-1- محمود عباس لا "أبو مازن"

باديء ذي بدء أرجو أن يكف الإعلام العربي عن ترديد لقب "أبو مازن" على محمود عباس. فهذا اللقب هو من مخلفات "مرحلة الثورة" وأبواتها التي انتهت بتوقيع اتفاقية أوسلو 1993 السلمية والتي انهت مرحلة الثورة الفلسطينية وانتقلت إلى مرحلة بناء الدولة الفلسطينية التي تحتاج إلى عقول وواقعيات لا إلى قبضايات وأبوات. ومحمود عباس هو الآن ليس "رجل ثورة" وليس قائد "حرب عصابات" ولكنه قائد سياسي "رجل دولة"، جاء لا لكي يقود ثورة للقضاء على اسرائيل ولكنه جاء من أجل اقامة الدولة الفلسطينية والتفاهم مع اسرائيل بخصوص ذلك. فهو من مدرسة سياسية معروفة تقول: "علينا أن نتفاهم مع أعدائنا لا أن نسحقهم، ولنكن كالنحل الذي يرشف رحيق الزهور دون أن يتلفها" ومن هنا أطلق دعوته الجريئة والشجاعة في مؤتمر العقبة ومشرم الشيخ 2003 من أن القضية الفلسطينية قضية سيتسية ويجب حلها سياسياً. وهي الدعوة الواقعية الوحيدة في تاريخ الصراع العربي – الإسرائيلي، والتي لم يجرؤ زعيم عربي – حتى عبد الناصر – على اعلانها. وكان ثمنها أن ضحى عباس بيمستقبله السياسي إلى حين، عندما سحب عرفات البساط الأحمر من تحته، وعاد إلى المسرح السياسي الفلسطيني بقوة، بتدخل واضح من السماء لا من الأرض!

-2- لماذا كان عرفات شوكة في الحلوق؟
كان عرفات شوكة في حلق القضية الفلسطينية لأسباب كثيرة منها:
1-
توقف عرفات عند حدود شخصية قائد "حرب عصابات" ولم يتخطَ هذه المرحلة إلى مرحلة قائد دولة سياسية ذات تاريخ معقد ومتشابك وطويل.
2-
كان عرفات مصاباً بمرض (الْكُذاب Mythomanie ) وهو من أعراض الهستيريا التي تدع المرء يكذب قهرياً كما يتنفس وهذه من نواقص القيادة السياسية لأي زعيم أو قائد دولة.
3-
كان عرفات من زعماء العالم الثالث الذي كان يفاجئون صناع القرار الاقليمي والدولي بمفاجآت ليست في الحسبان ومنعا قيامه بتشكيل ميلشيات "شهداء الأقصى" الفتحوية التي زادت من عسكرة الانتفاضة كما زادت من ابتعاد الحلول السلمية للقضية الفلسطينية ولم يكن عرفات يريد من هذه المليشيات ممارسة الأعمال الانتحارية ضد اسرائيل بقدر ما كان يريدها كفة الميزان الثانية الموازية لكفة حماس والجهاد افسلامي في ميزان الأصولية الدينية المسلحة.

