... شاعر القصة القصيرة

[ المهنة كاتب قصة قصيرة..هو الوحيد فى العالم الذى أصر على إثبات هذه الصفة فى بطاقة هويته، إنه يحيى الطاهر عبد الله الذى كانت حياته هى الكتابة، وكانت الكتابة هى جنته الوارفة ومنفاه الإختيارى، كانت هى نشوته وذنبه، كانت هى فرحته الغامرة وشجنه المؤلم، وصفه البعض بأنه إنسان معقد نفسياً ولكن هذا القول كان إحدى ميكانيزمات الدفاع التى يضعها الناس فى وجه يحيى كدرع أخير مخافة أن يعريهم ويفضحهم بصراحته التى كانت تخاصم الدبلوماسية والإتيكيت فكانوا تارة يسمونها وقاحة وتارة أخرى يسمونها جنوناً

[ فى الجنوب وفى قرية الكرنك بالتحديد ولد فى نهاية إبريل 1938 عبد الفتاح يحيى الطاهر عبد الله وهو الإسم الحقيقى المدون فى شهادة ميلاده وهى إحدى الأوراق الرسمية النادرة التى سجلت مسيرة يحيى الطاهر إلى جانب شهادة الوفاة وبطاقته الشخصية التى أجبر على إخراجها بعد زواجه، وإيصالات المرتب المعدودة على الأصابع والذى كان يتقاضاه من منظمة التضامن الأفروأسيوى، المكان الذى أجبره الأصدقاء على قبول العمل به قبل وفاته بقليل لكى يتقاضى ثلاثين جنيهاً لمواجهة أعباء الحياة، والمدهش أنه إعتبر هذه الوريقات البنكنوتية هى العبء فقد كانت تتبخر يوم قبضها من الخزينة !، ظل الطفل يجرى فى حارات وأزقة الكرنك باحثاً عن تاريخ هذه القرية التى كانت يوماً ما عاصمة الحضارة وأصبحت الآن نسياً منسياً، خلق فيه هذا التناقض بين الماضى والواقع قدرته على التساؤل وطرح الأسئلة التى وصلت إلى حد الإستفزاز وجرح المستقر والبديهى والمطمئن، وإلتقى يحيى الطاهر فى قنا العاصمة بأمل دنقل القادم من قرية القلعة وعبد الرحمن الأبنودى القادم من قرية أبنود، وقرر الثلاثى غزو القاهرة لايملكون سوى الحلم الجرئ والإرادة الجرانيتية وعناد الصعايدة فى إقتحام المجهول، بدون شهادات جامعية وبدون عناوين مستقرة وبدون واسطة إلا واسطة الموهبة هتكوا ستر العاصمة وكان أكثرهم صعلكة وإضطراباً وحساسية يحيى الطاهر القصاص الذى لم يجرب نوعاً آخر من الكتابة سوى القصة، كان محدد الهدف وكأنه يصوب بأشعة ليزر، ظل يجوب فى دروب القصة بنفس حماسه ودأبه فى التجوال مابين دروب القاهرة، وساعده فى ذلك حذاؤه العسكرى الكالح وقميصه الخفيف المفتوح وجسمه النحيف وسمرته المضادة لقسوة الشمس وتعاليه الذى لم يفرزه الغرور بقدر ماأفرزته ثقته بأهميته فى عالم الكتابة والخيال وبأنه متفرد، وساعد على هذا التجوال حافز الهروب من المباحث التى كانت تطارده بعد نجاحه فى الهروب من قبضتهم بعد حبس زملائه الذين إنخرط معهم فى تنظيم سياسى فى بداية نزوله القاهرة، وبعدها قرر تطليق التنظيمات السياسية بالتلاته ولكنه للأسف لم يطلق عقدة الإضطهاد التى وصلت أحياناً إلى وساوس وضلالات الفصام وهو ماجعل البعض يعتبرونه شخصاً مزعجاً "براوى " أو على الأقل "مكلكع" !، والمصيبة أننا نتجاهل أن كل فنان لابد له من لطشة فصام بسيطة يستطيع البعض أن يستعملها وقت الحاجة كدافع على الإبداع ولايستطيع البعض الآخر إلا أن يغرق فى رمالها المتحركة لتبلعه فى غياهب النسيان، إن يحيى كان مزعجاً لأن الحياة عنده هى بروفه دائمة للكتابة.

