخرين من ابناء الاتجاهات والتيارات الاخرى انفاسهم، بل ولا يمكنه بعد اليوم ان يتحدث باسم كل العراقيين من اقصى الشمال حتى اقصى الجنوب! واود ان اقول ان انتمائنا نحن الاثنين الى مدينة عريقة واحدة كالموصل والى هوية وتقاليد واحدة لا تمنعني من ان اخالفه الرأي علنا من اجل مصلحة العراق العليا اولا واخيرا.


القوميون في العراق
ولكن كل هذا وذاك سيكون على طرف وانا احلل ناقدا ما تضمنته مقالته الاخيرة حول ما كتبه من مقدمات عن المشاهد المستقبلية المحتملة في العراق خصوصا وانه ينطلق من رؤية قومية للمسألة العراقية وهي بالتأكيد متفق عليها اليوم بين الفرقاء القوميين بعد احتلال العراق بعد ان كان الصراع بالغا اوج شراسته في ما بينهم وخصوصا بين البعثيين والناصريين.. ولم يمنع ذلك الخلاف ان نجد حتى في التيار الناصري العراقي انقسامات متعددة، وكم كان خير الدين حسيب يهاجمه العديد من الناصريين وهو ناصري قح وقد حملت بنفسي في واحدة من المرات شتائم احدهم عنه وهو اليوم احد اصفيائه يقرأ له في جريدة القدس العربي !!
اما مع البعثيين فالعلاقة كما تبدو علاقة مصالح مشتركة وقديمة بحيث توضحّت للعيان في التسعينيات.. وكل ذلك لا يعنيني امره بقدر ما يعني ايضا اولئك العراقيين من الوطنيين بمختلف اطيافهم السياسية والذين نالهم الانسحاق والظلم وجبروت النظام لأنهم خالفوه وعارضوه.. فكان ان دفعوا ثمنا باهضا من حياتهم وازمانهم ومستقبلهم.. ان المسألة العراقية التي لابد ان يبحث فيها العراقيون انفسهم ومن حقهم ممارسة ذلك كونها مسألتهم التي تخصهم بالذات، ولا تخص زيد او عمرو من الذين وجدوا في التيار القومي سبيلا لهم ليس للمزيد من التدخلات السافرة، بل وان اصحاب هذا التيار قد تبين كم كانت مصالحهم المادية مرتبطة بالعراق، ولا يخفي عن القوميين العراقيين ذلك عندما يجدوا لاخوتنا العرب حقوقا مشروعة في اموال العراق ومقاسمة ثروات العراقيين، وهذا هو بيت القصيد الذي يؤمن به العرب على عكس العراقيين من اصحاب ( المبادىء القومية ) التي ديست بالاقدام في تطبيقات اغلب الزعماء الشوفينيين ومنظريهم وكتابهم ومثقفيهم وساستهم وحتى دجاليهم والمارقين والمرتزقة الذين عاشوا على فتات الموائد!
لقد تربينا نحن في العراق على ان ثمة مبادىء قومية سامية تطالبنا ليس بتقديم كل ثرواتنا الى اخواننا العرب، بل كل دمائنا ووجودنا وحياتنا.. وهذا ما حدث عن قناعة للاكثرية الصامتة التي وجدت في العراق الحديث منذ ان ولد ابا حقيقيا وليس مزيفا للاخرين الذين من واجبه ان يطعمهم ويسقيهم الى ابد الابدين!
