إن من أهم مرتكزات النظم الديمقراطية هو القبول بالرأي الآخر والتعددية الفكرية والعقائدية. أما تطبيق هذا المبدأ والممارسة العملية فهما شيئان مختلفان وتحيدان معظم الأحيان عن مسار ذلك المبدأ ويخالفان روح المبدأ بالأساس. هناك دول عديدة تدعي بتطبيق الديمقراطية في الشرق والغرب وكل دولة حسب الشكل الذي يلائمه كالماء في الأواني المستطرقة تأخذ شكل الوعاء. لا ريب ان نظرة فاحصة على الخريطة الفكرية السياسية في الشرق يوضع مدى الهون الكبير بين الفكر الديمقراطي وتطبيقاته العملية. هناك دول تطبق حكامها فكرا شموليا في السلطة ولكنها تدعي في نفس الوقت بالديمقراطية وربما يتوجه الناخبون في تلك الدول الى صناديق الاقتراع لانتخاب نوابهم حسب القائمة التي تم تحضيرها وفق مبدا رفض الاخر ومنذ البداية لاناس يسيرون في ركب الحاكم وحزبه. في حين نرى دولا قد وسعت تلك الممارسة على أساس قبول المعتدل من الأفكار ورفض الأفكار الأخرى الداعية الى التغير الجذري او ما يسمى الثورية من اليسارية الى اليمينية من العلمانية الى الدينية والأفكار الأخرى. هناك قافلة أخرى من القوميين السلبيين والرافضين أصلا بوجود الآخر المختلف والداعين الى نقاوة العنصر القومي والدماء النقية لابناء شعوبها. بالطبع ان هذه اللوحة معقدة اكثر بكثير من هذا الوصف العام في واقع الأمر.
هذه اللوحة مشابه كذلك للواقع العراقي اليوم بعد سقوط نظام جلب اليأس والقنوط للإنسان العراقي المغلوب على أمره وبات نتيجة الممارسة الفكرية الشمولية والأعلام القومي السلبي الموجه خلال اكثر من أربعة عقود ونبف ضحية سهلة لتلك الأفكار المسمومة تحت سوط الجلاد وسواد مبدا العنف وإسقاط الآخر. كل ذلك ستحتاج ردحا من الزمن لتصفيتها من ذاكرته واستبدالها بالفكر والحكمة والروية بدلا من تلك الصورة المشوه والهيلامية والتي لا تعكس الواقع العراقي الى درجة أضحى لا يرى بوضوح صورة الوطن وما حل بهذا الوطن والإنسان نتيجة هيمنة الفكر السلطوي الشمولي وغياب التام للديمقراطية. الديمقراطية في الواقع قارئي الكريم تبدا من القاعدة الجماهيرية الواسعة وليس نظام يفرض فوقيا بقرار يصدر من قبل السلطة ودون قناعة الناس بممارسة شعائرها او قبولها وستبقى حبرا على ورق وكتابات على الجدران وبين طيا صفحات الكتب في أدبيات الأحزاب السياسية.
الديمقراطية السلطوية تعني ان السلطة تفرض على المواطن بتتبع خطوات معينة في عملبة الممارسة الديمقراطية حيث تكون الاوامر فوقية المصدر اي باوامر صادرة من السلطة الحاكمة كما هو عليه في العديد من دول العالم حين يتوجه الناخبون الى الصناديق الاقتراع لامر يصدر من قبل الحزب الحاكم وانتخاب تواب من قوائم باسماء مرشحين أعدت سلفا من قبل حزب الدولة الحاكم. بالطبع لا يكفي معرفة أسماء المرشحين في تلك القوائم التي أعدت سلفا لعدم وجود إمكانية تحديد تلك القوائم جماهيريا وغياب البديل او حتى إمكانية المقارنة والاختيار ويعني في ختام الأمر تفوق قائمة الحزب الحاكم وانتخاب نفس الجوقة مرة أخرى وعلى المدى البعيد حيث تتكرر تلك الوجوه عاما بعد عام وقد نرى أمثلة من هذا النوع ففي لبنان مثلا والتي رغم صغرها كدولة وإمكانياتها المحدودة تبقى تجربة رائدة في تطبيق الديمقراطية في الشرق رغم ما يعيق تلك التجربة من موانع بوجود التهديد الإسرائيلي الدائم والحالة اللبنانية الواقعية في وجود الجيش السوري على أراضيها حنى يومنا هذا وهناك تجارب ديمقراطية أخرى في المنطقة كما هي في تركيا و الباكستان تهمين فيها المؤسسة العسكرية على مقاليد السلطة والحكم في تجربة الدولتين والهند كأكبر دولة تطبق النظام الديمقراطي في العالم ودول عديدة أخرى.
يبقى التاكيد على ان المبدأ الديمقراطي في ممارسة الانتخابات هو الحد الأدنى المقبول للممارسة الديمقراطية في عالمنا المعاصر.
اما استخدام النظام الديمقراطي كأداة في تصفية الخصم جسديا او فكريا فهذا مرفوض تماما ويعارض أسس المبادئ الانسانية في طرح الفكر الديمقراطي لمبدأ قبول الفكر الآخر المختلف. هنا نرى مثلا ان هناك تيارات حزبية ممنوعة ومحظورة في العديد من دول الديمقراطية وتلك التيارات الحزبية قد جربها الفكر الإنساني وبات مصدر قلق وتهديد شديدين لمجمل الحياة الديمقراطية والنيابية في المجتمعات الإنسانية كالفكر النازي الألماني والشيفوني الإيطالي وتفرعاتهما العديدة. رغم ان هناك أصوات هنا وهناك ترتفع بناء على أساس مبدا حرية الفكر والتعبير لفسح المجال لحملة تلك الأفكار لطرح وجهات نظرها وفتح قنوات الحوار معها. حملة تلك الأفكار الهدامة التي تسيطر مبدأ العنف وتهميش الآخر و محو وجوده الإنساني والعنصرية القومية في رفض الآخرين من حملة الثقافات المتباينة والعقائد المختلفة كانوا سببا مباشرا لإشعال حربين عالميين وحروب ونزاعات محلية وإقليمية أخرى لا تزال تشتعل فتيلتها بين الحين والآخر لحد يومنا هذا هنا وهناك مهددا السلام والوئام العالميين. الجدير بالذكر إن نهايات الحرب العالمية الثانية وانتصار جيوش الحلفاء والبدا بإعادة أعمار أوربا ونشر أفكار الداعية إلى السلام والوئام الوطني أتى بنتائج طيبة على دول وشعوب الأوربية. ولم يطرح قط مبدا تصفية الجسدية وبالكامل لحملة الفكر النازي مثلا في أوربا ما عدا ما جرى من محاكمات لرموز النظام النازي الهتلري في محكمة نوينبرغ الشهيرة لمجرمي الحرب والتصفيات التي جرى على ارض إيطاليا بالفاشيين وقادتهم.

