3 – 3 : المعوّقات الاجتماعية

شهد العالم العربي المعاصر تَشكَّلَ مجتمعين متباينين : أولهما، هامشي أو مهمش يتكون من غالبية الأرياف والبوادي وبعض المدن أو أقسام من المدن. وثانيهما، جديد/سياسي، مجتمع مدن، مهن وحرف جديدة أو متغيرة، طلاب وتعليم حديث، سياسة وأحزاب. فمعظم المواقع والعلاقات الاجتماعية في حالة تَشَكُّلٍ وتداخل وتبادل بين القديم والجديد، بين العلاقات ما قبل الرأسمالية، حيث أشكال الترابط والتضامن على أسس قبلية وطائفية وعشائرية وخدمية، وبين الأوضاع والعلاقات الجديدة التي تتشكل بفعل علاقات الإنتاج الرأسمالية الحديثة وأنماط التقسيم الدولي للعمل.
إنّ ترييف المدينة وبدونتها، على حد تعبير الدكتور محمد جابر الأنصاري، هو الإشكالية المطروحة على الفكر العربي السياسي، فقد جلبت التحولات الاجتماعية ما بعد عهود الاستقلال الأولى إلى الحواضر العربية إما أبناء الريف العربي أو أبناء البادية، وهؤلاء لم يقفزوا على السلطة بالطريقة التقليدية، التي نوه إليها ابن خلدون بالعصبية القبلية، ولكنهم حازوها من خلال المؤسسات " الحديثة " المنظمة كالجيش والأحزاب " الحديثة " التي جمعتهم لأسباب اقتصادية وأيديولوجية وعصبوية أيضا، فأصبح العمل السياسي العربي- إلا فيما ندر- في أيدي هذه الفئات بعد أن تخلصت، تحت شعارات شتى، من الأرومة المدنية العربية في الحاضرة، التي قادت العمل السياسي والصناعي والتجاري برهة من الزمن بعيد الاستقلال... فأصبحت قيم وممارسات العمل السياسي في المدينة العربية قيما وممارسات ريفية، مما اصطلح على تسميته بـ " ترييف المدينة ". أما القوى التي لعبت أدوارا في الدولة العربية فهي عديدة، ولكنها متفاوتة التأثير ويمكن تصنيفها كما يلي :
(1) - العائلات الحاكمة، سواء كانت عائلات تقليدية، حكمت نتيجة توارث السلطة، أو عائلات حاكمة جديدة، جاءت نتيجة الانتخابات أو الانقلابات، فإنّ هذه العائلات لا تمسك بزمام السلطة فقط، بل بزمام الحياة الاقتصادية أيضا. وهي ذات مصلحة بالمحافظة على السلطة في القطر الذي تحكمه، لأنّ وجودها في السلطة مصدر قوتها وسلطتها.
(2) – البورجوازية – العقارية – التجارية - المالية، وهي خليط من أبناء وأحفاد العائلات الإقطاعية وكبار التجار والملاكين العقاريين في العهد العثماني، ومن العائلات العقارية - التجارية التي نمت وترعرعت في عهود الاستعمار الغربي، ومن البورجوازيين المتوسطين الذين أثْروا في عهود الاستقلال.
(3) - الشرائح العليا من البورجوازية الصغيرة المستفيدة من العائلات الحاكمة والبورجوازية العقارية – التجارية - المالية، والتي تحتل مواقع مهمة في الدولة والجيش والشركات.
ثم أنّ المجتمع العربي يتسم بالثبات، من خلال قيمه ومعاييره الموروثة. فمن الاتجاهات الموجودة في نظام القيم العربية التي تعوّق إمكانية التنشئة المواطنية الصحيحة يمكن أن نذكـر : النزوع نحو التشديد على العضوية في العائلة وليس على الاستقلال الفردي، والنزوع نحو الاتكالية والطاعة وليس الاعتماد على الذات، والتمسك بالعقاب كوسيلة للتربية أكثر من الإقناع، والنزوع نحو الأنانية، وسيطرة الرجل على المرأة حتى إخضاعها.

