أرى أمامي نفقا طويلا مظلما يعج باللافتات والأعلام، ويضج بالصراخ، ودوي الصواريخ والسيارات المفخفخة، وعلى الجانبين أشلاء ودماء.قبل عام كان ثمة ضوء خافت لم نعد نرى أثره. فهل سيكون ثمة من بصيص؟! هل كانت أوضاع العراق تصل لما وصلت له في عهد الطغيان الفاشي لولا الأخطاء المتلاحقة للقوى والشخصيات السياسية والثقافية وكل بدرجة وأخرى. ماذا تعلمنا من ضياع ثورة 14 تموز ليس فقط بسبب التآمر العربي والإقليمي الذي كان عهد ذاك مدعوما من الغرب، ولكن قبل كل شئ بسبب الصراعات الدموية بين قوى الثورة وانفلات الغرائز الجمعية الهائجة الساعية للثأر من ظلم طويل وتعاسة عقود؟
أتطلع للوراء لأجد نفسي غاضبا على نفسي قبل الآخرين. هل كان الحكم الفاشي الصدامي سيقوم على الأشلاء والمقابر الجماعية من دون بطش دموي مقترن بأخطاء الكثيرين منا وعدم استيعاب التجارب السابقة؟كم من الأحزاب والشخصيات والنخب الثقافية المسيّسة من راجعوا التجربة واعترفوا بالخطأ واستفادوا منها بحق؟
في مؤتمر لندن قبل شهور قليلة من سقوط الطغيان، اتفقت أطراف هامة في المعارضة السابقة على نقاط مشتركة لم يحترمها بعضهم فيما بعد. وفي ذلك المؤتمر نفسه سمعنا نغمة الأكثرية والأقلية بما يشجع على النعرة المفرقة، وحيث تطورت بعد السقوط لشعارات في الشوارع ومزايدات مثيرة وممارسات.
أتطلع لتلك الأيام لأشعر بشيء
من راحة الضمير لأنني وعددا كبيرا من المثقفين العراقيين قد ظللنا منذ الأيام الأولى نحذر من انفلات الأمن، وننتقد الأمريكان، ونرسل المذكرات بمئات التوقيعات إلى بوش وبريمر ومجلس الحكم بعد تشكيله، محذرين من التساهل مع المجرمين الخارجين على القانون. كانت الحرب وكما وصف بعض الكتاب العراقيين والعرب، بمثابة العملية الجراحية للسرطان البعثي الصدامي، و وخرج القيح كاشفا مدى تخلف المواطن العراقي ومدى الخراب الأخلاقي والثقافي الذي أحدثته عقود الفاشية في عقل العراقي ونفسيته وأخلاقه.
إن أوساخ ذلك القيح الفاجر لا تزال تملا الساحة بسبب التدخل العربي والإيراني، ومواقف وأداء القوى السياسية والدينية، وخصوصا لعجز الحكومة المتزايد مما سمح باستقواء البعثيين الصداميين،، الذين يقودون هم عمليات الإرهاب، والذين هم اليوم أقوى من الحكومة والشرطة والحرس الوطني، لولا وجود القوات الأجنبية لانتزعوا السلطة، وأعادوا عهود المجازر والمقابر الجماعية.
كل هذا واكثر كتبنا عنه عشرات المرات، ونبهنا وانتقدنا، حتى وصلنا اليوم ونحن قبل عشرين يوما فقط من الانتخابات، فإذا بمناظر غريبة: مؤتمر جديد لدول الجوار بعد أيام،
بعد العديد من المؤتمرات السابقة، وكأن هذه الدول طالبة خير وتحل العقد والمشاكل إن لم تكن من أسبابها الكبرى؛ مطالب مما يدعى بهيئة علماء السنة بإلغاء الدستور المؤقت ومبدأ الفدرالية، وكأن هؤلاء يجهلون أن الأمريكان لا يعرفون قبل غيرهم أن لصدام عدة واجهات علنية وسرية ودينية ومدنية؛ قائمة انتخابية تتصدرها صورة المرجع الشيعي الأعلى في سابقة خطيرة جدا تحول الانتخابات إلى مسألة دين ومذهب، علما بأن آية الله السيستاني أعلن مرارا زهده في السياسة والمناصب. ترى أية عبقرية هذه التي تزج عن عمد باسمه الكريم في المزاحمات الانتخابية بين العشرات من القوائم، وترسل باسمه الوفود للتفاوض مع دول عربية؟ وأمس نقرأ عن قرارات مؤتمر "حقوق الإنسان في العراق" قبل انعقد في عمان مؤخرا ولا تخرج مطالب هؤلاء [ من هم؟؟] عن مطالب الضاري وإخوانه، وطبعا كل ما يجري مسؤولية " الاحتلال" ولا دخل لعهد صدام ولا ذكر لكلمة إرهاب.. صداميون هنا وهناك. ونسأل من يصرف على هذا المؤتمرات التي صارت عمان مسرحها الأول؟!. أما "مجلس السلم والتضامن"، فيزيد الجو صخبا وإرباكا باسم السعي لإقناع الجميع بنبذ العنف في العمل السياسي/
ترى لماذا اليوم، وفي آخر لحظة، وأية صلاحية وقوة إقناع يملكونها لجعل مثل هذه القناعة مقبولة في هذا الزحام؟ لو كانت القوى والأحزاب السياسية والهيئات المدنيةقد نهضت بمهماتها بشجاعة وموضوعية، وبلا عقد ونزعات فئوية وشخصية، لكانت قد أخرجت خلال العام والنصف الماضيين عشرات من المظاهرات السلمية المنددة بالإرهاب والعنف، ولتحدت في حينه قوى الموت قبل أن تستفحل لهذا الحد الذي وصلت له اليوم.
أجل، ما أراه نفق مظلم، وإن أردنا رؤية ضوء ما في آخر النفق فلنكرس كل الجهود لإنجاح الانتخابات، لأنها الفرصة الوحيدة اليوم لتبصّر الطريق بعدها، ولفرز الغث من السمين، ولنعرف كم مجتمعنا وأحزابنا ونخبنا الدينية والثقافية مستعدون حقا لبناء دولة المؤسسات والقانون والفدرالية، وحقوق الإنسان.لم أكتم في آخر مقالة لي أن لوحة الوضع وتطوراته مشوشة في ذهني، ولم أنف خطر عودة البعث الصدامي بقوة للجمعية الوطنية والحكومة القادمتين.
إن جميع الأخطار تواجه العراق ولابد من الانتخابات في موعدها لتنجلي الأمور، ولنرد على الإرهابيين بقوة مرة واحدة على الأقل بإنجاحنا للعملية الانتخابية.
فننتظر ما بعد الثلاثين!