ان اول ما صعقني انني اجد ابان الحرب الضروس مع ايران على امتداد ثماني سنوات الالاف المؤلفة من الشباب العراقيين يتساقطون موتى وجرحى ومشوهين ومفقودين وتنسحق عوائلهم الفقيرة سحقا مبرحا فقرا وحزنا وكمدا.. وان العراقيين يكضمون غيضهم ومآسيهم من دون ان ينطقوا كلمة واحدة ضد صدام حسين خوفا من جبروته وقسوته التي فاقت كل التصورات.. والملايين من الاخوة العرب يسارعون في تحويلاتهم من الثروات العراقية بمليارات الدولارات!! وكان غزو صدام حسين للكويت جريمة اخرى بحيث لم يكتف ابناء العراق البررة بما دفعوه من دماء ودمار شامل للقوات العسكرية المنسحبة في اسوأ حرب غير متكافئة اسمها عاصفة الصحراء.. بل راح العراق في ما بعد يدفع بما سمي بـ " التعويضات " من دون ان يتكلم واحد احد عن مسببها! وكم وجدنا كم دفع العراق للاخرين من شتى الملل والاقوام وشعبه العزيز منسحق تماما وهي ذليل تحت جبروت النظام وقمعه! وبودي ان أسأل: من كان السبب وراء ذلك؟ وبودي ان أسأل القوميين كلهم دون استثناء: ماذا فعل صدام حسين برموز القومية العربية في العراق؟ الم يقمعهم ويشتتهم ويسلخ جلود بعضهم؟ الم يلاحقهم في شتى بقاع الارض كما لاحق الشيوعيين والماركسيين والليبراليين والاسلاميين؟
وقبل ان تندلع الحرب الاخيرة على العراق من اجل اقتلاع صدام حسين ونظامه سمعت باذني وشاهدت بعيني الاخ خير الدين حسيب على قناة المستقلة وهو يقترح على مصر ان تتنازل عن المساعدة الامريكية السنوية وعّقب قائلا: يمكن ان يغطي هذه المساعدة كل من العراق والكويت والسعودية! ولقد فوجئت بمثل هذا " المقترح " الذي يشتري فيه موقف مصر شراء كما تفعل الولايات المتحدة الامريكية، ولكن شتان بين الاثنين! والحقيقة، ان الرجل ينطلق من ضميره القومي اذ انه لا يختلف مع ذاته وتفكيره ومبادئه.. ان الرجل يعّبر اصدق تعبير عن مبادئه التي لم تعد تجدي نفعا في ايامنا هذه وهو يدرك ادراكا حقيقيا كم اصبحت قضايا الامة تباع وتشترى من هذا الطرف او ذاك! انه لم يتفحص الوجه الاخر من الواقع.. وكما قلت في كتابي ( تفكيك هيكل ) الذي ناصبني القوميون بسببه العداء وفي مقدمتهم الاخ خير الدين حسيب، قلت ردا على محمد حسنين هيكل الذي يتهجم على الدول النفطية الخليجية بحجة عدم منحها الدول العربية الفقيرة صدقاتها: لو افترضنا جدلا ان الاية معكوسة بحيث كانت الدول العربية الفقيرة ( التي حملت المشاعل القومية ) هي الغنية وان الدول العربية الغنية اليوم هي الفقيرة والمنعدمة.. فهل ستمنح تلك الدول القومية من ثرائها للمعدمين العرب باسم العروبة؟؟ وعليه، أسأل كل الاخوة القوميين ان يكونوا واقعيين ولو لمرة واحدة وهم يدركون حجم المخاطر وشراسة القوى وتطبيق المخططات.. اذ لم تعد تنفع الشعارات القديمة والعواطف الجياشة والصياحات الساخنة.


العراق وموازين السلب والايجاب
دعوني اتوقف قليلا عند الذي قاله الاخ خير الدين.. اذ كتب: " من المحزن أنه منذ عام 1920 إلي الآن لا يوجد إجماع أو شبه إجماع وطني عراقي إيجابي علي ملك أو قائد أو رئيس وزراء ممن حكموا العراق.. ألا ينبغي مثلاً أن تكون للملك فيصل الأول مكانة في تاريخ العراق أكثر مما أعطته معظم كتب التاريخ؟ وهل كان من الإنصاف أن يحطّم تمثاله في بغداد بعد ثورة 14 تموز (يوليو) 1958؟ هذا مثال فقط، وهو ما ينطبق بدرجات مختلفة علي آخرين في تاريخ العراق المعاصر. لقد كان هناك دائماً تركيز علي السلبيات. كما أنه كثيراً ما تختلط الشائعات بالسياسة في العراق أكثر مما تختلط في غيره، ولذلك سأقول بعض الأشياء الموجهة لإخواننا بالعراق، وسأضطر لقول أشياء لم أكن أبداً لأقولها لولا هذه المناسب ".