4-
لم تكن اسرائيل والغرب وأمريكا يثقون بأقوال عرفات أو تصريحاته أو قراراته التي لم تكن مؤساساتية بقدر ما كانت فردية مزاجية خاضعة لرغبات الدهماء والغوغاء في الشارع الفلسطيني. فعرفات كان يطلب دائماً ولا يعطي شيئاً. اضافة إلى أنه كان زعيماً تكتيكياً وليس استراتيجياً.
5-
كان عرفات زعيماً جماهيرياً هاذياً، مثله مثل أي زعيم في العالم الثالث يخضع ويستجيب لما تريده الجماهير التي صنعته وتوّجته، لا إلى ما تحتاجه هذه الجماهير في حاضرها ومستقبلها. وكان همّه الأول ارضاء هذه الجماهير الخاضعة لغرائزها، والمتألمة من جروحها النرجسية الدينية والقومية النازفة.
6-
كان عرفات ومعه مجموعة من الشعراء الفلسطينيين وعلى رأسهم محمود درويش (مستشاره الثقافي وكاتب خطاباته طوال أكثر من عشرين سنة) وسميح القاسم وهارون هاشم رشيد وعز الدين المناصرة وغيرهم قد حوّلوا القضية الفلسطينية منذ 1948 من قضية سياسية بحتة إلى قضية شعرية مُتخيلة،كانت سبب نجوميتهم الشعرية. وهو ما فعله عرفات كذلك برفضه كافة التسويات السياسية التي عرضت عليه، والتي كان ينظر اليها بمنظار الشاعر درويش وليس بمنظار السياسي الواقعي. وكان عرفات يردد دائماً شعارات هؤلاء الشعراء في قصائدهم، كما كان يتماهى معهم وخاصة مع محمود درويش. فلم يتولَ القضية الفلسطينية سياسي محنك من وزن بن غوريون أو جولدا مائير أو اسحق رابين أو شمعون بيريز، بعيداً عن خيالات الشعراء وتهويماتهم. ولم يكن عرفات على المستوى التاريخي للقضية الفلسطينية. ولو كان شبيهاً بنيلسون مانديلا – كما كان يحلو له أن يتماهى – لعقد اتفاقية السلام في كامب ديفيد 2000 ولكنه لم يفعل لأنه كان عرفات وليس مانديلا.
7-
رغم أننا نعترف لعرفات بأنه هو الذي وضع القضية الفلسطينية على خارطة العالم، إلا أنه من جهة اخرى لمي قم بخدمة هذه القضية داخلياً. فلم يبن مؤسسات السلطة الفلسطينية ولم يُقم القانون والنظام الفلسطينيين وترك الدولة الفلسطينية تعيث بالفساد والفوضى وهما ما كان يضمنان له الاستمرار في الحكم، وكان ذلك كارثة على الفلسطينيين كما يقول دينس روس منسق مفاوضات السلام بين الفلسطيين وإسرائيل 1993-2000 ( مجلة "السياسة الخارجية FP " يناير/فبراير 2005)
8-
وأخيراً فقد كان عرفات زعيماً انفصامياً. فقد كان يرفع غصن الزيتون في الأمم المتحدة وفي المجالات الدولية، ويرفع البندقية في عمان وبيروت وغزة ورام الله. ولم يكن المجتمع الدولي قادراً على تصنيفه في معسكر السلام أو في معسكر الحرب. وهذا التيه في هذا الموقف وفي مواقف أخرى قاد القضية الفلسطينية إلى طرق شتى متفرقة ومتشابكة. وهذا كله نتيجة لخضوع القضية الفلسطينية للمزاج السياسي الشخصي للزعيم وليس للمؤسسات الدستورية.

-3- رحل عرفات ففُتحت الأبواب!
لا شك أن رحيل ياسر عرفات قد فتح معظم الأبواب المغلقة في وجه الدولة الفلسطينية وقطع مسافات إلى الأمام في خلال شهر من الزمان منذ رحيل عرفات إلى الآن ما قطعته السلطة الفلسطينية منذ العام 1994 إلى الآن!
فبعد رحيل عرفات لانت اسرائيل ولان الرأي العام الإسرائيلي قليلاً، وفتحت أُذنيها ولو قليلاً إلى نداء السلام رغم محاولات الأصولية الدينية الفلسطينية المسلحة بكافة فصائلها سد هذه الآذان بطين العمليات الانتحارية حيناً التي أعقبت رحيل عرفات، وسدِّ هذه الآذان بعجين التصريحات العنترية التي يطلقها من الفضائيات العربية قادة هذه الفصائل التي تلعب بنار لا تدري مدى خطورتها في ظل المتغيرات الكبيرة والمتتابعة التي طرأت على العالم منذ الحرب العالمية الثانية ومروراً بالحرب الباردة وانتهاءً بغزو العراق.
وبعد رحيل عرفات تمّت المصالحة العربية – الفلسطينية، وعادت العلاقات العربية – الفلسطينية التي دمرتها عنتريات عرفات ومواقفة السياسية غير المسؤولة وغير المدروسة إلى سابق عهدها وفُتحت الأبواب في دمشق والكويت وبيروت والرياض والدوحة وعمان وغيرها من العواصم العربية لقادة الدولة الفلسطينية الجدد. يقول دينس روس (مصدر السابق): "لم يسبق لي على الإطلاق أن أجريت مباحثات مع زعيم عربي، وسمعت منه مدحاً لعرفات".
وبعد رحيل عرفات استراح الأوروبيون واسترخى الأمريكان، وأخذوا يتوافدون على مكاتب السلطة الفلسطينية لكي يدعموا السلطة الجديدة ويساهموا في اقامة الديمقراطية الفلسطينية عن طريق تعبيد طريق الانتخابات وازالة كل العوائق منها وعن طريق دعم التوجه السياسي الجديد للقادة الفلسطينيين الممثلين بالدرجة الأولى بمحمود عباس وأحمد قريع وفاروق القدومي وغيرهم.
ومن خلال ذلك نرى أن رحيل عرفات قد فتح طاقة (نافذة) الفرج الفلسطيني، وأن ما لم يستطع عليه الشعب الفلسطيني والعرب والأوربيين والأمريكيين استطاعت عليه السماء التي تدخلت في الزمان والمكان المناسب واستلت من حلق الفلسطينيين هذه الشوكة العالقة التي عطلت التنفس الفلسطيني، وكادت أن تخنق القضية الفلسطينية وتميتها إلى الأبد لولا عناية السماء وتدخلها المناسب في الوقت المناسب.

