لا يمكن تقييم منظمة الأمم المتحدة التي تضم حالياً 191 دولة، من زاوية واحدة كما يفعل البعض، لفشلها في إيجاد حل للمسألة الفلسطينية، بإغماض العين عن منجزاتها الضخمة على المستوى العالمي، فقد أثبتت خلال ما يزيد عن نصف قرن أنها مؤسسة عملت في جميع المجالات لصالح الجنس البشري، إذ لعبت الدور الأكبر في إنهاء الاستعمار في 60 دولة، وساهمت في الحفاظ على السلام في عالم متخم بالأسلحة وبالأزمات المعقدة، وراقبت وكالتها للطاقة المنشآت النووية في90 دولة لمنع الانتشار النووي، كما عملت لإيقاف الكثير من المنازعات الإقليمية والحروب الأهلية..

كما ساهمت في نشر وتعزيز الديمقراطية بالاشتراك في تنظيم انتخابات نزيهة في عدد كبير من البلدان، ولعبت الدور الأساس في وضع العشرات من الاتفاقات الدولية لتثبيت حقوق الإنسان في جميع المجالات، وتوجيه الضغط الدولي ضد الحكومات الاستبدادية لزيادة تقيدها بحقوق الإنسان، كما شرعت اتفاقات لحقوق الطفل والمرأة وللقضاء على التمييز العنصري ومناهضة التعذيب والإبادة الجماعية، ولحقوق المنتمين لأقليات قومية أو دينية..

وحققت إنجازات هامة في التنمية الاقتصادية في كافة أرجاء العالم، بالمنح والقروض وتصميم المشاريع وتنفيذها، وبرامج التغذية العالمية، والعمل لمكافحة الفقر والأمراض والمخدرات والأمية، وتنظيم الأسرة ومساعدة اللاجئين والإغاثة في حالات الكوارث الإنسانية... كما اضطلعت بدور كبير في تطوير القوانين الدولية في مجالات الأمن والتنمية وصيانة البيئة وتنظيم التجارة الدولية والملاحة البحرية والجوية، ومكافحة الإرهاب، وإنشاء محكمة دولية لمعاقبة مرتكبي جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية....
لا يمكن لأي نص أن يحيط بأعمال المنظمة ومنجزاتها التي تصل إلى كل ركن من أرجاء المعمورة، وإلى كل إنسان من سكان العالم، كما لا يمكن اختصارها فيما يدعيه بعض السياسيين العرب، الذين فقدوا الاتصال بالعصر وتكلسوا حول أيديولوجياتهم، من أنها منظمة هيمنت عليها أميركا وحولتها للعمل لمصلحتها، كواجهة "للعودة لاستعمار الدول".
إلا أن المنظمة رغم كل منجزاتها بحاجة لإصلاح وتطوير لتواكب العصر الجديد، ولمواجهة تحديات قائمة ومستمرة، كالحروب بين الدول والحروب الأهلية وانتهاكات حقوق الإنسان، والفقر والأمراض المعدية وتدهور البيئة الكونية، والمخاطر الجديدة ومنها بشكل خاص الإرهاب والجريمة المنظمة على مستوى العالم، التي بات حصول منظماتها على أسلحة دمار شامل أمراً وارداً، مما يستوجب عملاً وقائياً قبل وقوع الكارثة. لذلك جاء تشكيل الأمين العام "للفريق رفيع المستوى" لبحث التحديات والتهديدات، وإدخال التحسينات على عملها لتمكينها من التصرف قبل نشوب المخاطر.

كان من أهم التوصيات ال107 الواردة في تقرير "الفريق"، تأييد المسؤولية الدولية الجماعية عن الأمن الجماعي للعالم، من خلال إجراءات يمكن أن يتخذها مجلس الأمن عند حدوث، أو الخشية من حدوث، انتهاكات فاضحة لحقوق الإنسان، أو عمليات قتل واسعة النطاق، في دول ذات سيادة عاجزة عن ردعها أو غير راغبة في ذلك أو مشاركة فيها. في هذه الحالة رأى "التقرير" مسؤولية المنظمة للتدخل لحماية المدنيين، فقد حظي الحفاظ على حياة المدنيين في أي مكان بالعالم في السنوات الأخيرة باهتمام عالمي متزايد، حتى أن سيادة الدول لم تعد مبدأ مطلقاً معيقاً، لا يعني ذلك تفرغ المنظمة لشن الحروب، بل استنفاذ كافة الوسائل السلمية قبل استعمال القوة.

يشير عنوان التقرير: "عالم أكثر أمناً: مسؤولية مشتركة"، إلى الترابط العالمي وتوحد التهديدات الأمنية التي تواجه العالم، مما يستدعي الأهمية القصوى للأمن الجماعي كهدف راهن للبشرية، الذي يُمارس من خلال المنظمة كبديل للتحالفات العسكرية الإقليمية المحدودة، بالاعتماد على نظام أمني أممي شامل، يعطي صلاحيات اللجوء لإجراءات أو لضربات استباقية تتخطى الحدود القومية للدول، شرط العودة لمجلس الأمن للحصول على موافقته.

