من يتجول في مدن الجنوب العراقي وخصوصا مدينة البصرة عاصمة الجنوب وإطلالة العراق الوحيدة على العالم عبر الخليج العربي ومينائه الوحيد والمنبع الأساسي لثروته البترولية! بتاريخها الحافل والممتد مع الطلائع الأولى للفاتحين العرب القادمين من جزيرة العرب، سيصفعه حجم الخراب والدمار والتركة الثقيلة والمأساوية التي خلفها ورائه نظام البعث البائد، فالتخلف الشامل قد بسط جناحيه وإنعدام الخدمات الأساسية من ماء صالح للشرب أو كهرباء هي أمور إعتادها البصريون منذ أواخر السبعينيات وقبل أن تندلع ( حروب صدام الخاسرة )!، والبصرة قد تعرضت لدمار كبير خلال الحرب مع إيران الكارثية المدمرة ثم جاءت الغزوة الكويتية الحمقاء وأتبعتها الإنتفاضة الشعبية وما تلاها من حصار شرس دولي وسلطوي ثم سنوات الحرمان والدم والرصاص قد حول المدينة لخرائب وأنقاض ومزابل هائلة خصوصا تلك ( المزابل الطائفية القادمة من إيران )!، لقد تغيرت معالم البصرة الخالدة بدءا من ملامحها العمرانية والهندسية الفريدة التي تشوهت بشكل مرعب بعد إنقراض وتدمير ودك أبنية ( الشناشيل ) البصرية الموروثة والتي لا يوجد ما يشابهها إلا في مدينة ( جدة ) السعودية؟ ولا أدري لماذا لم تتدخل منظمة ( اليونسكو ) وتعلن حمايتها لتلك البنايات التاريخية الجميلة بإعتبارها جزءا من تراث الإنسانية إسوة بأحياء القاهرة المملوكية أو فاس العتيقة أو مكناس الإسماعيلية أو ساحة ( جامع الفناء ) المراكشية في المغرب؟ ، لقد إقتضت سياسة صدام البائد الأمنية تدمير الشوارع الضيقة والرائعة للبصرة القديمة لأنه عدو للإنسانية والخير والجمال، أما الكورنيش الخالد بمقاهيه الجميلة الأنيقة فقد تحول لأطلال لا علاقة لها بالماضي الجميل، أما حديقة ( الأمة ) فقد إنطفأت شمعتها وباتت زهورها الذابلة تلعن البعث لأبد الآبدين،أما منتزه( الخورة ) فقد إستولى عليه صدام ليحوله لقصر من قصوره قبل أن يتمتع فيه اليوم ( الإخوة الإنجليز )! أما نخيل البصرة الشهيدة فتبكي لخالقها ظلم القتلة البعثيين بحروبهم المجنونة التي دمرت معالم الحياة في( فنيسيا) الشرق!.
لقد كان النظام البائد في حالة حقد دائمة ومتواصلة على البصرة حتى أنه لم يفكر بزيارتها إلا لماما وبشكل مفاجيء خوفا من الإغتيال وقد إستباحها الأوغاد من أتباعه كعلي كيمياوي وبقية الزمرة المجرمة وكان التمييز العنصري ضد البصريين واضحا من خلال هوية السلطة الطائفية والعشائرية ومؤسسات دولة القمع، فلم يحدث أن تعين أحد من أبناء البصرة بوظيفة أعلى من مساعد مدير تربية وتعليم!، أما المحافظون ومدراء الأمن فغالبا ما يكونوا منحدرين من قرى التخلف في غرب العراق كالتكارتة والدوريين والدليم ومن هيت وعانه وروه وكبيسة... وغيرهم من أجلاف البادية الغربية؟! ولعل أشهر محافظ مر على البصرة في عهد البعث البائد هو المدعو ( سعدي عياش عريم )! وواضح من إسمه أنه من غرب العراق أي من الدليم، لقد كان سعدي هذا فاسدا سكيرا وعربيدا، زيرا للنساء!! وكانت أشهر إنجازاته ( التاريخية ) فتح ( المبغى العام للمومسات ) في شهر رمضان عام 1972!! وكانت حجة السلطة أن العملية كانت فخ لإصطياد الهاربين الشباب من الخدمة العسكرية!! تصوروا كم هي دنيئة دولة البعث؟ ثم توسع المبغى لينقل لمكان آخر خارج المدينة وفي الطريق المؤدي لدولة الكويت وحيث أطلق على المكان ( حي الطرب )!!! وقد أصدر المحافظ نفسه فرمانا غريبا ينص على منع إصدار جوازات سفر للنساء إلا بموافقته شخصيا وبعد إجراء المقابلات الشخصية مع المؤمأ إليهن!!! وبحجة محاربة الدعارة!! فتصوروا درجة السخف والإنحطاط في مثل هذه النماذج البدائية من الإداريين الأجلاف الفسقة!
والبصريون يتذكرون هذه الوقائع والأحداث جيدا، لذلك فإن تخريب البصرة كان خطة منهجية إتبعها النظام وطيلة عقود تسلطه الأربع، وهنالك حادثة حصلت في ثمانينيات القرن الماضي لا تبارح ذاكرتي ، فقد قام صدام بتكريم الطلاب الأوائل في العراق ولما وصل دور أحدهم للحديث سأله صدام عن مدينته؟ فأجاب؛ أنا من البصرة! وهنا قام صدام وبحركة إيمائية بضرب الفتى على أنفه وهو يقهقه قهقهته المعروفة قائلا:- ( إحنا ما نريد تمر خايس )! وكلمة ( خايس ) لمن لا يعرفها من العرب تعني ( متعفن )!
ووفق نظرية العفن البعثية كانت تقسم مناطق العراق أمنيا وفقا لمنهج السلطة العنصري بمناطق بيضاء أي مؤيدة ويحبها النظام وتحبه ومناطق يكرهها النظام وتكرهه، وكانت البصرة أبرز من على القائمة السوداء؟؛ بينما كانت ( الفلوجة ) وقرى التخلف في غرب العراق من الصنف الأول الأبيض!
والنظام البائد بتصرفاته العنصرية يمثل حالة منفردة بذاتها بين الأنظمة السياسية في العالم، فهو يتحدث عن وحدة الأ مة العربية بينما يفشل فشلا ذريعا في تحقيق الوحدة الوطنية!، وعموما فقد دار الزمن حتى تبين في النهاية من هو ( الخايس ) فعلا؟!.

[email protected]