تتردد في خطابات السياسيين وغير السياسيين من كل الأطراف عبارة ( الشرعية ) كثيراً هذه الأيام، وفي كل مناسبة تقترن كلمة الشرعية في الطعن بصحة وجود حكومة أو محكمة أو حزب أو حركة أو قانون فيقال انها فاقدة للشرعية ، حتى وصل الأمر الى اعتقاد من يعتبر الدكتاتور العراقي البائد رئيساً شرعياً للعراق حتى اليوم ، ولكن دون أن يتفق أحدهم على تعريف محدد للشرعية، لابل أن العديد ممن يستعملها لايعرف معناها القانوني واللغوي الدقيق فيحشرها في غير محلها ويطلقها دون ان يتعرف على منطقها القانوني.
العديد ممن يستعمل هذه المفردة لايعي ابعادها الفكرية ومقاصدها المحددة، وهو حين يريد تفنيد صحة صدور قرار او تشكيل جهة ما او الطعن في جهة ما، ليس له سوى ان يقول انها فاقدة للشرعية، حتى صار بعض يروج أن منهج البعث في العراق كان شرعياً.
والشرعية تاتي من الجذراللغوي شرع، وفي اللغة بمعنى الاظهار ويقال ان الله سبحانه وتعالى شرع احكام الاسلام بمعنى انه اظهرها للعباد، بينما تعني في العديد من المراجع القانونية انها الاسس التي تستند عليها السلطات التي تمارس الحكم مع تقبل الشعب لهذه الأسس وللسلطة. كما تعني الشرعية ايضــا تقبل الاغلبية من الشعب لحق السلطة في الحكم والخضوع لقراراتها. ووفق كل تلك التعابير والأسس التي تستند عليها مفاهيم الشرعية فأنه لايمكن أن يكون للسلطات التي تجيء بمقتضى الأنقلاب العسكري أية مشروعية أو شرعية، لأنها ببساطة تفتقد الى ركن أساسي من أركان الشرعية في الحكم وهو عدم تقبل الأكثرية لحق سلطات الأنقلاب في الحكم، مع انها تخضع قسراً لقراراتها، بل ويتم كتم صوتها وحقها في التعبير.

وفي العراق على سبيل المثال فقد أسقط النظام الملكي في 14تموز 1958 وأصبح نظام الحكم جمهورياً بثورة وطنية وشعبية قلبت نظام الحكم، على أمل ان يتم رسم المؤسسات الدستورية ومنظمات المجتمع المدني، الا أن أنقلاباً أتسم بالشبهة وبالأرتباطات الدولية المظلمة حصل في 8 شباط 1963 فرض نفسه على الشعب وبالقوة، وبعد هذا الأنقلاب انقلب أحد الأنقلابيين على جماعته يوم 18 تشرين الثاني 1963، وحين أحترق رئيس الأنقلاب بحادث مدبر على متن طائرته المروحية التي سقطت في منطقة الدير بالبصرة، آلت السلطة ( وراثياً ) الى شقيقه العسكري دون أية شرعية دستورية، وأخيراً الأنقلاب الذي جاء بالبكر وصدام في 17 تموز 1968، أن دورة الأ،قلابات والأنقلاب على الأنقلاب لايمكن ان يكون شرعياً لأفتقاده للقواعد الاساسية للحكم الشرعي. يفتقد النظام السياسي الذي جاء الى العراق بأنقلاب البعثيين الاخير في تموز 1968 الى المشروعية، كما يفتقد لأبسط مقومات المفهوم القانوني والدستوري والشرعي للسلطة، وبينما تخضع نشاطات سلطة الأنقلاب ومؤسسات الدولة الى القوانين التي تضعها هذه السلطة، فانها عبرت عن ذاتها بقولها أن هذه القوانين تعبر عن رغبة السلطة وأهدافها، وهي ليست بالضرورة معبرة عن رغبة وقبول الجماهير التي رضخت لمنطق القوة تحت سيف الطاعة السياسية المتسلطة على الحكم والتي ترجمتها السلطة القابضة على الحكم في دكتاتوريتها وطغيانها وشموليتها .
وأذا كان فقهاء القانون يقسمون أتجاهات الشرعية الى ثلاث أتجاهات، فأن السلطة الأنقلابية تفتقد للشرعية الدستورية بأعتبارها شرعت دستوراً مؤقتاً تم فرضه كقانون بزعم انه يمثل منهجاً مؤقتاً سيتم تعويضة بدستور دائم، ويحمل الدستور المؤقت معالم الشرعية أذ لم تتم الموافقة عليه برلمانيا أو شعبياً ، وبهذا فقدت السلطة القابضة على الحكم شرعيتها الدستورية. كما تفتقد السلطة الى شرعيتها السياسية لأنها لاتحظى بموافقة وأجماع الحركة السياسية الوطنية بأعتبارها في غياب البرلمان العراقي الشرعي تمثل صوت الشعب، كما لم تكن وليدة أو حصيلة لعملية أنتخاب حر أو استفتاء من قبل الشعب، وهذا مما عمدت السلطة الى تهميشه وعدم الأعتراف به والأستهانة بحق بقية القوى السياسية في التمثيل، بل ومبالغتها بطرح نظرية الحزب الواحد والحزب القائد والقائد الأوحد .