[ المدهش هو حكايته لقصصه المحفوظة عن ظهر قلب بالكلمة والحرف، يتلوها بصوته الشجى وحماسته النارية وكأنه المنشد الشعبى القديم، وحكاية إرتباط الإنشاد والصوت بفنون الصعايدة قديم وخالد، ويكفى أن تعود بذاكرة أذنك لقياس مدى الثراء الذى يفرضه صوت طه حسين ومحمود حسن إسماعيل وأمل دنقل والأبنودى إلى إبداعاتهم، إنها تأخذ بعداً أعمق حين يقرأونها ويضعون عليها بصمتهم الخاصة، وهكذا كان يحيى يأسرك منذ الحرف الأول بلغته الشعرية العذبة وتراكيبه المدهشة الغامضة التى لها طعم ترجمة العهد القديم ومذاق الملاحم الشعبية، كان الكل يندهش من تلاوته لقصصه من الذاكرة لدرجة أن يوسف إدريس لم يمنع نفسه من الصراخ إنبهاراً بهذه القدرة وهذه اللغة الشفافة والتى برغم شفافيتها تحمل من قسوة الصعيد الكثير، وقال عنه إدريس فى المقابلة الأولى إما أنه قصاص عبقرى أو قاطع طريق محترف !، وكان أسلوبه الهجومى فى المناقشة هو سبب الوصف الإدريسى الثانى، وبعد أن عرفه يوسف إدريس أكثر وعلم بخبر وفاته المباغت تغير الوصف وأصبح يصف يحيى بأنه عالم فى معمله بوغت بقنبلة أثناء القيام بتجاربه !، إن هذا التوجس من يحيى الطاهر مصدره حدة وشراسة المواجهة الفطرية الخالية من تزويق أهل البندر، كان يعيش بالحيلة كما يقول " الدنيا بنت الحيلة، ومثلى إن لم يتحايل على المروق من خرم إبرة مات ميتة الكلب الجربان "، ونتيجة لذلك التحايل المصرى الذى جسدته شخصية إسكافى المودة أحد أهم أبطال مجموعته القصصية الأخيرة، الإسكافى الفهلوى المطحون الذى يقول فى لحظة صفاء نادرة " عشت حياة القرد المكشوف العورة، طعامى تافه ورخيص، مابل العطر جلدى قط، وهذا ثوبى والشتاء بأسنان، كان الحكم أن أموت "، إن أعصابه فوق جلده أو كما كان يصفه أحمد الخميسى عندما قال " إنه الوحيد الذى تصافحه فتحس بأنك تصافح دمه وأعصابه "، هذه الأسلاك العاية هى التى جعلته مشروع منتحر مزمن أو كما كتب فى إحدى الوريقات التى تحتفظ بها عطيات الأبنودى والتى يقول فيها " أريد الإنتحار ولاأملك الشجاعة التى تجعلنى أنتحر، إحساس مر بالموت أفرزه يومياً، تعودت طعمه فتلاشى الإحساس به تماماً ففقدت متعة العذاب "، كان إحساس المطاردة عنده ثقيل وموجع، وكان عندما يوقفه مخبر يخرج له من جيب بنطلونه الخلفى بطاقة هويته الغريبة، مجرد قصاصة من مجلة الإذاعة والتليفزيون تضم قصة قصيرة وفى أعلاها صورة شخصية عانت الصحف كثيراً لكى تحصل عليها فقد كان كارهاً للتصوير والذى أعتقد أن جزء من كراهيته له هو أنه يكره تثبيت الكادر وسكون الصورة البارد الخانق الذى يصل أحياناً لدرجة البلاهة، كان يكره تثبيت الكادر حتى فى الحياة فلنسمعه يقول فى إحدى مقاطع روايته
الطوق والأسورة " لن أعمل تحت أمر مخلوق، سألتقط رزقى من الطرقات كالأنبياء والطير ".

