قال لي صديقي المعتّق: "قررت ألا أكتب خلال الفترة القادمة أي مقال عن الوضع في العراق، وهذا قرار حاسم ولا رجعة عنه." وعندما طلبت منه الأسباب، ومتى العودة، فقد أجاب: "ربما حتى الصيف أو أواخر العام. ولكنني أترك الكتابة في الموضوع منذ اليوم. ومن الغريب أن تسألني عن الأسباب؟ ألم تكتب قبل يومين أن ما يجري عن الانتخابات وموعدها صار أشبه بالحزورة ولعب أطفال عابثين؟! ولكن القضية أكبر وأكثر خطورة من موضوع الانتخابات رغم أنها اليوم محور الاستقطاب والعبث السياسي المدمر، حيث لا يوجد في العالم سياسيون ملتزمون بالمصالح العامة يعملون على تأجيل الانتخابات قبل موعدها بثلاثة أسابيع. أليس ما نشاهده هو أشبه بسوق هرج القديم حيث كل بائع ينادي على بضاعة ما؟! وأضيف للتو، تازة]، صوت جديد باسم "مجلس السلم والتضامن". أي سلم؟ والتضامن مع من، ونحن في مرحلة انتهاء الحرب الباردة التي أدت لنشوء حركات السلم!]
إن الانتخابات وتعامل الحكومة مع الإرهاب الصدامي صارا كشّافين لجميع العيوب والخطايا السياسية في العراق، ولمدى تخلف المجتمع والقيادات السياسية العراقية مع بعض
استثناء. لدينا فرصة نادرة للسير لبناء الديمقراطية ولكن الإرهاب، والمناورات السياسية والمصالح الضيقة مقرونة بالتدخل الإقليمي، على وشك الإجهاز على هذه الفرصة ليعود الاستبداد السياسي الصدامي بأشكال أخرى، مبقيا في الوقت نفسه على موجة التطرف الديني والطائفية؛ وإنني متفق مع ما كبه مؤخر الكاتبان عبد الرحمن جميل وعبد الخالق حسين عن احتمال عودة بعث صدام للسلطة.
" الحقيقة أن ما نشهده من أداء الساسة والحكومة تجاه القضايا الكبرى صار يوشك أن يقود العراق لمشارف الانهيار والانتحار الجماعيين، ولن يربح في النهاية غير صدام وأعوانه، وغير بعض الأنظمة الإقليمية وسائر القوى المعادية للديمقراطية في المنطقة، وعلى الأخص وبدرجة رئيسية سوريا. لكن الأخطر ما يقال في الكواليس عما دار ويدور في مباحثات الأمريكان مع سوريا. لا تنس أن المخابرات المركزية ووزارة الخارجية الأميركية خاضتا ضد وزارة الدفاع صراعات داخلية حامية أدت لعدم تأييد أمريكا لقيام حكومة منفى عراقية عشية الحرب لملء الفراغ السياسي حال سقوط النظام السابق، كما أدت لارتباك وتخبط أداء قوات التحالف في الشهور الأولى من التحرير. فهل ثمة صفقة سرية أميركية سورية لإعادة الصداميين بقوة للسلطة في العراق؟ ومقابل ماذا؟ لا أعرف بالضبط ولكنني قلق جدا من هذه الجهة. إن الأمريكان يعلمون قبل غيرهم أن القيادة العليا للإرهاب الصدامي موجودة في حلب على الحدود بعلم ورعاية وحماية السلطات السورية. فموضوع التسلل الحدودي هو مجرد جزء من المشكلة الأكبر، أي الخطة السورية بإرسال الإرهابيين الصداميين القتلة الذين تزداد جرائمهم وتتسع وتتفاقم. فأي ضغط أمريكي قوي مورس أو يمارس على النظام السوري؟ ودليل آخر على ضلوع السوريين في الإرهاب أن الحكومة الفرنسية والوفد الفرنسي المستقل عنها قد اتصلا اولا بدمشق حول موضوع الصحفيين الفرنسيين المخطوفين، ولولا اشتعال قضية الاحتلال والتدخل السوريين في لبنان وطرح ذلك على مجلس الأمن وصدور قرار محرج لسوريا وملزم بمشاركة فرنسية قوية،
لكان إطلاق سراح الصحفيين يتم في حينه. ولا نعرف بعد ما دفعته الحكومة الفرنسية من ثمن سياسي لقاء إطلاق الصحفيين. أما الحكومة العراقية الموقرة فلا يكاد مسئول فيها يفضح ويندد بالدورين السوري والإيراني، حتى يركض مسئولون آخرون للتكذيب والتهدئة. وها هو محافظ النجف أزيح وقيل سيعتقل لتنديده بسوريا!! أما الصور المؤكد وجودها في حوزة الحكومة عن لقاء مسئولين سوريين مع قادة إرهابيين في الفلوجة، فإن رئيس الوزراء اكتفى بتوجيه رسالة عن الموضوع للحكومة السورية!. أمس فقط صرح نائب رئيس الوزراء السيد برهم صالح وبكل صراحة بأن الصداميين هم القوى الرئيسية في حرب الإرهاب وأن قيادتهم موجودة في سوريا؛ وندد بالتدخل الإقليمي في الشأن العراقي. فماذا سيفعل السيد رئيس الوزراء؟! لا شئ بالطبع.
"يقول لنا البعض إن التجربة السياسية في أفغانستان نجحت في خطوتها الأولى رغم أن أطراف السلطة كانت قبائل تتحارب لسنوات طويلة، ولابد وأن الشعب العراقي سوف ينجح هو الآخر. وردي هو أن التجربة الأفغانية لم، ولا، تواجه هذا التدافع المحموم للتخريب والعرقلة من دول إقليمية. أما العراق فإن معظم دول المنطقة لا تريد نجاح التجربة وإن منها دولا تتدخل مباشرة وبكل الأشكال في العراق، تدخلا إرهابيا وسياسيا في الوقت نفسه. ولا يجب استبعاد أن بعض الدعوات السياسية الجديدة حول الانتخابات قد تمت بوحي سوري!"
توقف صاحبي الحزين عن الكلام لشرب قدح ماء ثم سألني:
" قل لي يا صديقي، هل ترى أن حلم العراق الديمقراطي الفيدرالي والعلماني ممكن التحقيق؟ ألا ترى مثلي أن أحلامنا التي راودتنا عشية الحرب وبعد سقوط التمثال يوم التاسع من نيسان، على وشك الزوال؟!"
حرت في الجواب لأن تصوراتي عن الوضع أصبحت مشوشة وكأنني في ضباب، وكأنما أشاهد لعبة "شيش بيش" بالدومينو في مقهى من مقاهي بغداد، التي يسمح فيها الإرهاب والأصوليون بلعب الدومينو
وسماع أغاني الحب! فهل أقول مع صديقي:
" وعلى الحلم السلام؟!" أم لم يحن الوقت بعد للحكم؟؟
مهما يكن، فأنا على يقين من أن أحفادنا سوف يرون بناء العهد المنشود!