إن من أهم مميزات التغير هو صفتها البطيئة والتي تأخذ من الوقت زمنا طويل قد تصل في بعض الأحيان قرون طويلة الى يتقبل الفكر الإنساني ويجاري التغير وقد يغير المرء من سلوكه بسرعة ولكن طبائعه البشرية لا تتغير بين صبح وضحاها. هذا بالإضافة ما للحنين والعاطفة الجياشة في حب العودة الى الماضي ورموزها من تأثير سحري على الفكر الإنساني اينما تواجدوا حيث تراهم لا فقط يهيمون بسماع أخبار وأسفار و روايات الماضي التليد ، بل ما يزيد الطين بلة يشتاقون الى ذلك القديم رغم سلبيته ومأساته وصعوبات العيش ومشاق الحياة والمذلة فيه وقد دخل ذلك ضمن التراث والموروث الثقافي لاهل العراق. نحن أهل العراق نمزج العاطفة في كل شئ ونفرح مبتهجين حتى لاحزان الماضي إلي درجة أن كل حديثنا يدور حول "كان" التراجعية أما المستقبل " وهم" لسنا بحاجة إليه ولا نخطط ونبرمج ما سوف نقوم به في المستقبل لنجلس نندب حظنا على فيضان وطوفان دجلة بعد حين.

الانتخابات بحد ذاته استثمار مستقبلي سيضع اللبنة الأساسية الفكرية النظرية والتطبيقية للأسس الممارسة الديمقراطية في المجتمع العراقي بعد سنوات من سيادة رفض وجود الفكر الآخر إلى درجة تصفية الوجود الإنساني لحملة تلك الأفكار ولو كانوا قد ألقى الجلاوزة القبض عليهم و بمعييتهم قطعة ورقية خط عليها آيات بينات من الذكر الحكيم أو قول مأثور و أشعار كتب في حب وطن العراقيين ذات الجدائل الذهبية. لا ريب أن كل تغير سيجابه بالمقاومة بنوعيها السلبي والإيجابي ولكن يبقى التأكيد على مبدا التغير والجدية في العملية واستمراريتها كافية وكفيلة للسير في الدرب وصولا إلي بر الأمان في بناء مجتمع العدل و المساواة ومؤسساتها المدنية مع تأكيد مبدا دولة العدل والقانون والقضاء المستقل.
سلاما لكم جميعا أيها الساهرون على نجاح التجربة الانتخابية العراقية وسيذكركم التاريخ كواضعي اللبنة الأساسية الأولى في بناء الدولة العراقية الفدرالية الديمقراطية الجديدة من كوردستانها في الشمال إلى دانتها ابلتها على شاطئ الخليج ، سلاما.

http://altonchi.blogspot.com/