استعادت الاوساط الروسية خلال هذه الايام ذكرى مناسبتين تركت تداعيات عميقة على تاريخ روسيا الحديث وعلى كافة اصعتدته، وكانت واحدة من العوامل الرئيسية التي ادت الى انهيار الدولة العظمى التي كان اسمها الاتحاد السوفياتي: ذكرى مرور 25 عاما على الغزو السوفياتي لافغانستان و15 عاما على انسحاب قواته مهزومة منه. يتذكر الروس بمرارة وحسرة وبعين ملؤها الحزن على ان تلك الحرب حصدت ارواح 13 ألف شخصا من مختلف القوميات، واضعاف هذا العدد من الجرحي، والتداعيات النفسية التي لازالت باقية لحد اليوم. وخلقت الحرب الافغانية في روسيا مظاهرها الخاصة فهناك شريحة واسعة من الروس يطلقون عليهم الافغان نسبة الى الذين شاركوا في الحرب، وظهرت الاغنية وغيرها من الفنون "الافغانية"، التي نظمها المقاتلون في جبهات القتال،ووضع فيلم "المسلم" في اول تجربة عن الحرب الافغانية، وثمة مؤشرات ان الفن السينمائي سيستثمر الموضوع كما استثمر موضوع الحرب الفيتنامية في السينما الاميركية. واستشرت الجريمة " الافغانية" ايضا. وهناك " الظاهرة الافغانية" التي تشير الى ترسيخ الميول الدموية والانتقامية لدى الذين شاركوا في الحرب الافغانية، الامر الذي وظفته شبكات الاجرام والمافيا التي كلفت اؤلئك الشباب بتنفيذ اعمالها الاجرامية. وشهدت روسيا معارك ومواجهات دموية بين الجماعات الافغانية المتصارعة على التسهيلات والامتيازات التي وفرتها الدولة " للافغان". وظهرت ايضا شريحة من "الافغان" الذين شعروا بالضياع بعد الحرب، وخاصة ان المجتمع لم يتعامل معهم، كما كانوا يتوقعون معاملة الابطال، بل المهزومين الذين خاضوا حربا عقيمة، فوجد اؤلئك الجنود المسرحون انفسهم مهمشين على " رصيف" الحياة.
وحقا فان قرار الحرب الافغانية، الذي مازل يحيط اسبابه الكثير من الغموض والالتباس، كان قد اُتخذ، كما كشفت الوثائق التي ظهرت بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، على عجل ومن قبل دائرة ضيقة جداد من القيادة السوفياتية حينها، تالفت من السكرتير للحزب الشيوعي السوفياتي المنحل ليونيد بريجنيف ورئيس الاستخبارات المعروفة بالكي جي بي فلاديمير اندربوف ووزيري الدفاع دمتري اوستينوف والخارجية اندريه غروميكو. وجرى تفسيره بالخشية من ان يلقى الرئيس الافغاني حافظ امبن باوراقه في السلة الاميركية، كما فعل الرئيس المصري الراحل انور السادات، التي مازالت حينها اثار قراراته طرية حينذاك في اذهان القيادة السوفياتية.
وبفعل عوامل واخطاء عديدة في الحسابات، فان العملية التي بدات بقتل فرقة" الفا" السوفياتية للعمليات الخاصة، عيدي امين في قصره، وتنصيب رجل موسكو ببراك كرمال خليفة له، التي كان من المرتقب ان تحسم الوضع في فترة قصيرة جدا، تحولت الى حرب استمرت 15 عاما، واكتسبت ابعادا ادت الى تدوليها. وجعلت من افغانستان والشعب الافغاني ضحية للصراعات الايديولوجية والجيو سياسية والمواجهة بين الغرب والشرق، واججت الخلافات الكامنة في كيان المجتمع الافغاني.ويتعامل الروس ويستعيدون بحذر الدرس الافغاني. وكان اول درس تعلمه الروس هو الكف عن زج قواتهم المسلحة في نزاعات وصراعات غريبة عنهم في الدول الاجنبية .وادركوا ان مثل هذا التدخل لايمكن ان يسفر الا عن الكوارث لكلا الطرفين. وثمة فهم بات واضح اليوم بان القرارات السياسية الخطيرة مثل اشعال الحروب وارسال القوات المسلحة الى خارج البلد، لاينبغي ان تصاغ في دائرة ضيقة من القيادة السياسية، بل ان تشارك فيها كافة مؤسسات الدولة خاصة البرلمان والسلطات القضائية والاستئناس الى الراي العام بها، وان تسودها روح الشفافية والصراحة.
لقد تحرك السوفيات حينذاك وبيدهم وصفة جاهزة لتغيير التاريخ واعادة مساره ولو بالقوة والعنف حينما تقتضي الحاجة. وحاولوا تصدير نموذجهم " الاشتراكي" الى دول اخرى غير مؤهلة اساسا له، بما في ذلك اليمن وافغانستان واثيوبيا والصومال وغيرها. وانتهت تلك التجارب بحروب دموية وتدمير دول وتغير معالم اخرى.
ان الدرس الافغاني كشف بما لايقبل الجدل ان تصدير الانظمة وزرع الايديولوجيات الغريبة بالقوة للدول الاخرى، عملية لايمكن ان تسفر الا عن انفجار الوضع. وان التطور التدريجي هو سنة الحياة، وهو افضل السبل للنمو والتحضر، فان اية قيم سياسية حضارية لايمكن استيعابها اذا لم تكن نتاج الوعي الاجتماعي العام، ومعجونة بمعاناة وحس تاريخي عام. وريما تعلم الروس اليوم تلك الدورس بعد الهزيمة المؤلمة في افغانستان.
لقد تعامل الاتحاد السوفياتي ومن ثم الولايات المتحدة والدول التي دارت بمحوريمها بشكل فج مع الحالة الافغانية، وفكرت مجتمعة اكثر بمصالحها الانية، والتقت القوتين العظمتين في افغانستان في حرب حامية الوطيس، اداتها ووقودها الشعب الافغاني. وخلقت تلك الحرب ظواهر امتد اخطوطبها اليوم الى جهات واسعة من العالم ترى العنف والارهاب وسيبة لتحقيق لتحقيق الاهداف السياسية. لقد شعرت الجماعات المتطرفة التي تتبنى الشعار الديني بالزهو والقوة في انها الحقت الهزيمة بدولة عظمى كالاتحاد السوفياتي، فراحت تبحث عن اهداف جديدة واغراض جديدة لنشر سطوتها وهيمنتها على الدول بما في ذلك الاسلامية، فنشرت هناك الرعب والدمار والقتل بابشع اشكاله. لقد اخرجت الحرب الافغانية "العفريت" من القنينة، وتتظافر جهود نفس تلك الدول التي ساعدت على خروجه، اليوم من اجل " ارجاعه" الى هناك.
ان الدرس الافغاني، يمكن ان يكون موعظة لكافة اطراف المجتمع الدولي، ليكون دليلا ومرشدا للبحث عن القواعد والسبل الكفيلة في ان تعيش البشرية بامن وسلام وكرامة وحرية، في نظام من العلاقات الدولية تسودها العدالة والمساواة ونشر قيم الديمقراطية وحقوق الانسان والقوميات، وبغير ذلك فان الخطر محدق بالجميع.