ولعلنا لا نحتاج إلى عناء كبير لنلمس هذا النزوع نحو الخضوع والطاعة والاتكالية من جهة، وحب السيطرة والأنانية من جهة أخرى. ويرى بعض الباحثين أنّ هذه القيم لا تتحكم فقط بالعلاقات الأسرية بل أيضا بالعلاقات السياسية. وهكذا، فمن أخطر ما أصاب التركيبة الاجتماعية العربية، في عصور التدهور، اختلال التوازن داخلها، بين الرجال والنساء، وتشابه على مجتمعاتنا الغاية والوسيلة. فمالت كل الميل إلى التمسك بالوسيلة، وغاب عنها أنّ الغاية هي المقصودة، وعليها المدار. فنسيت مجتمعاتنا أنّ الوسائل إنما هي مطية لبلوغ الغاية، تتبدل بتبدل الأوضاع، وتتغير بتغيّر الأحوال، وتتطور بتقلب الأزمان. هذا الخلط بين الوسيلة والغاية هو الذي جمد الدفق الحضاري في مجتمعاتنا، وأفقد العقل سلطانه في الكثير من الأمور الجوهرية. فتعطلت قاطرات الفعل الحضاري، وانسدت ينابيع الفكر الثقافي، حتى شمل الشلل أغلب مراتب التصرف، في مستوى الحكم، وفي صعيد الاقتصاد، وسائر شؤون المجتمع.

3 – 4 : المعوّقات الثقافية
يبدو أن تفسير التأخر الحضاري العربي عن طريق المشروطيات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية لا يكفي. فالعقليات وإن كانت مشروطة بالتحولات الاقتصادية والاجتماعية، فإنّ لها استقلاليتها الذاتية إلى حد ما. فأحيانا يتغير الواقع المادي دون أن تتغير العقليات، إذ تدخل التكنولوجيا والحداثة المادية والتجهيزات والآلات إلى مجتمع ما وتظل العقليات فيه متأخرة أو تقليدية.
إنّ الخطاب الثقافي، في ظل ما تشهده المجتمعات المعاصرة من تحديات وتحوّلات، هو خطاب الأزمة : فمن جهة، هناك الانهيارات السياسية والأيديولوجية التي أصابت العديد من الأفكار والنظم والمشاريع. ومن جهة ثانية، هناك الطفرات المعرفية التي شهدتها الفلسفة وعلوم الإنسان، والتي أسفرت عن انبثاق قراءات جديدة للحداثة وشعاراتها حول العقل والحرية والتقدم. ومن جهة ثالثة، هناك الثورات العلمية والتقنية والمعلوماتية التي ندخل معها في طور حضاري جديد. ولعل أحد أهم ملامح أزمة الخطاب الثقافي المعاصر تكمن في محاولة التعرف على عناصر ومكوّنات ثقافة العولمة وأدواتها الوظيفية، وكذلك ما تنطوي عليه من قضايا : الثقافة الوطنية، والهوية الحضارية، والخصوصية القومية.
ولاشك أنّ أزمة الثقافة العربية المعاصرة هي جزء لا يتجزأ من أزمة الدولة العربية من جهة. وهي، من جهة ثانية، أزمة بنية ثقافية عربية تندرج في إطار بنية اقتصادية - اجتماعية متوارثة منذ عقود طويلة من الركود والتأخر والتبعية. مما يسمح لنا بأن نطرح السؤال المقلق الذي أثاره الأمير شكيب أرسلان في مطلع القرن العشرين : لماذا تراجع العرب وتقدم غيرهم؟. وتفسير عبدالله العروي لأزمة الثقافة العربية المعاصرة بأنها اختلال العلاقة بين الوعي والفعل، بين الوعي المنقوص والفعل العاجز، بين التوفيقية الملتبسة وافتقاد القدرة على الحسم؟!.
