تشغل الحداثة حيزا مهما من الخطاب العربي المعاصر، حيث تختلف وجهات النظر، وتتعارض المفاهيم والمصطلحات، وتتنوع المقدمات والنتائج. ولعل الأمر الأكثر إثارة للقلق هو الارتكاس بالوعي العربي إلى مقولات قرون سابقة، تدور حول الغرب وحضارته وثقافته وفكره وموقعنا من هذه الحضارة والثقافة والفكر، حيث يستعاد الموقف القائل بـ"عدوانية الغرب" و"بربرية حضارته "، إلى جانب مقولة التفوق الروحي والإنساني الذي اختصت به حضارتنا وفاقت فيه مادية الغرب ووحشيته. هكذا يتم التخلي عن مقولات النهضة العربية الحديثة لا بالتقدم إلى ما بعدها بل بالارتكاس إلي ما قبلها، ما يشكل في حد ذاته تعبيرا مأسويا عن إحباط التنوير والحداثة في عالمنا العربي المعاصر.
وأمام هذا الارتكاس إلى عصور التأخر نتساءل : إذا كان المشروع التحديثي العربي قد فشل ولم يتمكن من بلوغ أهدافه، فهل لا تزال الحاجة قائمة إليه، في عصر تجاوز العالم حقبة الحداثة ذاتها، ودخل إلى أفق جديد مختلف السمات والقسمات؟ وهل يتسنى للعرب ولوج العصر الجديد، عصر العولمة وما بعد الحداثة، دون المرور بمرحلة الحداثة التي فشلوا في الوصول إليها؟.

باختصار، وفي كل الأحوال، نحن بحاجة إلى معرفة دقيقة بأشياء كثيرة أصبحت تطرح نفسها علينا بإلحاح. ولكن قبل أن أدخل في تفاصيلها أود أن أنوه إلى أننا أصبحنا - على الأقل - نطرق موضوعات ما كنا نتجرأ على الخوض فيها قبل بضع سنوات فقط. وانطلاقا من تقديري لجهود بعض المفكرين المغاربة (عبدالله العروي، هشام جعيّط، محمد أركـــون..) الذين انخرطوا في مشروع نقدي لثقافتنا العربية، فإني سأتناول أهم أسس الحداثة ومعوّقاتها في العالم العربي المعاصر. لقد تعطلت محاولات التحديث المتكررة في العالم العربي منذ القرن التاسع عشر، وتعود تلك العطالة إلى جملة عوامل بنيوية تاريخية واقتصادية واجتماعية وثقافية وسياسية، ولكنّ العامل الأهم تمثل – على الخصوص – في اعتقاد من تنطحوا لقيادة عملية التحديث أنها مجرد توطين المنتجات والمنجزات المادية للحداثة في البيئة العربية، دون الاهتمام الكافي بإعادة بناء المجتمعات العربية بالاستفادة من معطيات الحداثة ومكوّناتها العقلانية، التي تضمن توطين قيم الحداثة في التربة العربية. وإزاء كل ذلك يبدو أنه من الضروري أن يعمل المرء على إعادة صياغة وترتيب أفكاره، بما يمكّنه من فهم وتشخيص الواقع العربي، ومن ثم الانخراط بتغييره في اتجاه التكيّف الإيجابي مع معطيات وتحولات العالم المعاصر، وبما ينسجم مع المصالح العليا للأمة العربيـة.

إنّ القضايا التي ينبغي أن تكون محور تفكيرنا اليوم كثيرة جدا، وتكاد تحتل جميعها مرتبة الأولوية : ما هي الدروس التي ينبغي استخلاصها من سقوط " جدار بغداد "؟ وهل تتوافر شروط حقيقية لصياغة مشاريع ديموقراطية للتغيير، تحول دون احتمال قيام مشاريع شعبوية ظلامية تغرق بلداننا في المزيد من التأخر والمزيد من الأزمات؟ وما هي إمكانات عالمنا العربي، حكومات وشعوبا وحركات سياسية وثقافية، للالتحاق بالحركة العالمية المناهضة للحرب وللهيمنة الأمريكية والصهيونية، من أجل أن يكون لبلداننا مكان في صياغة مستقبل العالم؟.

