انطلاقاً من الأثر النبوي القائل: أنّ ابن آدم لن تَزِلّ قدمه ـ يوم القيامة ـ حتى يُسأل عن أربع، منها وقته.. تظهر أهميّة محاكمة الكُتّاب الذين باعونا الوهم، وأضاعوا أوقاتنا، وأهدروا أموالنا في شراء رُؤاهم المضحكة، وأطروحاتهم المريضة!وحتى لا يكون الكلام في فضاء العموم، ومساحة الإجمال، سأنبش الذاكرة، لأستخرج منها ذكريات قارئ لم يجد في "جُلِّ" ما يقرأ إلا بيع الوهم، وتسويق الهمّ، ووجع الأسى، وتعب النظر، بل أنّ قراءة مثل هذه المقالات قد يكون عقوبة معجّلة، أو هو كفارة الإثم، وهذه الحسنة اليتيمة لتلك المقالات!

فالكاتب العربي مسكون بأوهام، يُحسّ بها، استحوذت عليه منذ سفينة نوح، ومازال يطوِّرها ويُجمِّلها، لتعدد أشكالها وأحجامها، ولكن في نهاية الأمر، لا تعدو أن تكون واحدة، محورها أن العربي ـ ومعه المسلم ـ هو أفضل من تسعى به قدم، ولا غرابة في ذلك فـ"الأرض بتتكلم عربي"!

خذ مثلاً: أي عربي يموت ـ حتى لو تجاوز العمر الافتراضي، الذي حدّده الرسول عليه أزكى الصلاة وأفضل السلام، وهو ما بين الستين والسبعين ـ فإن موته مؤامرة، إذ العربي لا ينبغي أن يموت، فهو من طائفة شعب الله المختار! وأي كاتب يكتب عن العرب، مُبدياً ملاحظة هنا أو نقداً هناك ـ إذا كان عربياً ـ فهو إمّا أن يكون شاذاً لا اعتبار له، ومن المحتمل أن يكون قد تعرض لغسيل فكري ـ وقد نسي هؤلاء أهمية الغسل والنظافة في الإسلام ـ وإما أن يكون من مُحبِّي جلد الذات، ويتلذّذ بها، حتى لو قال أن العرب لا يُحبُّون التّقيُّد بالمواعيد، فهذا القائل مُفترٍ ظالم، جالد للذات، مازوشياً! أمّا إذا كان الناقد غير عربي، فهو إما شعوبي حاقد، أو عميل حاسد.. وليت شعري على ماذا يحسد ويحقد؟!

وبعض هذه النوعية من الكُتّاب يضحكون على البسطاء، ويفتحون مقالاتهم بعبارات توحي بالمنطق، وتستند على الوعي الكاذب، عبارات مثل: "لا نقول أن العرب أفضل الناس، ولكن.."، أو: "نعم هناك أخطاء، ولكن.."، وبعد "لكن" هذه تضيع الأمور، لأن لكن تفيد الاستدراك، وكما يقول أجدادنا النحاة: الكلام المستدرك أهمُّ من الكلام غير المستدرك!

وأكثر ما تتّضح فيه عورة هؤلاء الكتاب، وتتكشّف سيقانهم، عندما يكتبون عن أمريكا "سيدة الدنيا"، إذ لديهم جُمل وعبارات وأفكار معلبة "كأسماك تايلاند"، وتُقدّم هذه المعلّبات في كل مكان، وكل زمان، إذ لها "خصوصية" الصلاحية الدائمة، بوصفها مستوحاة من الإسلام، والإسلام صالح لكل زمان ومكان، رغم قبول الثانية، ورفض الأولى.. وأبرز هذه الكلمات قولهم: "أمريكا تتشدّق بالحرية"، وكأن اللغة ليس منها إلا فعل "يتشدّق".. والعلاقة بين الكاتب العربي وأمريكا قائمة على الكُره من البداية، فما من مولود عربي إلا يولد على فطرة الكراهية لأمريكا، لأنه جاء الدنيا ليختلف معها وعنها!