وقد أدى كل ذلك إلى تصاعد نزعات التعصب والتطرف، وتزايد عمليات الإرهاب التي تتمسح بالدين الحنيف، وارتفاع درجة العنف الذي صاحب الدعوة إلى الدولة الدينية، أو صاحب الاتجاهات التقليدية الجامدة التي تصف التحديث ببدعة الضلالة المفضية إلى النار. هكذا، رأينا الاعتداء على المواطنين الأبرياء، ورموز السلطة المدنية، وتهديد المثقفين المستنيرين بكل وسيلة ممكنة. وأضيف إلى ذلك تحوّل هذا الإرهاب من إرهاب محلي إلى إرهاب دولي، وذلك في سياق متصاعد وصل إلى ذروته في جريمة الحادي عشر من سبتمبر/أيلول 2001 في نيويورك وواشنطن، وهي الجريمة التي فرضت أوضاعا جديدة تمامـا، جعلت العالم كله يرى أبشع وجه للإرهاب.
ومن المؤكد أنّ أصحاب نزعة التعصب والعنف لم يدركوا التراث العربي - الإسلامي في كماله وصراعاته واختلافاته وتعدده في تنوعه، ولم يدركوا لماذا كان هناك المعتزلة والأشاعرة، ولكنهم أخذوه كما هو في مظهره السطحي وتضاريسه الخارجية. بسبب غلبة الوعي الأصولي النقلي على تفكيرهم، وذلك على نحو يغدو معه سؤال المستقبل سؤالا غائبا عن حياتهم وليس عنصرا تكوينيا من عناصرها الحيوية. ودليل ذلك يسير جدا، نلمسه في ندرة كتاباتهم ورؤاهم التي تشغل نفسها بسؤال المستقبل، وذلك في مقابل الوفرة الوافرة من الكتابات والخطابات والممارسات المهمومة بسؤال الماضي وحضوره الذي يتحول إلى ما يشبه حضور العلة الأولى أو المركز المطلق للحضور. والنتيجة هي قياس كل شيء على الماضي، والعودة بكل جديد إلى أصل يبرره من القديم، والنظر إلى التغيير في ريبة، وإلى التجدد بعين الاتهام. في حين أنّ الثقافة التراثية ثقافة متنوعة لا ينبغي أن نأخذها في مظهرها السطحي، وعلينا نحن أبناء القرن الحادي والعشرين ألا نتبنى هذا التراث بطريقة مطلقة، وإنما نتعقله في سياقه التاريخي، وكيف ظهر وانتهى في زمنه، ثم بعد ذلك نضيف إليه بحسب عصرنا وظروفه، وبرؤية عقلانية نقدية، وبذلك يصبح التراث قيمة متحركة، ويخرج عن إطار الجمود أو أن يكون مجرد ماضٍ.
كما أنّ العلاقة بين القومية العربية والإسلام علاقة متشابكة ومعقدة إلى أقصى حد، إذ تختلف هذه العلاقة عن علاقة أي دين بأية قومية، وقد زادت الهجمة الاستعمارية الغربية من حجم التداخل بين العروبة والإسلام، إذ لم تقتصر على الجانب المادي فقط، بل بلغت الجانب الروحي للشعوب العربية أيضا، من خلال هجومها على مقدساتها وقيمها الدينية. لذلك فإنّ هذه الشعوب استعانت بكل قواها، بما في ذلك قوة الدين، لأنها كانت تحس أنّ الغرب يستهدف وجودها وحضارتها ودينها. وإزاء هذه الخصوصية والتعقيد بين العروبة والإسلام يمكن أن تتحدد علاقة أكثر صحة وأكثر دقة بينهما، بالاستناد إلى ما يلي :
(أ) ـ العلمانية، بمعنى فصل الدين عن الدولة، وليس العداء بينهما، أساس جوهري في قيام الدولة، وفي علاقة المواطنين بها، بغض النظر عن انتماءاتهم الدينية أو المذهبية أو القومية.