أما الشرعية الدينية فقد اعلنت السلطة رغم أدعائها ومزاعمها بأنها مع الدين، الا انها تخالف النظام الشرعي والقوانين الشرعية التي جائت بها الأديان ومنها الأسلام بحيث بدا واضحا التعارض المنهجي بين السياسة الاسلامية ومنهج سلطة البعث، بالأضافة الى التاناقض بين السياسة الشرعية وبين سياسة السلطة الصدامية، بالرغم من كون الدين المنصوص عليه في ثنايا الدستور المؤقت هو الأسلام ، وهو الدين الذي تتبرقع به السلطة على أساس انه دين الدولة الرسمي في دستورها المؤقت . فأذا كانت السلطة الأنقلابية تفتقد لهذه الأركان المهمة في الحياة الدستورية، ولم تكن تملك الشرعية، فهل يعني هذا أن الأجهزة القضائية والتنفيذية التي تعمل ضمن آلية العمل في العراق تفتقد الى الشرعية ؟ وأن جميع قراراتها واعمالها باطلة ؟ بمعنى آخر هل أن ماصدر عن المحاكم الأعتيادية وليست المجالس العرفية ومحاكم أمن الدولة والمحاكم الخاصة من أحكام وقرارات بحق مرتكبي الجرائم الاعتيادية كانت قرارات باطلة بأعتبار أن السلطة تفتقد الى الشرعية، مما ينبغي أن يعاد الأعتبار الى القتلة من المتهمين الذين تمت أدانتهم وتنفيذ الأحكام بحقهم.
ببساطة أن الجواب كلا، فأن جميع الأحكام التي صدرت عن أعمال القضاء العراقي في القضايا الأعتيادية هي قرارات صحيحة وعادلة وخصوصاً بعد أن اكتسبت الدرجة القطعية.
أما الأحكام التي صدرت عن المحاكم الخاصة وهي محاكم غير شرعية فأن جميع قراراتها وأحكامها باطلة، لأفتقادها لمنهج القضاء والمحكمة وعدم وجود قاضي يرأسها وعدم التزامها بنصوص القوانين العقابية وعدم تطبيقها الأسس التي يجب أن يتم الالتزام بها وفق نصوص قانون اصول المحاكمات الجزائية كما أن قراراتها غير قابلة للطعن تمييزاً وتدقيقاً وهي لاتخضع لأية مراقبة، بالأضافة الى قرارات المجالس العرفية ومحاكم أمن الدولة الأولى والثانية، فانها أيضاً باطلة لأنها تخرج عن الأختصاص النوعي للقضاء وتخالف الدستور المؤقت والنصوص الموجودة في القوانين العقابية، وبهذا يتبين الفرق الجوهري بين المحاكم الشرعية وغير الشرعية بالرغم من كون السلطة القابضة على الحكم غير شرعية أصلاً.
وأذا كان بعض من فقهاء القانون من عرف الشرعية بانها مبدأ الخضوع للقانون أو سيادة حكم القانون، فأن حتى هذين التعريفين لم تلتزم بهما سلطة الأنقلاب التي سقطت في نيسان 2003، مثلما لم ينطبقا عليها ، فلم تكن لدينا سلطة تنهج سيادة لحكم القانون ومباديء تخضع لحكم القانون، حيث تم اختزال جميع القوانين المستندة على الدستور المؤقت ( بقي مؤقتاً منذ 1958 – 2003 ) بيد الدكتاتور الذي اعتبر كل مايقوله قانوناً موجباً للتنفيذ دون ان تكون هناك اسباباً موجبة، كما أن الأدارة نفسها كانت تلتزم بتنفيذ القرارات الخاصة أكثر من التزامها بنصوص الدستور المؤقت في حالة التعارض أو التناقض.