-4- طريق عباس إلى الدولة الفلسطينية
هل محمود عباس هو رجل الدولة الفلسطينية وهو (المُعلِّم) و المهندس الذي سيقوم ببناء هذه الدولة؟ وما هي طريق محمود عباس إلى بناء الدولة الفلسطينية واقعياً وعقلياً وليس خيالياً أو غرائزياًً:

1- على عباس أن يكف عما كان يعد به عرفات جماهيره النازفة الثائرة من خيالات غير واقعية. عليه أن يواجههم بالحقائق المرّة والمريرة. ومن هذه الحقائق أن عودة أربعة ملايين لاجيء فلسطيني إلى اسرائيل هي من سابع المستحيلات، وهو ما يعني دمار الدولة الاسرائيلية، وإذا كانت هناك عودة لهؤلاء فأرض الدولة الفلسطينية هي الوحيدة القادرة على استعيابهم.

2- يجب أن تكون صناعة القرار السياسي الفلسطيني ليس من طبيخ "الزعيم" ولكن من طبيخ المؤسسات الدستورية ومن السلطة التشريعية المنتخبة ومن المستشارين المنتشرين في معاهد الدرس والاستقصاء والبحث السياسي الفكري.

3-
اتخاذ القرارات السياسية على أساس مصلحة الشعب الفلسطيني وليس على أساس ما يريده ويتمناه الشعب الفلسطيني. فالقرارات الجماهيرية التي تبناها الزعماء السياسيون العرب كانت سبباً في كوارث العرب ومارعم وتخلفهم إلى الحال التي هم فيها الآن. ومن هنا وجب على القيادة الفلسطينية أن تكون شجاعة بما فيه الكفاية وأن لا تفكر بنفسها ومصيرها عند اتخاذ القرار السياسي بقد مل تفكر في مصلحة الوطن ومصلحة الأمة ومستقبل الأجيال.

4-
توحيد القرار الفلسطيني بانهاء عسكرة الانتفاضة وفوضى حمل السلاح. وتحويل المليشيات والعصابات العسكرية إلى أحزاب سياسية وادماجها بالكيان السياسي الفلسطيني واتاحة الفرصة للتعبير عن نفسها سياسياً وليس عسكرياً.

5-
مشاركة كافة المثقفين ورجال الأعمال في البناء السياسي للدولة الفلسطينية. مشاركة المثقفين عن طريق التوعية والدعوة إلى العقلانية السياسية ومحاربة الأعمال الانتحارية . ومشاركة رجال الأعمال في دعم الاقتصاد الفلسطيني وبناء مؤسسات المجتمع الاجتماعية لكي تقوم مقام المؤسسات الاجتماعية التي بنتها الفصائل الدينية المسلحة والتي استطاعت من خلالها كسب قطاع كبير من المجتمع الفلسطيني.

[email protected]