(ب) ـ المواطنون متساوون، ولا يجوز التمييز بين مواطن وآخر بسبب الانتماء الديني أو الطائفي أو القومي، وتولي الوظائف العامة لا يحدده سوى الولاء للوطن والكفاءة.
(ج) ـ الإسلام جزء أساسي في تكوين تراث الأمة العربية، وقد كان لهذا التراث تأثير هام في إضفاء ملامح وخصائص معينة على الشعوب العربية تميزها عن غيرها من الشعوب.
(د) ـ الحركات الدينية المتطرفة، حركات تعصب وانقسام في المجتمع، ولذلك لا يجوز أن تقوم على هذا الأساس في إطار العمل السياسي.
وفي زمن العولمة، فإنّ طبيعة المخاطر المهددة للثقافة العربية لا تتعلق بعمليات العولمة وتداعياتها الثقافية والسياسية والاجتماعية، بقدر ما تتعلق بمدى قدرتها على تجاوز أزمتها، خاصة ما يتعلق منها بالتنمية الشاملة وتوسيع إطار الديمقراطية، وتعزيز مؤسسات المجتمع المدني، وتفعيل قيم الحوار والتعددية، وقبول الرأي والرأي الآخر، وتوفير حرية البحث العلمي، وإنشاء منظومة تربوية تقوم على تأهيل وإعداد كوادر تعليم عالية المهارات، واحترام عقل المتلقي، وتوفير وسائل تمكينه من الاستيعاب الناقد للمعلومات والآراء وإبداع الأفكار، واختصار الزمن في مناهجنا التعليمية، وإطلاق العنان للطاقات الشابة في كل المجالات لكي تفكر وتبدع وتعزز ثقتها بإمكاناتها.
إنّ حضور سؤال المستقبل في أية ثقافة هو دليل حيويتها، على حد تعبير الأستاذ جابر عصفور، فبقدر حضوره في تكوينها تتحدد قابليتها للتطور، وقدرتها على التقدم، ورغبتها في الإبداع الذاتي. إنّ الوعي المستقبلي يقيس على الحاضر في حركته إلى المستقبل، ولا ينشغل بالماضي إلا بوصفه عنصرا من عناصر الحاضر الذي يقبل التحول والتطور والمساءلة. وسؤال المستقبل عنصر تكويني في هذا الوعي وعلامة عليه، سواء في حرصه على الارتقاء بالإنسان من مستوى الضرورة إلى مستوى الحرية، أو الانتقال بالمجتمع من التأخر إلى التقـدم.
وهكذا، يبدو واضحا أننا أحوج ما نكون إلى إعادة صياغة الخصوصية الثقافية العربية، بمعنى أننا في أمس الحاجة إلى عملية إحياء ثقافي. فالثقافة العربية الراهنة تمر في مرحلة انحطاط وردة واضحين، فهناك تراجع عن الفكر العلمي لفائدة الفكر الخرافي، وهناك استفحال ظاهرة الخطاب الماضوي الذي يجهد في محاولة إرجاع العالم العربي إلى العصور المظلمة، ويحفّزه على التشبث بمرجعية ماضوية، وكأن الماضي ينبغي أن يحكم الحاضر والمستقبل.
وإزاء ذلك يبدو أنّ الخطوة الأولى في محاولة التعاطي مع أسئلة المستقبل تكمن في فهم لغة الخطاب العالمي المعاصر، التي يتم التعامل بها بين أطراف هذا العالم الجديد، وخاصة القوى الغربية المؤثرة، وبالتحديد فهم توجهات هذا العالم نحونا. إذ أنّ البحث في الاعتماد المتبادل بين العالم العربي والخارج هو بحث في المستقبل، وأية دراسة للمستقبل لا بد أن تنطلق من صورة العالم، ونماذج تطور النظام العالمي في أبعاده السياسية والاستراتيجية والاقتصادية والثقافية. ومن جهة المنظور، لا يخفى أنّ الدراسات المستقبلية ليست جديدة، ولكنها تشهد اليوم ازدهارا واضحا يستقطب اهتمام المفكرين والمنظرين الاستراتيجيين. والرؤى المستقبلية لا يمكن إلا أن تكون تعددية، بمعنى أنها تتغذى من جميع فروع المعرفة بقدر ما تنفتح على جميع وجوه الحياة، كما تتجلى في العلوم الاجتماعية، أو في ميدان التاريخ والحضارة، أو في مجال الفلسفة والأخلاق، أو في ميادين الفن والأدب، أو في علوم الاقتصاد والمال، أو في الدراسات السياسية والاستراتيجية، أو في العلوم الطبيعية والبيئية، أو علوم الوسائط والاتصـال.