كلام صحيح ولكنه اتى متأخرا جدا، اذ لا اعتقد ابدا ان القوميين المتنوعين سواء كانوا بعثيين ام ناصريين ام حركيين ام غيرهم كانوا يؤمنون بمثل هذا الكلام، ولم نسمع منهم ذلك على امتداد خمسين سنة، بل ولم نقرأ في ادبياتهم الثورية الا عن الجماهير، بل ولم يزل اغلب القوميين في العراق لا يؤمنون ولا يجمعون اجماعا وطنيا عراقيا ايجابيا على اي ملك او زعيم حكمهم باستثناء صدام حسين، فهل طالب اي زعيم او سياسي او مثقف قومي عراقي باعادة الاعتبار للملك فيصل الاول او نوري السعيد او عبد الاله او عبد الكريم قاسم.. او حتى الملك فيصل الثاني؟؟، اذ يبقى عندهم الرئيس جمال عبد الناصر رمزا فوق كل الاسماء فهو مثلهم الاعلى بعيدا عن اي قائد او زعيم عراقي.. وعليه، فان الاخ خير الدين اراد من كل ما قاله بوجوب اعادة الاعتبار الى زعامة صدام حسين، اذ تمّ التركيز – كما يقول - على سلبياته وكأن له ايجابيات حقيقية كالتي سيوضحها مقال الاخ خير الدين بعد قليل!!


دفاع عن صدام ونظامه
دعونا نتوقف عند ما قاله وكتبه في مقال: " إن علينا أن ننصف الناس بأن نذكر إيجابياتهم بقدر ما نذكر سلبياتهم. يجب أن نتذكر أن النظام الذي أسقطه الاحتلال الأمريكي كان قد أخذ أول جائزة من اليونيسكو في عام 1981 عن نجاحه في القضاء علي الأمية في بلدان العالم الثالث؛ كما أَمَّمَ صناعة النفط الأجنبية في العراق عام 1972 بكل ما ترتب علي ذلك من مواقف غربية نحوه، كما أفاد دول المنطقة بعد أن نجحت عملية تأميم النفط. ثم إن هذا النظام بني قاعدة صناعية. وأنا إلي غاية مغادرتي العراق في عام 1974 كنت أعرف كل المصانع بحكم المواقع التي كنت فيها في العراق. وعندما دخل مفتشو أسلحة الدمار الشامل في أواخر عام 2002، وكانت جولاتهم تُبَثُّ فضائياً وتبيّن المنشآت التي يفتشونها، فوجئت بقاعدة صناعية جديدة تماماً، هي مبعث فخر واعتزاز لأي بلد يقيمها ولأي مواطنٍ فيه ولو كان معارضاً ".
ما الذي يمكنني قوله؟
اسأل من باب تحصيل حاصل: هل انصف صدام حسين شعبه حتى يمكن لشعبه ان ينصفه اليوم؟؟ وهل تعتبر هذه التي جاءت بالنص ايجابيات فعلا للنظام الذي اسقطه الاحتلال الامريكي؟ وكأن الشعب كان في بحبوحة ورغد ولم يتمنى اقتلاع النظام من جذوره؟ وأسأل: هل نجح النظام السابق في القضاء على الامية حقيقة؟ علينا ان نتحرّى كيف حصل العراق على اول جائزة من اليونسكو في العام 1981 لقضائه على الامية.. ولابد ان نعرف ما الذي جرى حقيقة كي يمنح تلك " الجائزة "؟ وهل يعد تأميم العراق للنفط انتصارا للنظام ام انتكاسة للاقتصاد العراقي برمته خصوصا عندما نعلم بأن تلك المرحلة قد انحسرت خلالها الشركات ليس في العراق، بل في كل دول النفط.. وكما سمعت الاخ الدكتور فاضل الجلبي وهو من ابرز خبراء النفط العالميين يقول بأن تأميم العراق لنفطه كان من اكبر الاخطاء وانه جناية بحق ما حصل في العراق، ففي الوقت الذي انتفضت الاسعار انتفاضة لا مثيل لها واستفادت كل الدول النفطية استفادة خيالية.. عاش العراق في ضنك باعتماده على نفسه ولما استطاع ان يقف على رجليه، زّجه النظام في اغبى حرب مع ايران عرفها التاريخ! واسأل ايضا: اي قاعدة صناعية هذه التي بناها العراق يا اخ خير الدين وانت تتعجب بها وغدت مبعث فخر واعتزاز وانت تعلم بأن العراق يستورد كل حاجياته من الخارج! اي صناعة عراقية متطورة هذه التي لا تعرف الا التسلح وحرق البلايين من الدولارات على التصنيع العسكري؟ اسمه ( التصنيع العسكري ) الذي فجّرت واحرقت كل مرافقه على امتداد سنوات التفتيش من قبل الهيئات الدولية، فمؤسسة ( الحكم ) ( بفتح الحاء ) للصناعات العسكرية فجروها في لحظات وكلفتها مليار دولار؟؟
ما هذا التصنيع الذي جذب الفخر والاعتزاز، وبغداد لا مجاري للصرف الصحي فيها؟ ما هذه الصناعة المتطورة والمدن العراقية تغرق في الظلام بدون طاقة كهربائية على مدى 12 سنة؟ اي صناعة عراقية نفتخر بها والنظام لا ينفق على المدارس والمرافق الخدمية الحيوية للناس؟ اي تخطيط حضري للمدن في العراق على عهد صدام؟ ونحن نرى على شاشات التلفزيون اية مدن عراقية كئيبة ومنسحقة يعيش فيها العراقيون!؟ اي مشروعات اسكان متطورة للعراقيين بنيت على عهد صدام؟ اي مرافق سياحية متطورة وصناعات فندقية في العراق نشأت على عهد البعثيين؟ اي صناعة متطورة للكتاب والمجلة؟ اي ازدهار عمراني للمؤسسات والاجهزة والمرافق العامة؟ اي صناعة للمواصلات المتطورة وسكك الحديد ومترو الانفاق في العراق على عهد صدام حسين؟ اي مراكز تجارية ومصانع منتجة لمختلف المنتوجات الزراعية؟ اي صناعات نسيجية صوفية وقطنية للاقمشة كالتي اشتهر بها العراق ايام العهد الملكي؟ اي صناعات صحية؟ اي صناعات للمعادن والحديد الصلب؟ الخ فليس من حق انصار النظام ان يفتخروا ابدا بالذي كان.. فكيف بمن كان معارضا يا سيدي؟ لقد نجح البعثيون في تبديد ثروات العراق كاملة واحرقوها.. وخدعوا العالم كله انهم اسسوا قاعدة صناعية لا وجود لها على وجه الاطلاق، واتحدّى من يعطيني منتجا عراقيا واحدا كان يعتمد العراق عليه مقارنة بغيره من البلدان التي كانت منتجاتها الصناعية تصدّرها للعراق ضمن ورقة النفط مقابل الغذاء والدواء؟ انني ابقى مذهولا على غرار غيري من الاخوة العراقيين النجباء: اين اتلف صدام حسين ونظامه ما مقداره واحد ونصف تريليون دولار على امتداد عشرين سنة من حكمه؟


المساعدات ام المنهوبات
ويبقى الاخ خير الدين حسيب يعدد ايجابيات النظام السابق قائلا: " كما يجب أن لا ننسي المساعدات التي قدمها النظام إلي العديد من الأقطار العربية وبعض الدول غير العربية، ابتداء من الدعم العسكري، كما حصل في حرب 1973 والمساعدة العسكرية للسودان واليمن وتونس (من أجل الحفاظ علي وحدتها) وموريتانيا (لصد هجوم السنغال)، وانتهاء بالمساعدات المالية السخية التي قدمها العراق لبلدان عربية وغير عربية ".