وكره أمريكا يعتمد على الأفعال، فإذا أرادت أمريكا محاربة دولة، ورفع الظلم عن شعب مظلوم، يهرع الكُتّاب العرب "بشكل مجاني"، كما يهرع رجال المطافئ.. يهرعون بأقلامهم مُؤكدين أن أمريكا ستكرر مستنقع "فيتنام"، مع أن أمريكا دخلت حرب تحرير الكويت من العراق، وحرب الصرب، وحرب تحرير أفغانستان وأخيراً حرب تحرير العراق، وفي كل هذه الحروب خرجت أمريكا منتصرة، ولكن العربي لا يحفظ إلا النص الأول التاريخ، لأنه لا يعرف غير ذلك، لأنه رهينة النص الأول، والحب الأول، لأن أبا تمام حنّطه بقوله:
نَقِّلْ فُؤَادَكَ "فِي الْحُرُوبِ، فَإِنَّهُ
مَا الْحُبُّ إِلاَّ لِلْعِرَاكِ الأَوَّلِ"!

ولو كان العربي شجاعاً ـ كما يدّعي ـ لرجع إلى ما كتبه خلال سنوات، ليدرك أنه إما أعمى يعيش في مدينة الأنوار، أو مُبصر يعيش في أفكار مظلمة، والدليل أنه حتى في الكلمات والعبارات التي يصف فيها "تحرير العراق" على يد الأمريكان لا يعمد إلى لغته، بل يستعير تعابير الكتاب الغربيين، فيقول مثلاً: "حمّام الدّم في العراق"، مُترجماً عبارة سمعها في صحيفة، أو في نشرة أخبار.. ولا يُلام العربي فيه ذلك فيه يكتب ممتاحاً من ذاكرة ثقافته، حين كان أجداده لا يعرفون الحمّام، وإنما يقضون حوائجهم في العراء.. وطالما أن العرب يكرهون التدخل الخارجي والوافد والدخيل، ويُرحِّبون بالأصيل، فعليهم محاربة مثل هذه "الجُمل"، وليس استعمالها واستهلاكها استهلاك الجائعين!
وإذا تعلّق الأمر بـ"الفعل الانتخابي" في أمريكا، فأول عبارة يرفعها العربي أن الرئاسة الأمريكية والانتخابات "لعبة في يد الغربي الصهيوني"، ولا يمكن أن يأتي رئيس إلا ليخدم إسرائيل، رغم أن هذا الكلام كذّبه الرئيس الحازم بوش الابن، إذْ كان خصمه "كيري" أكثر تَقرُّباً، وأشدّ حماساً لليهود، أو كما يقول أصدقائنا الأغبياء: "الغربي الصهيوني"، ومع ذلك لم يفز كيري "الصهيوني"، وطار بالرئاسة "الجَسور".. والمضحك ـ غير المبكي ـ أن الكُتّاب العرب، غضبوا من هزيمة كيري أكثر من كيري نفسه.. الله ما أجمل هذه الروح العربية المُتأجِّجة إحساساً بالآخرين، والمتلمسة لأوجاعهم.. وفي رأيي ـ غير المتواضع ـ أنّ حَماة كيري قد دعت له، إذ لو فاز فلن ترضى عليه العاربة والمستعربة، الذين طغوا في الكتابة، وأكثروا من الفساد فيها.. لن يرضوا عنهم حتى يتبع ملتهم السياسية "الضائعة"، وما هو بفاعل، لذا ارتاحَ من الدعاء، وأخذ الأمور من "قاصرها"!