[ ليت أسماء تعرف أن أباها صعد

لم يمت

هل يموت الذى كان يحيا

كأن الحياة أبد

وكأن الشراب نفد

وكأن البنات الجميلات يمشين فوق الزبد!!

كتبها أمل دنقل عندما وصله الخبر المؤلم خبر الموت المباغت كإجابات ضحيته المباغتة، مات يحيى كما تنبأ فى قصته تصاوير من الماء والتراب والشمس لإحدى شخصياته التى ظلت تنزف دمها قطرة قطرة برغم الحرص على إنقاذ حشاشة النفس بيد أن الأنفاس الخابية تهمد وتستسلم لتصعد الروح إلى بارئها، "وصرخ هو الجائع الحافى العارى صرخته الأخيرة وإرتمى فى حضن أمه الأرض ليستريح عليه سلام الله "..، إن موته كان أكثر دراماتيكية من موت شخصيات قصصه، ففى التاسع من أبريل 1981 وأثناء ذهابه للواحات هو وطفلته أسماء وصديقته ليز المهتمة بالفولكلور وعبد الحميد حواس باحث التراث الشعبى وزوجته فى عربة ليز، ولأنه يخاصم القوانين والقواعد فقد ربط إبنته بحزام الأمان وترك جسده حراً –ملحوظة لقد ظل حزام الأمان على روح وجسد إبنته أسماء بحنو حضن عطيات الأبنودى أمها الروحية بعد وفاته- وعندما إنفجر إطار السيارة الأمامى وإنقلبت العربة وجد الجميع بعد خروجهم من نوافذها جسد يحيى مسجى على الرمال الساخنة فى سلام وسكينة، ولم يصدق أحد أن هذا المشاغب ينزف من الداخل برغم معرفتهم أنه ينزف من شرايين الروح طيلة حياته، حاولوا إيقاف عربة نقل مازوت ولكن سائق العربة رفض وأخبرهم بأنه سيكلم الإسعاف، وأتت عربة الإسعاف ليستمر مسلسل العبث ويصل يحيى الطاهر بعد 12 ساعة إلى مستشفى أم المصريين التى لم يعرفه فيها أحد فقد كان يحيى الطاهر مفتقداً إلى نجومية التليفزيون فى بلد يتعامل مع المواطن من خلال إلحاح الشاشة التى تمنحه الحيثية والأهمية، وبالطبع وقع هذا المطارد فى فخ مطاردة اللامبالاة فقد أخطأ الموظف فى بيانات شهادة الوفاة وكأنه لايرضى أن يخرج على السيناريو المحكم الذى أحاط بطوقه الغليظ وإسورته الخانقة حياة يحيى، وتردد فى جنبات المستشفى صدى كلماته:" أحب الموت وكلما أجدنى على حافته أحب الحياة .
_أود لو إمتلك زهرة سوداء
-ثمة زهور سوداء بالعالم..ثمة زهور سوداء
-أحب الحياة، وكلما أجدنى فيها أعرف أنها الموت
-أود لو أمتلك زهرة بيضاء
-ثمة زهور بيضاء بالعالم..ثمة زهور بيضاء"

[ وعندما تحرك نعش يحيى الطاهر كان أحد الصحفيين الكبار الراحلين بجريدة الجمهورية يخط إسم 95 كاتب وفنان ورد إسمهم فى النعى فيما يشبه البلاغ للجهات المختصة، و كانت عدودة الأبنودى يتردد صداها بين المشيعين:
يايحيى ياعجبان
يارقصة يازغروته
إتمكن الموت من الريح
وفرغت الحدوته
آخر حروف لابجدية
أول حروف إسم يحيى
للموت كمان عبقرية
تموت لو الإسم يحيى...........

[email protected]