فأذا كانت القواعد المنصوص عليها في الدستور تعتبر المصدر الأول من مصادر الشرعية ويتم تهميشها وتسطيحها بقرارات الطاغية، وأذا كانت هذه النصوص لاقيمة تنفيذية أو الزامية لها أمام قرارات الطاغية وهي التي تعتبر أسمى القواعد القانونية للدولة، فانها تفتقد لأبسط المصادر والأعمدة التي تستند عليها الدول القائمة بشكل شرعي وصحيح، بالأضافة الى الأنتهاكات الصارخة لحقوق الانسان والتي اعتبرها بعض فقهاء القانون أعلى قيمة من النصوص الدستورية الوطنية، او الذين اعتبروها بقوة النصوص الدستورية الوطنية، وفي كل الأحوال فأن خرقها والأستهانة بها يمثل قمة الخرق والخروج عن الشرعية الدستورية والقانونية والاجتماعية.
والقرارات الصادرة من القضاء العراقي تعتبر وفق نصوص قانون الأثبات والمرافعات المدنية لها حجة قطعية على الناس كافة اذا ما أقترنت بأكتسابها درجة البتات، أي انها تعتبر حجية على الشيء المقضي به، وهذه القرارات توفر الأستقرار الأجتماعي والأقتصادي والسياسي ضمن انظمة الحكم القانونية، مما يوجب على الناس كافة الألتزام بالأحكام وتنفيذها بما فيهم الأدارة والسلطة، في حين أن السلطة البائدة لم تكن تلتزم بهذه الحجية وكثيراً ماكانت تصدر القرارات الشائنة التي تلغي بها قرارات القضاء ليس فقط في قضايا الحقوق وانما حتى في القضايا الجنائية.

وأمتناع السلطة من تنفيذ قرارات القضاء أو حتى سلب اختصاصه يعد وجهاً بشعاً من أوجه الخرق للشرعية، كما تفتقد السلطة الأنقلابية الى مبدأ الرقابة السياسية، بالرغم من بنائها هيكل كارتوني زعمت انه يمثل البرلمان العراقي أسمته ( بالمجلس الوطني ) لم تمنحة ابسط مقومات البرلمانات العالميةأو اسسها التي تعمل بموجبها ، فلم يكن يحق للبرلمان المذكور أن يقوم بتشريع قانون أو يعدل فقرة من القانون أو يقوم بحذفها، وكل ماله ان يقوم بالأقتراحات والحكومة غير ملزمة بهذه الأقتراحات وكثيراً ماقامت برميها في المزابل.
بالأضافة الى عدم وجود رقابة دستورية أو محاكم تشرف على تطبيق حتى الدستور المؤقت. والمحاكم العراقية التي تتشكل من قضاة معينيين وفق الآلية القانونية المرسومة في قانون التنظيم القضائي والمعهد القضائي ومتشكلة وفق القانون، فانها تعمل وفق القواعد القانونية الشرعية في العمل القضائي، ويكون لقرارتها الآثر المهم والفعال في القضايا المعروضة أمامها، ولايمكن الطعن بشرعيتها.

ويمكن ان تنتفي الشرعية في حال تشكيل المحكمة بشكل يخالف القانون ، كما كان يحصل حين يتم تشكيل محكمة أستثنائية برئاسة شخص من غير القضاة وربما من غير القانونيين وتمارس عملية أصدار الأحكام دون تدقيق أو تمييز، أو أنها تتشكل من قبل سلطة غير مخولة شرعياً وقانونياً بتشكيلها مثلما حصل عند تشكيل المحاكم الخاصة في عهد الطاغية العراقي، كما يمكن ان تنتفي الشرعية بالنسبة للسلطة اذا فقدت قبول الاغلبية العظمى من المحكومين لحقها في ممارسة الحكم، وفي حال السلطة المؤقتة فأن وجود أغلب الأحزاب المهمة وذات الثقل الجماهيري ضمن تشكيلها بالأضافة الى ضمان موافقة التنظيمات والتجمعات غير المتشكلة ضمن الحكومة يؤكد بما لايقبل الشك موافقة الأغلبية العظمى من الشعب على ممارستها السلطة بشكلها المؤقت وصولاً الى تجسيد الشرعية في نظام ديمقراطي يتم تحديدة وفق منهج في الأختيار الحر والمباشر وهو ماسيحددة أنتخاب البرلمان العراقي القادم.