"ابن موت" .. كان هذا المعنى هو أول ما تبادر إلى ذهني حين قرأت نبأ فجيعتنا في الزميل الإعلامي ماهر عبدالله، الذي لم يقدر لي أن التقيه سوى مرة واحدة عابرة، والآن أقول ليتها ما حدثت، فرب لقاء يورث المرء ألماً يدوم، كما أنه في المقابل فهناك بشر ممن نلتقيهم يومياً، قد ننساهم عند أول منعطف في الحياة، و"كأن لم يسمر بمكة سامر".
كنت خارجاً للتو من حلبة "مصارعة الديوك" التي يقيمها أسبوعياً صديقنا د. فيصل القاسم، وكان قد تفضل ودعاني للمشاركة في إحدى حلقاتها مع رئيس أحد أحزاب الإسلام الحركي الجزائرية، وكنت مرهقاً للغاية من فرط شراسة المعركة الكلامية، وضراوة صراع الأفكار خاصة وأن القاسم بدا متحاملاً ضدي، وربما كان ذلك بغية بلوغ برنامجه إلى أعلى درجات الإثارة، التي يقوم عليها أساساً.
المهم خرجنا من ستديو التصوير مباشرة إلى مكتب القاسم الذي طيب خاطرنا بكلمتين طيبتين، وأهدى كلاً من الضيف الآخر، السيد جاب الله جاب الله، رئيس حركة الاصلاح الجزائرية، وإياي نسخة من شريط الفيديو الخاص بالحلقة، ولكن عمنا الشيخ جاب الله عفا الله عنه، ظن أن البث لم ينته بعد، فراح يواصل ما قاله وما لم يقله بحق العلمانيين خونة الأمة، وكلاب أهل جهنم، وأوصاف بشعة أخرى نسيتها، وأنا ابتسم مكتفياً بسخرية خارج الموضوع، حتى كاد مولانا أن يحرق دمي، لولا أن فوجئنا بالفقيد ماهر يقتحم علينا المكان، بنزق شاب لم يزل ابن الثامنة عشر، يسلم علينا كأننا أصدقاء قدامى يفتقدهم، ولا أنسى كيف احمر وجهه خجلاً ونحن نطري اداءه في برنامج "الشريعة والحياة" الذي حبسته فيه إدارة الجزيرة، أو لنقل بالأحرى ـ وأجرنا على الله ـ احتكره فضيلة "الشيخ الديمقراطي" يوسف القرضاوي، غفر الله له، إذ إنه في ما يبدو ـ والعهدة على الراوي ـ أقسم بأغلظ الأيمان، ألا تتكرر قصة "سي أحمد منصور" مجدداً، الذي استطاع أن "يتثعلب" على فضيلة الشيخ المعتدل، ليثبت أن "العلم في الراس، ومش في الكراس"، وأنه كما قالت جدتي رحمها الله، "حرص، وما تخّّوّن"، من هنا أحكم مولانا قبضته على البرنامج ومقدمه الفقيد، وكانت الحلقات التي استطاع ماهر أن يفلت فيها من أسر مولانا القرضاوي تتم لظروف خاصة وفي أحوال استثنائية، فإما أن فضيلة الشيخ الدكتور خارج البلاد ـ التي هي قطر ـ يدعو في سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة في ربوع الأرض، أو أن هناك حدثاً كبيراً يقتضي استضافة مرجع شيعي، أو أستاذ جامعي تصادف وجوده في الدوحة، أو أي مبرر يصب في خانة ألا يصبح البرنامج "القرضاوي والحياة"، وليس "الشريعة والحياة"، ولو أن ذلك كان يجري وفقاً لنظرية "ذر الرماد في العيون"، أو قطع الطريق على "المتقولين" أمثالنا.