وهكذا فالتفكير من منظور مستقبلي يتوقف على العمل بعقل تواصلي، من هنا تتبلور اليوم شبكة جديدة من المفاهيم تتلاءم مع التحول الذي تشهده البشرية. بحيث تتركز الجهود الفكرية والعملية على تشكيل المجتمع الكوني التداولي، لمجابهة الداء الأعظم الذي يفتك بالبشرية، كما يتجسد في أنشطة العنف والأعمال البربرية التي تقوم بها قوات الجيش الإسرائيلي ضد أبناء الشعب العربي الفلسطيني. وهذا أحوج ما يحتاج إليه العرب : المساهمة في تنمية المجال التداولي وتوسيعه وإتقان لغته، خاصة ما يتعلق منه بـ " المجتمع المدني العالمي " ومنظماته غير الحكومية، لأنه الفاعل الجديد في العلاقات الدولية.
وانطلاقا من المعطيات، الموصوفة أعلاه، ثمة أهمية كبرى لصياغة استراتيجية عربية للحوار والشراكة مع الثقافات الأخرى، مما يستدعي القيام بدور نقدي مزدوج :
(1) - الاستيعاب النقدي لفكر الآخر، بمعنى المتابعة الدقيقة للحوار الفكري العميق الذي يدور في مراكز التفكير العالمية، وفي العواصم الثقافية الكبرى.
(2) - النقد الذاتي للأنا العربية، بما يعنيه ذلك من ضرورة أن نمارس النقد الذاتي لممارساتنا السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية في عقود مرحلة استقلالاتنا الوطنية على الأقل.
وهنا تبرز مهمة المثففين بالتوجه إلى الحداثة كهدف وككل متكامل، بما ينطوي عليه ذلك من تبنّي لسلطان العقل على النقل، والفصل بين الخطابين الديني والسياسي، والتخلي عن الشعارات والأوهام، وفهم اتجاه الحقبة التاريخية المعاصرة، والدعوة إلى التحديث السياسي باعتباره المدخل الحقيقي لأي تحديث آخر، والدفاع عن المواطنة التي قوامها المساواة بين المواطنين في الحقوق والواجبات، والتمسك باحترام الحق في الاختلاف انطلاقا من نسبية المعتقدات والقناعات حسب قول المفكر الجزائري مالك بن نبي " رأينا صواب يحتمل الخطأ ورأيهم خطأ يحتمل الصواب ".
ومما لا شك فيه أنّ عصر الحداثة لم ينغلق في نمط نهائي، بل هو في تطور متواصل، بهدف الإجابة على التحديات التي تواجهها المجتمعات البشرية، عبر عقلانيته النقدية. فهو العصر الذي حققت البشرية فيه أثمن مكاسبها وأعظم إنجازاتها في المجالات السياسية والاجتماعية والمعرفية. وللخروج من الحالة الماضوية الغالبة للثقافة العربية، خاصة في ظل ثقافة العولمة، لا بد من التأكيد على مجموعة جوانب مترابطة للتغيير الثقافي، الذي يمكّننا من القطيعة مع التأخر والانطلاق إلى مسارات النمو والتنمية الذاتية، والتحرر من المحنة العربية :
(1) - ثقافة الدور أو الواجب الحضاري، أي إحياء فكرة الإعمار التي هي من أهم الأرصدة الثقافية للحضارة العربية - الإسلامية، بما هي واجب الإنسان في الكون. خاصة وأنّ القول قد حل محل الفعل في أداء رسالة الدور الحضاري في ثقافتنا العربية، حين اطمأن العرب إلى دورهم في الماضي، فعكفوا على تمجيده، دون الإضافة إليه.
