المطالبة بالتغيير، بين الرغبة الصميمة والأكيدة ،والأحلام والتهويمات والولوج في تعزيز ثقافة إسقاط الفرض. ومابين الإسراف في الحديث عن التقدم الإقتصادي والديمقراطية والتعددية ونبذ نموذج الحكم الشمولي، تكون الأوضاع وقد عانت من التلبد. حيث التغييب الذي تتوضح معالمه في طريقة التفاعل مع الواقع ، والمبتنى وفقا لإشتراطات المنفعة والمصلحة التي تعن على أطراف بعينها.

انتشار المعنى
في المعنى المجزوء والمبتسر الذي يتم الترويج له في الفضاء العربي، يكون الإندفاع بمثابة السمة الغالبة والمهيمنة على الأغلب من الطروحات التي يتم التهليل لها ، فيما تذوي العبارة وتتخشب الإرادة الحرة، إلى الحد الذي تتعالى فيه الكلمات الرنانة ذات الطنين العالي، لتغدو الحقائق عرضة للضرب تحت الحزام ، من دون أن يطرف للمهاجمين طرف أو تردد. فالتعديلات الأساسية تبقى ماثلة بيد الفئات المنتفعة بمباشرة مخلة، لاقوام فيها سوى تحقيق المآرب الآنية والمصالح الشخصية ، فيما تكون السلطة والنفوذ بمثابة الأس الثابت الذي يعزز قوة المعنى وإنتشاره في الوسط الإجتماعي. ومن هذا التفاعل المبتلى بالعشى ، تتعرض المعطيات الأساسية إلى الإنتهاب والإنتهاك ، بطريقة فجة وقحة لا قوام فيها سوى الإعتبارات التي تحددها المضامين المستمدة من قاموس قطاع الطرق ونهازي الفرص، تحت دعوى تعزيز قيم البطولة ، والإتكاء إلى إشاعة ثقافة المراجل ذات النكهة القبلية، والتي لاقوام فيها سوى تعزيز نفوذ الجماعة على حساب المجتمع الأكبر.

أين يمكن تحديد مجال العمل، الذي اندرجت فيه منظومة السلطة العليا في المجال العربي، وماهي الرهانات التي مثلت الحافز الأهم في توجهاتها،هل في الرغبة التي تعن على المتسلط في تثبيت وتكريس الواقع من أجل إشباع رغبات الحاكم، وحشد جل الطاقات والإمكانات في سبيل الظفر بالمجد والتقديس إلى حد التأليه للفرد الواحد، أم في طريقة الإتكاء إلى تسويغ مدرجات الكلام، والإنفلات في دوامة من الخطابية المريرة ، والتي لاينجم عنها سوى صرف الأذهان إلى قضايا فرعية، لا رابط فيها سوى الإتكاء إلى كسر منظومة القيم السائدة والعمل نحو تحويل المعاني ونشر المعطيات التي لا تتوافق إلا ومصلحة الفئة التي قيض لها الإمساك بمنافذ الهيمنة على حساب الجموع الغفيرة. وتحت لافتة حث الإمكانات وتوجيه القدرات نحو التحديث وبناء نموذج التطور السريع والشامل، تم الشروع بالعمل الجاد والدؤوب نحو تحييد الفاعلين الإجتماعيين، والحرص على إقصاء النخب المتنورة ، تحت ستار العمل نحو بناء التجربة الجديدة الخالية من أدران الماضي وترسباتها القديمة . فكانت التراجيديا السوداء التي تمثلت في الهدر المفجع للمكونات الأساسية لطاقة البلاد، حتى برزت للعيان ظاهرة هجرة رؤوس الأموال الوطنية والعقول المفكرة إلى الارج ، فيما لم تتوان منظومة السلطة من التسلل إلى عمق العلاقات السائدة ، من خلال التوجه نحو احتكار أنتاج المعنى والمضامين ، من خلال تكريس مجال الحملات، والتي تتكيء إلى محاربة الأمية تارة ، وتوسيع مجال التعليم الأساسي والعالي تارة أخرى، بل وحتى القفز على منظومة العقائد والأديان من خلال الإدعاء بالحملة الإيمانية. لتكون المحصلة الإنهائية وقد شارفت على بلوغ المدى المرجو، حيث السيطرة والهيمنة في أقصاها.

تشويه المضامين
لقد تعرض الواقع العربي إلى لوثة الزعامة والقيادة الملهمة ، إلى الحد الذي بلغ فيه التضليل أن يكون المنهزم، بمثابة المنتصر طالما بقي على سدة الحكم. فبعد كسر منظومة القيم وتشويه المعاني، أضحت العلاقات تعاني من بروز الندوب القبيحة والمفزعة ، لكنها الندوب التي يتم التهليل لها بوصفها التضحيات المقدمة من قبل نموذج البطل، والتي يجب أن تنال التقدير والإحتفاء والتمجيد، ومن هذا الخراب الذي أريد له أن يقيم بين ظهراني العرب، كانت الإنكسارات والتشنجات وقد استفحلت إلى الحد الذي تفاقمت، ولم تعد قابلة للمعالجة أو حتى العرض لتشخيص الأحوال. فالهجمة الشرسة التي بدرت من قبل منظومة الحكم المطلق ، لم تتوان من اللعب في حقل القيم فقط، بل عمدت إلى تعزيز حضورها من خلال الحث على تشويه المضامين السائدة ، حتى غدا ماهو هامشي بمثابة الرئيسي والمهم، في نهم ملفت وبراعة ، لو حسن استثمارها لكانت البلاد والعباد في حال غير هذا الحال المضمخ بالندوب والآهات والإعاقات.
الهجمة الشرسة التي تعرضت لها الفئة الوسطى، لم تتوقف عند معطيات الحث والتحريض والنبذ والتهميش، بل أن موجهات العمل اتخذت معالم مرسومة ودقيقة، حيث التوجه نحو سلب المقومات والمزايا التي كانت تستند إليها تلك الفئة، حتى كان حقل التعليم بمثابة الميدان الذي تم فيه تكثيف مجال الخروقات والإنتهاكات، والتي تبدت في السعار التشويهي الذي طال المناهج الدراسية، وتحويل المؤسسات التعليمية إلى ما يشابه الثكنات العسكرية، وترسيخ القيم والمضامين التي تتناسب والأهداف والغايات التي توافق عقلية المتجبر والمتسلط، فيما انتهكت حرمة الجامعة ولم تعد تلك المؤسسة العلمية الوقورة ، المستندة إلى روح التقاليد العلمية، بل أن الإعتداء على الأسس والثوابت بات بمثابة العرف الذي درجت عليه القوى المتسلطة ، وكأن الأمر يتعلق بثأر من نوع ما ، بين سياقين مختلفين متقابلين، السياق المتعلم والمتنور، والسياق الظلامي الذي يستمد حضوريته من الرغبة العارمة بالسيطرة والهيمنة.