يبدو لنا أنّ المنهج العقلاني النقدي، المستوعِب لحصاد التجربة العالمية، والمنفتح على كل التيارات الفكرية والسياسية العربية، يمكنه أن يتجاوز الصعوبات التي يمكن أن تعترض إمكانية التعاطي المجدي مع مثل هذه الأسئلة المصيرية. وفي الحقيقة إننا أمام صعوبة كبيرة في اكتشاف قواعد اللعبة المعقدة، التي حكمت التأثير المتبادل بين العوامل الداخلية والخارجية، لما آلت إليه الحالة العربية. خاصة وأنّ الفكر السياسي العربي اعتاد على تحميل الاستعمار كل بلايا التأخر العربي، وأطلق العنان لديماغوجية رنانة تجعل من العداء للامبريالية والصهيونية (وهو عداء مبرر تاريخيا وواقعيا) وسيلة للتنفيس عن الغضب، وصبه على العامل الخارجي الذي أصبح " شيطان العرب "، ليعفي العامل الداخلي من النقد، ويتستـــر - بالتالي- على آليات وأدوات الهيمنة الإمبريالية، أو يجهلها، مما جعله عرضة لسياساتها، بقصد أو بدون قصد. ومن أجل كل ذلك، فإني أتناول موضوع ورقتي " أسس الحداثة ومعوّقاتها في العالم العربي المعاصر " طبقا للمنهجية التالية : الأسس النظرية للحداثة ومكوّناتها، وتجليات الحداثة في التجربة العالمية المعاصرة، ومعوّقات الحداثة في العالم العربي المعاصر (التاريخية، الاقتصادية، الاجتماعية، الثقافية، السياسية)، العرب وما بعد الحداثة، وخاتمة تتضمن أهم الاستنتاجات المفيدة للمستقبل.

1 – الأسس النظرية للحداثة ومكوّناتها
يشير مصطلح الحداثة‏‏ إلى مرحلة تاريخية طويلة نسبيا‏،‏ بدأت في أوروبا الغربية منذ أواخر القرن السادس عشر وتميزت في القرن السابع عشر بسلسلة من التغيّرات الكبيرة والعميقة الثقافية والاجتماعية والاقتصادية‏،‏ وشملت بشكل متداخل ومتفاعل عمليا مجالات البحث والمعرفة العلميين والتطبيق التكنولوجي وأشكال ومؤسسات الحكم السياسية والمدنية والتشريعية والقانون والمعاملات التجارية، وذلك في إطار عمليات بناء الدول القومية وتزايد سلطاتها مع تزايد مساحات الحرية والمسؤولية الفردية أيضا‏.‏
وفي هذا السياق تكفي الإشارة إلى المحطات الفلسفية الأساسية في الفكر الغربي الحديث، التي هي فكر ديكارت الذي دشن نظريا عصر الحداثة، وفكر كانط الذي بلور نقديا ديناميكية الأنوار، وفكر هيغل الذي صاغ مفهوميا لحظة اكتمال الحداثة في نموذج الدولة القومية الحديثة.

إنّ الحداثة ليست ترفا فكريا، بل هي تطبيق منهجية عامة للتحليل وطريقة في التفكير، وهي لا تحضر وتغيب بحسب أنواع الأحداث أو علاقاتنا العاطفية بها. وعصر الأنوار يحيل إلى هذه الظاهرة الفكرية، الواسعة الانتشار، التي عرفتها أوروبا في القرن الثامن عشر، حين تم التأكيد على أولوية الإنسان ودعم استقلاله وإرادته، ورفعه إلى مستوى يكون فيه مرجع سلوكه، والقاعدة المعيارية لممارسته الاجتماعية.لقد شكل عصر الأنوار قاعدة التفكير للحداثة كلها، إذ أنه الفضاء الذي يقوم على أربعة محددات :