كما أكد "التقرير" على أن مواجهة التهديدات الأمنية العالمية تبدأ من تنمية البلدان المتخلفة في كافة المجالات للقضاء على الفقر والجوع والأمية والأمراض، إذ يتزايد الأمل بتحقيق نوع من العدالة الاجتماعية على المستوى العالمي كهدف للقرن الحالي. لم يعد هذا الهدف جزءاً من برامج أيديولوجية مثالية أو مشاريع أخلاقية خيالية، بل أصبح هدفاً أساسياً لا بد من تحقيقه لصالح عالم أكثر أمناً، يهم جميع الدول وعلى رأسها الدول الصناعية الكبرى، فالعدالة الاجتماعية التي فشلت أنظمة اشتراكية في تحقيقها يمكن أن تصبح من مهمات عالم ازداد ترابطاً وتشابكاً، وتعززت المصالح المشتركة لجميع دوله غنيها وفقيرها، فالتنمية في كافة المجالات توفر حياة الملايين وتقدم لهم مستويات معيشة أفضل، مما يمكن جميع الدول من المساهمة في تحقيق الأمن الجماعي العالمي.

ومن المسائل الهامة في تقرير "الفريق"، اقتراحات حول تركيبة مجلس الأمن الذي يشكل السلطة التنفيذية العليا للمنظمة بزيادة عدد مقاعده إلى 24، من مقاعد إضافية لدول دائمة العضوية، وأخرى لدول غير دائمة العضوية قابلة للتجديد، فالمزيد من الدول في المجلس يساهم في تعويض الخلل في توازنه بعد انهيار نظام القطبين، مع تعزيز الطابع الديمقراطي للمجلس وجعله خاضعاً أكثر للمحاسبة..

أما بالنسبة لحق النقض الذي يطالب بعض السياسيين العرب بإلغائه على خلفية استعماله المتكرر من قبل أميركا ضد أية قرارات موجهة لإسرائيل، فهو أمر غير واقعي، فمن المتعذر تساوي دول كبرى مثل أميركا والاتحاد الروسي والصين والهند تملك صوتاً واحداً مع دول مثل جزر القمر لا يتجاوز عدد سكانها بضع مئات من الآلاف. ما نراه واقعياً وممكناً عدم زيادة الدول الحاصلة على حق النقض، بالإضافة لتحديد المجالات التي يحق للدول المتمتعة به استعماله ضمنها. كما يمكن إخضاع مجلس الأمن لمسائلة الجمعية العامة عندما لا يعتمد التمثيل على عدد الدول بل على عدد سكانها وقوتها الاقتصادية ومدى مساهمتها في موازنات وبعثات المنظمة وغير ذلك من المعايير، إذ من الطبيعي أن يكون لهذه الدول دوراً اكبر في صنع قراراتها.

تحويل الجمعية العامة لهيئة تشريعية تواجه السلطة التنفيذية لمجلس الأمن، يمكن أن يتم برأينا بإنشاء نظام المجلسين المعتمد في الدول الفيدرالية، التي يقوم أحدها على تمثيل بناء على عدد سكان الولاية الفيدرالية، والآخر على تمثيل جميع الولايات بمقاعد متساوية. أن المزيد من الفعالية التنفيذية للمنظمة ضروري لتطبق على جميع الدول شرعتها وقراراتها، التي يجب أن ترفق بعقوبات ضد الدول التي تتجاوزها في التعامل مع مواطنيها ومع الدول الأخرى.

إن ما يروج عن تراجع دور المنظمة أمام هيمنة الدولة العظمى الوحيدة عليها ليس دقيقاً، فأميركا لا تستطيع تمرير ما تريده من خلال مجلس الأمن، وخير دليل على ذلك عدم موافقته على الحرب ضد العراق، ثم إصداره قرارات تتضمن تحديداً دقيقاً لدور القوات متعددة الجنسيات ومدة بقاءها. فعندما يتعذر منع هيمنة الدولة العظمى فعلى الأقل يمكن الحد منها، والاستمرار في الضغوط عليها لاحترام الديمقراطية في العلاقات الدولية، فالمنظمة ستفقد فعاليتها دون مشاركة الدول الكبرى فيها وخاصة أميركا، التي يمكن وقف اندفاعها للهيمنة على العالم واحتواء دورها داخل مؤسسات المنظمة الدولية.

إن الداعين للعودة لنظام متعدد الأقطاب لموازنة دور القطب الواحد، يحلمون باتجاه راجع للوراء، يذكر بمجلس أمن محدود التأثير في ظل التوازن القديم بين القطبين، وهو أمر يتعاكس مع التطورات الموضوعية التي تقود لعالم أكثر توحداً وترابطاً. بينما الحلم بحكومة عالمية، سلطتها التنفيذية مجلس أمن معدل للحد من هيمنة أي طرف عليه وقوات متعددة الجنسيات دائمة الحضور، وسلطتها التشريعية جمعية عامة من مجلسين لتمثيل أفضل لشعوب العالم، وسلطتها القضائية محاكم دولية مستقلة ذات قرارات نافذة، هو الحلم الأكثر اقتراباً وتوافقاً مع المتغيرات العالمية، والذي يقود لعالم أكثر أمناً وتحقيقاً للعدالة والمساواة في الحقوق السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية لكافة أفراد الجنس البشري.

كاتب فلسطيني