(2) - ثقافة الامتياز والإنجاز، إذ أنّ الفائزين في المنافسة الحضارية هم من يسعون لتحقيق أعلى معدلات وأرقى مستويات الأداء في مجالات الحضارة المختلفة.
(3) - الانفتاح والمبادرة الإيجابية، حيث أنّ الانكماش واتخاذ موقف الدفاع حيال ما يسميه البعض بـ " الغزو الثقافي " هو استراتيجية بائسة وفاشلة تماما، فلم تعد الاستراتيجيات الدفاعية والفصامية قادرة على إنقاذ الذات الحضارية من الهزيمة أو التبعثر، وإنما صار الأمل الحقيقي في الصمود رهنا بالتعلم واستيعاب وإتقان ما لدى الآخرين من رصيد المعارف وفنون الإنتاج، ثم في الثقة بالذات والشعور بالواجب الحضاري، وإصلاح شؤوننا الداخلية بعدما فسدت وتدهورت بدءا من أنظمة الحكم ومرورا بنظام الجامعات ومواقع الإنتاج والخدمات.
(4) – المؤسساتية، إذ تحتاج الثقافة العربية احتياجا أساسيا وعميقا لامتصاص واستيعاب أهم منجزات الحداثة وهي المأسسة. بما تعنيه من تمييز الخط الفاصل بين الشخصي والعام، وخاصة فيما يتعلق بالدور، ولكن أيضا فيما يتعلق بالملكية والسلطة. كما تعني شيئا من الاتصال والتراكم والديمومة في أداء الوظائف.
(5) - التصحيح المستمر والنظر للمستقبل، فبسبب المساحة المهيمنة للمطلقات، والتعلق الشديد بالماضي، لا يحتل المستقبل المساحة الجديرة به في الثقافة العربية، فالمستقبل " ليس سوى مجرد استمرار للماضي، بل أنّ أفضل مستقبل هو ما يتقيد بأفضل ما في الماضي "، وكأن الزمن لا يفعل سوى إعادة إنتاج نفسه في نموذج مثالي سرمدي مطلق الصلاحية والحضور.
ولعل التحدي الأكبر الذي يستوجب على المجتمعات العربية مواجهته هو التحكم في نقاط ضعفها نفسها وفي مقدمتها نظمها السياسية، ومنظوماتها الاقتصادية والأمنية والإدارية والاجتماعية والثقافية، واكتشاف هذه النقاط وإدراك النقائص والسعي إلى معالجتها. هذه هي الخطوة الأولى نحو تكوين الفاعل التاريخي القادر على تحديد أهداف وبلورة استراتيجيات، والدخول في تنافس أو تفاهم مع الأطراف الدولية الأخرى. فلا أمل اليوم لطرف في التأثير على مصيره الخاص إلا إذا نجح في أن يكون شريكا مع الآخرين في التعاطي الإيجابي مع التحديات العالمية، فالمشاكل التي يعاني منها هي نفسها التي تعاني منها بقية المجتمعات، ولا مجال لبلورة حلول ناجعة لها إلا من خلال منظورات إقليمية وعالمية.

كاتب وباحث سوري مقيم في تونس

المقال في الأصل ورقة قدمت – بالنيابة – في إطار الندوة التي أشرفت عليها " مؤسسة الشجرة للذاكرة الفلسطينية " في المركز الثقافي العربي بمخيم اليرموك - دمشق في الفترة ما بين 6 و 9 ديسمبر/كانون الأول 2004 ضمن محور " معوّقات الحداثة العربية والقضية الفلسطينية ".