1 - العقلانية، باعتبارها البحث المستمر في المعايير التي تقاس بها صحة الاستراتيجيات التي تصوغها الجماعات أو تسعى إلى صياغتها من أجل إحراز التقدم ومسايرة التاريخ، وتحسين مردودية الجهد الإنساني ورفع فعاليته.
2 - التاريخانية، أي أنّ الحداثة قامت على معقولية التحوّل، وأفضت إلى تصور حركي للمجتمع، يحدد مراحلا لنموه وتطوره، وهو نمو يخضع لمعيار التقدم.
3 - الحرية، كأرضية تعيّن شرعية السلطة، وتؤكد حق الإنسان في تقرير شؤونه المدنية، دون إكراه أو قيد.
4 - العلمانية، أي فصل السلطة السياسية عن المؤسسة الدينية، وفي مقابل ذلك الانطلاق من الإنسان كمفهوم مرجعي للممارسة النظرية والسلوك الأخلاقي والسياسي. وهي تجد مرتعها الخصب في إطار من الديمقراطية، التي تمارس عقلانيا وتنويريا، وذلك على نحو تغدو فيه الديمقراطية والعقلانية والتنوير أحد أوجه العلمانية وصيغة من صيغ التحفيز عليها. وعندما تطرح العلمانية، بمعنى عدم تدخل الدولة في الشؤون الدينية لمواطنيها وبحيث تكون المواطنة هي أساس العلاقة بين الدولة والمواطن، فإنها أقرب لأن تكون مفهوما سياسيا، يشكل ضمانة أكيدة للمساواة ولتلاحم المجتمع، حيث تكون العلاقة بالوطن والدولة علاقة سياسية وليست علاقة دينية قد تحد من المساواة السياسية بين أصحاب الديانات المختلفة.

إنّ الكثيرين في العالم العربي لا يدركون تماما ماهية العلمانية هذه ومدى أهميتها من أجل بناء مجتمع ديمقراطي على مستوى تحديات العصر. ولعل السبب في رفضهم العلمانية هو أنهم يخشون أن تكون مرادفا لمعاداة الدين، على أنّ هذا الخلط لا أساس له، بل أنّ العلمانية من شأنها أن تحرر الدين من استغلال السلطة له.
ويبدو أنّ كثرة الحديث عن التحديث والحداثة في مجتمعاتنا العربية تؤدي إلى ضبابية مفهوم التحديث نفسه، والخلط بين بعض مظاهره وجوهر العمليات الفاعلة المقترنة به، ولذلك فإنه بالقدر الذي لابد من تأكيد تلازم التحديث المادي مع الحداثة المعنوية، لابد من تأكيد أنّ استكمال عمليات التحديث وتطويرها يعتمد على المبادئ التالية :
(1) - إنّ عملية التحديث لا تتجسد إلا في إرادة مشتركة تشمل كل فئات المجتمع ومجالاته، بلا تمييز بين فئة وأخرى. فلا ينجح التحديث، أو يكتمل، إذا تحول إلى مهمة ينهض بها فريق على حساب غيره، أو اقتصرت فوائده على شريحة اجتماعية قادرة على حرمان غيرها من الشرائح غير القادرة، فالتحديث عملية لابد أن يسهم فيها الجميع كي يعود نفعها على الجميع.

(2) - إنّ شمول عمليات التحديث والحداثة في تعدد جوانبها المادية والمعنوية ينبغي أن يجعل منها عملية متفاعلة العناصر والمجالات، التي تشمل التعليم والثقافة في موازاة الاقتصاد والسياسة مع العلاقات الاجتماعية وأدوات الإنتاج المعرفي.
(3) - إنّ خصوصية عالمنا العربي في علاقته بتاريخه الموغل في القدم وحاضره الذي لا يمكن إغلاقه عن العالم المعاصر تجعل عمليات التحديث والحداثة في أقطارنا العربية عملية مركبة، تهدف إلى تحقيق أهداف ثلاثة في وقت واحد : أولها، إزاحة المعوّقات الموروثة عن سلبيات الماضي. وثانيها، المواجهة الجسورة لمشكلات الحاضر في كل المجالات. وثالثها، تسريع إيقاع العمل لتدارك الهوة التي تفصل بين عالمنا العربي وعالم التقدم الذي أضحى يعيش أزمنة ما بعد الحداثة.
(4) - إنّ الخبرة التاريخية تقول لنا : إنّ بداية التحديث المادي هي الفكر الذي ينبغي أن يتجدد في كل مجال، سواء في التعليم كونه قاطرة المستقبل، أو في الإطار السياسي الذي ينبغي أن يتجدد ليستجيب إلى رغبة التطور عند المواطنين ويغذيها بما يجعل الدافع إلى التحديث دافعا وطنيا عاما، أو في الوعي المدني الذي ينبغي أن يتحرر من الخرافات التي تعرقل تقدمه.
(5) - في عصر ثورة المعلومات، أصبحت التحولات على الصعيد الثقافي حاسمة في إنجاز التطور المنشود، فالمعرفة هي كلمة السر التي تفتح الأبواب المغلقة في زماننا، والثقافة أصبحت منتجا استراتيجيا. مما يتطلب : أولا، إطلاق طاقات الابتكار والإبداع الفكري والفني والعلمي لدى الإنسان العربي. وثانيا، الشفافية الكاملة في المجتمع، وحرية تداول المعلومات، والقضاء نهائيا على أي شكل من أشكال الفساد أو العبث أو التساهل في حياة الناس وأرواحهـم. وهنا تأتي مسؤولية الدولة بالدرجة الأولى، فعليها يقع عبء تطوير مرافق المعلومات، وتغيير البنية التشريعية بما يحقق التدفق المرن واليسير للمعلومات، وتطهير أجهزة الدولة من كل ما يعوق عمليات تحديثها، أو يجعل منها عمليات مظهرية.
إنّ الحداثة أكثر من أن تكون نتاجا لمرحلة تاريخية منقضية‏،‏ وإنما هي أقرب لأن تكون برنامجا لم يكتمل بعد ولا يزال قادرا على أن يلعب دورا إيجابيا في المجتمعات المعاصرة‏،‏ فالحداثة تتضمن انفتاحا على مستقبل غير مغلق‏ وبلا نهاية، يتميز بإمكانية تحقيق التقدم المادي والاستقرار الاجتماعي والتحقق الذاتي‏.‏ على أنّ الحداثة كل لا يقبل القسمة، أو التجزئة، فلا يمكن أن نقبل على الحداثة في المجال الاقتصادي والتقني ونهمل الحداثة في الفكر والسياسة. وقد يتخذ إنجاز المشروع الحداثي أساليب متنوعة في عالم الممارسة، ولكنّ الأهداف والأسس النظرية لم تتغير.