اقول، لا ضير ان يمنح العراق مساعداته لدول شقيقة ومجتمعات محتاجة للمال اذا كان الشعب العراقي يعيش فعلا في بحبوحة من العيش تصل في درجتها الدنيا الى ما كان تعيشه غيره من الشعوب العربية المجاورة! اما ان يبقى العراقي في عوز وضنك طوال خمسين سنة من حياته التي غطتها المآسي والحروب والانقلابات العسكرية.. فهذا ما لايمكن قبوله ابدا! وفي حروب العرب مع اسرائيل كل الدول العربية تبرعت وساعدت وقدمت، فليس ثمة دالة على النظام العراقي كي نجعله متفّردا على غيره! وبنفس الوقت وقفت دول عربية خليجية الى جانب العراق في حربه ضد ايران في حين باعه الرئيس انور السادات اسلحة قديمة! ان تقديم مساعدات لمن يحتاجها شيىء وتقديم رشاوى لمن يستخدمه النظام السابق شيىء آخر! وهذا هو مقتل اولئك الذين لطموا الخدود وشقوا الجيوب وبكوا بكاء الصعب على رحيل النظام السابق.. ويكفي ان نسأل الاخ الدكتور سعدون حمادي وجوقة من المسؤولين والسفراء السابقين عما يعرفونه من توزيعات لاموال على هذا وذاك! ان المساعدات المالية السخية التي قدمها صدام حسين من اجل منافعه وبقائه في السلطة وشراء ذمم مسؤولين وشخصيات وجماعات ومنظمات واحزاب وقوى.. لم تكن لوجه الله ولم تكن من اجل العروبة والانسانية.. فكيف بعاقل ان يصدّق مهما بلغ به انحدار الاخلاق ان شعبا ينسحق سنوات طوال تحت وطأة الفقر والعوز والمرض والحصار وهو يعيش عيشة غير كريمة على البطاقة التموينية وثرواته تبعثر على المرتزقة وعلى الجواسيس وعلى المصفقين وعلى المخابراتيين وعلى منظمي المسيرات الجماهيرية وعلى منظمي المؤتمرات والندوات وعلى الاعلاميين والفنانين والصحافيين والبرلمانيين والوزراء.. الخ


المقابر الجماعية مرة اخرى
ونثير الموضوع مرة اخرى بعد ان اثرناه في انتقادنا لما قاله الاخ محمد الدوري قبل اكثر من عام حول هذا الموضوع.. ويبدو انها نفس الاسطوانة يعيد انتاجها كل من يريد ان يجّمل وجه النظام السابق.. يقول خير الدين حسيب: " وهناك أمور أخرى. ويجب أن لا ننسي التحيز الفاضح في ما يركز عليه الإعلام. علي سبيل المثال في ما يتعلق بكل ما ذكره الإعلام عن المقابر الجماعية في العراق. كانت هناك فعلاً مقابر جماعية مع كل فظاعتها، إلا أنها لم تكن للمعارضة فقط، فثمة مقابر جماعية للجيش العراقي الذي كان منسحباً من الكويت، لهذا كان بعض الموتي فيها بملابس الجيش العسكرية، كما كانت هناك مقابر جماعية للبعثيين الذين قُتل منهم في هذه الأحداث ألفان.... أرجو أن نتعامل مع هذه الأحداث برفق، وخاصة بالنسبة إلي المستقبل بعد أن حصل ما حصل. وعسي أن يأخذ الإخوة العرب درساً من هذا ".