والكاتب العربي لا يرى الناس شيئاً، فالسباق الانتخابي الحضاري في أمريكا، هو سباق يهمّ الفيَلة والحمير، ولا يُلام العربي في ذلك، فقد قال علماء المنطق: "من جهل شيئاً أنكره"، لذا فهم ينكرون الحضارة، وإذا رأوها لا يُشبهونها إلا باللغة التي يفهمونها وهي "سباق الحمير، أو صِراعات الفيلة منذ أيام أبرهة الحبشي!
في رأيي غير المتواضع ـ مرة أخرى ـ ليس عيباً أن تكون حِماراً أو فيلاً، ولكن من العيبِ أن تطلب من الحمار والفيل المساعدة في شؤونك، ونُصرة قضيتك، أو الوقوف بجانبك، إذا جدّ الجد، وأنت تفتقد إلى أبسط قواعد التعامل مع الإخوة "الفيلة والحمير"، إذ يقول فقهاء الأمثال الشعبية في الحجاز: "إذا كانت لك حاجة عند الحمار قل له: يا سيدي"، أما الناخب الأمريكي، الذي يعيش في أمريكا ويتعامل مع حياته بشكل يومي، هو في نظر الكاتب العربي لا يعرف مصلحة نفسه، ولا يُدرك أبعاد الحبل الذي يُلفُّ على رقبته ولا يعي واقعه، لذا عليه أن يستمع ويُنصت لهذا العربي الذي يعرف السياسة ومادحاها، والخلافة وما وراءها، والثقافة وما تلاها، والدنيا وما حواها، بل إنه يعرف ـ فوق كل ذلك ـ كيف يستخدم الحمام الإفرنجي، بالإضافة إلى ثقافة الاستنجاء والاستجمار، مُفتخراً بأنه يمزج الأصالة وبالمعاصرة!
والغريب أن ستة آلاف مكتب للدراسات الإستراتيجية، في شارع من شوارع نيويورك وحدها، لا تعرف الحقائق، وخلفيات الأمور، ودهاليز السياسة، ولكن هذه الحقائق ليست صعبة على كاتب عربي تخرّج لتوِّه من مدرسةٍ لـ"محو الأمية".. ولا تستغربنّ ـ أيها القارئ الكريم ـ إذا علمت أنّ أكثر الذين تخرّجوا من أمريكا من العرب، ذهبوا إلى أمريكا ليكشفوا عن الأخطاء، ويبحثوا عن أسباب السقوط، ليفرحوا بها.. ومن العجيب أن الأديب سيد قطب زار أمريكا شهراً واحدا وعرف عنها أكثر ممّا عرفته أجهزة المخابرات السوفييتية الـ"KGB" حينذاك في أربعين سنة، ولا عجب في ذلك، فالوعي رزقٌ من الله جلّ وعزّ، يعطيه من يشاء من عباده!
من هنا تبدو الفروق بين من تخرّج من مدرسة "محو الأمية"، أو من الجامعات الأمريكية، فروق في المستويات، وليست في النتائج، ويمكن تشبيه الأول بأنه حديد صلب ما زال "مادة خام"، أما الثاني فهو حديد صلب "مسنون"، تحوّل إلى "مدية"، وقد قال شاعر مهجري جميل:

قَالُوا: تَرَقَّى رُعَاةُ الشَّاةِ مَنْزِلَةً
فَقُلْتُ: الآنَ زَادَ شَقَاءُ الْعَالَمِ الآناَ
إِنَّ الْحَدِيدَ إِذَا مَا لاَنَ صَارَ مِدىً
فَكُنْ عَلَى حَذَرٍ مِنْهُ إِذَا لاَناَ!

وقد يصل الأمر بأحد خِرِّيجي أمريكا العرب، أن يقول إن العرب هم الذين جعلوا بوش يفوز في كِلا المرّتين.. هكذا بكل بجاحة.. وآخر يقول أنّ بوش فاز بسبب أحداث الألم والجراح "سبتمر"، يا الله على ذاكرة القطط التي تنسى في المساء ما حصل في الصباح! وكل ما يتعرّض له العربي أو المسلم فهو مؤامرة، لأن الكرة الأرضية ضد العرب والمسلمين.. وبعض الكُتّاب يدّعى الذّكاء والعقلانية، فيبدأ مقالته بقوله: لا نبالغ في أبعاد المؤامرة، ولكن.. أو عبارة: ليست كل الأمور مؤامرة، ولكن..!

وعندما تُتابع الصحف العربية وكتابها، تتخيّل أن الله جلّ وعزّ لم يخلق غير العرب إلا لاستهداف وأذية وحياكة التآمر على الشعب العربي، وما العرب إلا طائفة من الحملان الوديعة، المغلوبة على أمرها، المسكينة، المُحبّة للكرم والشجاعة والوفاء، وإكرام الجار!

وحتى يُضفي الكاتب العربي على مقالته جزءاً من الإقناع والقوة، يأخذ سطراً من جريدة، أو فكرة لأحد الكُتّاب الغربيين "توافق هواه"، ثم يتوارى بتواضع سمج قائلاً: إنه ليس كلامي، وإنما كلام فلان الأمريكي "مايكل مور مثلا"، ولا ينسى الكاتب أن يستشهد بقوله تعالى: "وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا"، أو بحكمة عربية ـ فُهمت خطأً ـ تقول: "من فمك أدينك".. وكل من يملك نصف ذكاء، أو ربع اطِّلاعٍ، يعرف أن أمريكا ـ وغيرها من دول الحرية ـ يقول فيها الكُتّاب ما يجول في خواطرهم، في إطار نظام يكفل الحق للجميع.. ولكن العربي يأخذ تلك الآراء على أنها مُسَلّمات وحقائق، ولا يُلام في ذلك، فالحكم على الشيء فرعُ عن تصوُّره، وهو لن يتصور ذلك، حتى لو عاش في أمريكا سنين عددا!

وبحكم أن العربي يعيش فقراً سياسياً، ويُعاني من أنيميا الديمقراطية، لا يفهم المظاهرات، أو الكتابات المُخالفة في الغرب على أنها جزء من الحياة، ومشهد من المنظومة الغربية هناك، بل يفهمها وفق عقله الضيق، المنطلق من بيئته، التي ترى أن المُخالف مُفرِّق للجماعة، وأن المُعترض شاذ، ومن شذّ شذ في النار!

إن المُعارض والمُخالف ـ في عالم الديمقراطية ـ هو مواطن يريد الإصلاح، ولكنه يعلم أنه لا يمتلك الحقيقة، لذلك تظاهره ومعارضته تنتهي بانتهاء آخر لحظة من لحظات طرح فكرته، ولعلّ آخر مشهد يُمثِّل هذه الحقيقة، ذلك الاتصال الذي قام به الرئيس الخاسر "كيري" مُهنئاً الرئيس الحازم بوش، طاوياً كلّ صفحات الكر والفر، التي أصبحت في ذمّة النسيان، طالباً من الجميع الوقوف بجوار بوش، لمواصلة البناء الحضاري!

إن الكتاب العرب ـ بجهلِ ما كتبوا ـ قد ظلموا أنفسهم وظلمونا معهم، لذلك نقلوا تلوّثهم للجيل الذي بعدهم، وقد آن الأوان لأن نجحد وننكر هذه الأمراض التي يُحاول هؤلاء الكُتّاب نقلها لنا، لنكون بذلك مُحقِّقين الاستنساخ في أوضح صوره.. إننا لا نريد أن نبقى في جحيم المؤامرة، أو في وهم المثاليات الكاذبة، وقبل ذلك وبعد، لا نريد أن نعيش كالقطط، تنام كثيراً وننسى كثيراً، وتتثاءب طويلاً.. نريد أن نكون مثل الصحابي الفطن عبد الله بن عبّاس، له لسان سَؤُول، وقلب عقُول.. وأول مراحل العقل أن نضبط ساعتنا على التوقيت العالمي، فالزمن يُهمل ولا يُمهل، فقد شبعنا من المراهنة على الوهم الكاذب، والبطولة الفارغة، والخيول الخاسرة!

قد تكون هذه الكتابة فيها من المزح بقدر ما فيها من الرزح، وليس على المخدوع عتب، فهؤلاء هم مُعلِّمي الكذب، ونحن التلاميذ الذين دُبِّر أمر خداعنا بليل بهيم، لذا على وزن ذاك الخداع جاء هذا اليراع، وكما قال إخواننا السوريون في مثلهم المحتشم: "هيك ظلم بدو هيك ختم"!

[email protected]