....
ذهبنا بعيداً .. كالعادة
أعود إلى ما جرى في مكتب زميلنا القاسم، وكيف أضفى وجود المرحوم ماهر عبدالله عليه روحاً حلوة، لكن يبدو ـ والله أعلم ـ أن مفعول هذه الأريحية، وذاك الحضور الإنساني، لم يكن بالقدر الكافي للتأثير في مولانا جاب الله جاب الله، فراح يصب جام غضبه على خونة الأمة الذين هم نحن العلمانيون بالطبع، وكيف أننا نحب أن تشيع الفاحشة بين المؤمنين، وأننا نكره كل مظهر من مظاهر الإسلام، ونتمنى أن تشرق علينا شمس فلا نجد تحت السماء محجبة ولا ملتحياً، ليصل إلى نتيجة مؤداها أننا أخطر على الأمة الإسلامية من اليهود، وأنا يا سادتي كما تعلمون "مسحوب من لساني"، ولست ضليعاً في فن "ضبط النفس"، لكن لا أعلم من أين واتتي هذه السكينة، كنت أستمع لشتائم واتهامات الأستاذ جاب الله، كأنه يروي لي قصة من قصص "أمنا الغولة"، التي نستمتع بها رغم ما فيها من رعب.
فجأة وجه ماهر حديثه للشيخ قائلاً له "مهلاً يا شيخنا .. ترفق فهؤلاء (العلمانيون) مسلمون في النهاية ويشهدون بألا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وأنا أعرف بعضهم عن قرب وبينهم محافظون ومحترمون ويرعون الله وضمائرهم"، قبل ان يكمل المرحوم ماهر تراجع مولانا قائلاً .. "نعم نعم .. التعميم ليس صحيحاً، لكن أنا أتحدث عن الاستئصاليين، متطرفي العلمنة والتغريب"، ولم يقطع هذا الحوار سوى حضور فيصل القاسم، ومعد البرنامج معن الشريطي، لتنتهي القصة، ويذهب كل منا إلى حال سبيله، وكانت هذه الدقائق هي كل ما جمعني بالمرحوم ماهر عبدالله، وإن كنت من محبيه كمحاور تخصص في هذا الإطار من الضيوف، إذ أنه كان بالفعل يدع المتلقي يشعر أنه هو شخصياً مثله، يريد أن يفهم ويتعلم، ويبحث عن إجابات لتساؤلات من كل نوع، ولم يكن يحدث ذلك بسلوك مفتعل ولا مبتذل، بل بتلقائية وحضور لا تخطؤهما العيون ولا الأفئدة، كان بسيطاً منفتحاً .. تجرد من ذاتيته بوعي وإدراك أقرب إلى روح المتصوف أو الراهب الذي لا يملك للمرء أن يبغضه أبداً، مهما اتسعت مساحة الخلاف معه، بل كنت ـ وأتحدث عن نفسي ـ لا أسمح لنفسي أن تحمل تجاهه أي ضغينة، لأنه في المقام الأول إنسان، ويتعاطى مع الحياة انطلاقاً من هذه القناعة، وكل ما يأتي بعدها يمكن أن يصنف تحت بند التفاصيل.
....
"ابن الموت" في الثقافة الشعبية المصرية، هو الفتى، وليس "سقط المتاع" من البشر، هو الفتى الذي يلامس القلوب ويملأ العيون، ويدغدغ الضمائر، وتختزل الخبرة والثقافة الشعبية المعنى في جملة بليغة" الموت مش بيرمرم"، لهذا فابن الموت هو الفتي الذي يدرك فداحة خسارته المخالف قبل الموالي، ولعل ما يؤلم ويكْرُب في هذا الابتسار لحكايات جميلة وهي لم تزل في مبتداها، أو لهؤلاء الموهوبين وهم في منتصف أعمارهم، ولَمَّا يَنفُضوا بعد جُعَب مواهبهم، أو يشرقوا بفيْض إبداعهم وعطائهم، هذا هو ما يؤلم ويوجع حقًّا في الأمر، ذلك الموت المبكِّر للمبدعين، حاملي القلم أو الريشة أو الراية، وهذه الظاهرة الحزينة أصبحت لافتة للأنظار في مشهدنا العربي خلال العقود الأخيرة، وعلى نحو لافت لا يمكن استيعابه إلا في إطار الفلسفة الغامضة القائلة إنه ـ أي الموت ـ تجربة اشكالية جدا، فالموت هو العمق الحقيقي للحياة، هو المدى الاكثر اتساعا لفكرة البقاء والخلود.
شخصياً لست خائفا.. لكن بصراحة اعتدنا عليها معاً أنا خائف قليلاً.
في المنزل .. في الشوارع والحدائق والمتاجر والمسابح والمذابح، كانت رائحة الموت تفرض حضورها .. رائحة ثقيلة ومخيفة، أتنفس من أبعد خلية في رئتي، استحم خمس مرات متعاقبة، أفكر بأمور غريبة ومتداخلة، بينما الخدر يتسربل الى انحاء الجسد، وعلى السرير الصغير، يرتمي المرء رغم كل إرادة "رفض الموت"، الذي كان عمنا الراحل صلاح جاهين، هو أول من تحدث عنه:
دخل الشتا وقفل البيبان ع البيوت
وجعل شعاع الشمس خيط عنكبوت
وحاجات كتير بتموت في ليل الشتا
لكن حاجات أكتر .. بترفض تموت
لكن القدر دائماً أقوى، فكما أن هناك ثمة وقت للحياة، ووقت للعمل وآخر للملل ورابع للاحتيال وخامس للتكاثر، وسادس للتعرف على كل المهازل العربية، وسابع للتعايش مع العبث الحكيم أو اللئيم، لا فرق .. هناك دائماً وقت لكل شئ .. لما عرفناه وما لا نريد أن نعرفه، لكن في نهاية المطاف لا يملك المرء سوى الامتثال لقدره المحتوم، وحكمة السماء، آه يا ماهر، أيها الغريب ابن الغرباء، يا ابن أمة أمست تشبه أزمة، طوبى لاريحيتك البسيطة التي لا تشوبها ذرة افتعال، وطوبى لدمع عيون أطفالك، وطوبى لزوجك الثكلى، ولكل الذين قضوا .. وبقيت الامنيات المستحيلة، وطوبى للغرباء .. كل الغرباء..
وكان ما حدث بعد ذلك، أن رجلاً بديناً ساخطاً، يقف على حافة الاكتئاب أو الجنون .. كان يعبر كل الشوارع .. يعبرها ساخراً، هازئاً من كل الأسماء والأماكن والأكاذيب والحكايات المبتورة، هازئاً بكل ما مضى وما سيأتي، مسرعاً إلى حيث يجد قبرا على مقاسه، قبراً يتسع لموت بحجم أمة .. "خير أمة أخرجت للناس"، وحتى هذه الأمنية لا تبدو متيسرة.
والله غالب على أمره
[email protected]

انقر على ما يهمك:
عالم الأدب
الفن السابع
المسرح
شعر
قص

ملف قصيدة النثر
مكتبة إيلاف