2 – تجليات الحداثة في التجربة العالمية المعاصرة
تتجلى الحداثة في التجربة العالمية المعاصرة بمظاهر ثلاثة هي : فوقية العقل، وكرامة الإنسان، ونسبية المصالح. فالحداثة، كمرجعية عليا تسود المجتمعات المعاصرة، لا تعتبر نفسها مرجعية مطلقة أو معصومة عن الخطأ، إنها تسمح بالعودة النقدية على ذاتها كلما قطعت شوطا ما لمعرفة أين أصابت وأين أخطأت وكيف يمكن تصحيح الخطأ ومواصلة المسيرة من جديد. وربما لهذا السبب أصبحت هذه المجتمعات ديناميكية، تحقق التقدم باستمرار في كافة المجالات، فهي لم تعد ملجومة من قبل ثوابت مطلقة لا حيلة للإنسان فيها، ثوابت لا تخضع للنقاش العقلاني أو المنطقي.

ولا شك أنّ الحضارة الغربية، وان كانت أول حضارة في التاريخ لا تتأسس على العامل الديني، ولا يشكل هذا العامل حتى مرتكزا أساسيا في أنظمتها القيمية والسلوكية، ولو كان لا يزال المقوم الأساس في المعتقدات الفردية، إلا أنها مع ذلك لم تتخلص، حسب الصديق الدكتور السيد ولد أباه، من مرجعيتها التراثية في مناحٍ متعددة. إذ أنّ التاريخانية الغائية، أي فكرة حركة التاريخ وفق منطق متصل، غايته تحقيق حرية الإنسان وتجسيد مراميه، وهو المفهوم الذي تستند إليه أيديولوجيا التقدم التي شكلت محور العقل السياسي الحديث. حيث لا يخفى ما لهذه المقولة من صلة بالتصور المسيحي، حتى ولو بدت في شكل علماني، أو لا ديني. كما أنّ التصور العلماني للشأن السياسي كشف للعيان أنّ جذور العلمانية متضمنة في التراث المسيحي نفسه الذي يؤسس لفكرة ثنائية السلطة السياسية والدينية، ومن ثم فإنّ الدولة المدنية الحديثة هي مجرد قلب لموازين كانت قائمة (المرور من تحكم السلطة الدينية في الدولة إلى استقلال السلطتين عن بعضهما البعض).

الدكتور عبدالله تركماني كاتب وباحث سوري مقيم في تونس

المقالفي الأصل ورقة قدمت – بالنيابة – في إطار الندوة التي أشرفت عليها " مؤسسة الشجرة للذاكرة الفلسطينية " في المركز الثقافي العربي بمخيم اليرموك - دمشق في الفترة ما بين 6 و 9 ديسمبر/كانون الأول 2004 ضمن محور " معوّقات الحداثة العربية والقضية الفلسطينية ".