ونسأل: هل من الانصاف خلط الاوراق بهذا الشكل ولم يمض على سقوط النظام الجائر سنة ونيف؟ هل من العقل بمكان ان تكون للجيش العراقي مقابر جماعية داخل الاراضي العراقية؟ لو وجدناها في اراضي ايران لقلنا هناك مقاربة صائبة اما ان تكون لقواتنا المسلحة مقابر جماعية في اراضينا وفي قلب العراق فهذا ما يضحك حقا؟ وحتى ان افترضنا ذلك جدلا فالنظام هو المسؤول عن حياة العراقيين! فمن الامور التي فاتت على الاخ خير الدين وهو في حال الدفاع عن صدام ان الجيش له احداثيات يومية في الصباح والمساء ولا يمكن لوزارة الدفاع ان تتجاهل منتسبيها حتى في حال الهزيمة، اذ تقوم بعد ذلك بتسليم جثث القتلى الى اهليها ولكل منتسب رقم وهوية.. اما اذا قلنا ان هؤلاء الذين طمروا بملابسهم العسكرية كانوا وقود الانتفاضة الشعبانية في العام 1991 وان النظام حصدهم ودفنهم بملابسهم، فهو مسؤول اذن عنهم امام الله والشعب والتاريخ عنهم! ومما زادنا من ضحكتنا ان يكون للبعثيين مقابر جماعية، فاذا كانوا قد قتل الفان منهم كما يدعي النص وهو لم يقل من قتلهم واعتقد انه يقصد قتلهم من قبل الانتفاضة، فهل من المعقول يا سيدي ان يبقى النظام الفي جثة من البعثيين في مقابر جماعية من دون ان يسّلم الجثث الى اهليها؟ هل البعثي رخيص الى هذا الحد في عهد البعثيين؟ الم تقم هناك جملة اعدامات لمن اشترك في الانتفاضة؟ الم تجري تحقيقات في كل قرية ومدينة؟ كيف يمكننا ان نطمئن الى ان الفي بعثي قد قتل في انتفاضة 1991؟ سيسألنا المؤرخون في المستقبل وسيعلمون بأن هذا العدد مبالغ به جدا.. لقد قتل البعض من البعثيين، ولكن صدام حسين ونظامه انتقم انتقاما لا رحمة فيه من كل المنتفضين.. ويكفي ما عرض من افلام وثائقية خطيرة.. وتكفي اعترافات اركان النظام بما فعلوه، فهم احرص على سمعة عهدهم من الاخرين!


واخيرا: ما الذي يمكن قوله؟
يقول الاخ حسيب: " هذا لا يعني تبرئة للنظام من سلبياته، وهي كثيرة، ولكن من حق الجيل الحالي والأجيال القادمة أن تعلم حقيقة ما جرى وأن تطلع علي الصورة كاملة ". وانا اقول: اي صورة كاملة لم تطلع عليها الاجيال القادمة؟ صور مزيفة عن عهد جائر ام صور تاريخية حقيقية ستحفظها الذاكرة العراقية في الاعماق؟ اي صور مفبركة يريد البعض تعميمها تحت شعارات ولافتات لم تعد تنفع اليوم.. ام صور وثائق وافلام ومشاهدات حقيقية لبلاد شوهت معالمها وقتلت قيمها وشردت نخبها واعدمت رموزها؟ اي صورة كاملة يريدها الدكتور حسيب بعد كل هذا الدمار الذي يعزيه الى الاخرين من اجل ابعاد التهم عن نظام قمعي من دون ان يرى الوجه الاخر الذي يعزي الدمار كله لذلك النظام الذي بقي سادرا في غّيه من دون اية وسائل لدفع الاذى والحرب ونتائجها المزرية على العراق؟ ومن الذي قاد الى احتلال العراق؟ ومن الذي عرض مصالح الشعب العراقي العليا الى الخطر ؟ من الذي ادخلنا في مثل هكذا دوامة صعب جدا الخروج منها؟ وبين النظرتين ستحتكم الاجيال القادمة لتقول كلمتها التاريخية فينا نحن الاثنين. اختتم جولتي هذي ولي جولة اخرى في مناقشة افكار اخرى للاخ الدكتور حسيب متمنيا له دوام الصحة والعافية وان يفتح صدره لمن يخالفه الرأي ولو لمرة واحدة.. وهو يدرك ادراكا حقيقيا ممن يصدر مثل هذا الكلام اذ اتكلم بمنطق الرجل المستقل وليس لي طمع في منصب او جاه او منفعة.. نعم، ليس لي الا مصلحة العراق الحبيب والدفاع عن العراقيين الابرار بعيدا عن كل ما لاقوه عبر خمسين سنة من الاهوال والمآسي. واعد القارىء الكريم ان اعود لاحقا لاستكمل نقد الرؤية الشاحبة للعراق من خلال ما كتبه الاخ الدكتور خير الدين حسيب وخصوصا وهو يدافع عن اسباب صدام حسين في غزو الكويت في العام 1990، علما بأن الرجل كان يدين الغزو مرارا وتكرارا.. فما الذي يجعلنا لا نفّكر كما يفّكر الاخ حسيب؟ هذا ما ساتركه للايام القادمة بحول الله.