تلقفت الصحف العربية خلال الأسبوع المنصرم خبرا مهما، وتناقلته وكالات الأنباء بصورة عجيبة وشغف غريب، حتى كاد ذاك الخبر يناطح نبأ زلزال جنوب آسيا في الصدارة وإثارة الشفقة. كان الخبر عن دراسة أُجريت في مصر حول عنف المرأة المصرية تجاه قرينها الرجل، وقهرها له، حيث وصل عنف الزوجات المصريات لأزواجهن إلى حد الإيذاء الجسدي في بعض الحالات. النسبة كانت مذهلة من حيث ارتفاعها، فبينَت الإحصائية ان من بين كل 100 رجل مصري يوجد تقريبا ثلاثين شخصا منهم يتعرضون للاعتداء والعنف بأصنافه المختلفة النفسية واللغوية والجسدية. الملفت للنظر بعد انتشار الخبر بأيام، فاجأتنا وسائل الإعلام بنبأ عن مجموعة من الرجال المصريين "الغيورين" على جنسهم، قاموا بتأسيس جمعية أهلية "لحماية حقوق الرجل في مواجهة المرأة" وأُطلق عليها اسم "(جمعية الحرية لأصدقاء الرجل وتنمية الأسرة)، وتأسست بجهود من مجموعة من الفنانين والمبدعين" كما ذُكر في الإعلان.
مما لا شك فيه إن العنف بكل ألوانه مرفوض جملة وتفصيلا، سواءً كان موجها ناحية المرأة أو ناحية الرجل، وان انشاء اي جمعية لرفع الظلم عن اي فئة في المجتمع هو مؤشر خير. لكن مؤسسي هذه الجمعية الذين ينشدون حماية الرجل من قهر المرأة، غفلوا عن قاعدة أساسية وثابتة ولا تحتمل الشواذ أبدا، وهي أن أي إنسان مسالم يسكن في عالم يسوده قانون الغاب، ويتعامل مع أناس متعجرفين ولا يحسنون لغة الحوار، فأنه لا محالة سيكون عرضة للبطش، وضحية سهلة للافتراس. وهذا ما حدث ويحدث لغالبية ضحايا العالم من نساء ورجال. إن ماهية العنف الموجّه ضد الرجل اليوم، والذي بالفعل اشد إيلاما وأكثر إيذاءً له، هو العنف المُسلط عليه من قبل رجل مثله. الإقصاء، والتنكيل، والتعذيب، والتصفية الجسدية، وسحق الذات، وتهشيم المعنويات، وقتل الأحلام، وتبديد الآمال والطموحات للرجال، وكل مصادر الشرور، لا يواجهها الذكور من إناث، بل من ذكور مثلهم لأن الذكور مازالوا يقبضون على زمام أمور العالم ويسيّرون دفته. ما نراه اليوم من طواحين الغدر والقهر والفتك والاستبداد الذكوري خاصة في بلداننا العربية، ما هي سوى شواهد حية تُشير بالبنان للعيان وتُثبت ذلك. القانون العربي لا يحمي ولم يحمي قط المسالمين من النساء والرجال، لذلك اصبح الكل يرى ان القوة هي السبيل الوحيد لتحقيق المطالب، فانتشرت ثقافة السلاح بين الناس كما حدث في الصومال والسودان ومصر والجزائر ولبنان، حيث حصدت المجازر عشرات الآلاف غالبيتهم من الرجال، والآن العراق واليمن والسعودية تصارع المرارة عينها بكبَد. الزنزانات المتواجدة في عدة أقطار عربية، مازالت مكتظة بالسجناء السياسيين المعذبين والذين في مجملهم ذكور، وحتى على الصعيد المدني تعج الشركات والدوائر الحكومية بالموظفين الرجال المصادرة إنسانيتهم أو المهضومة حقوقهم ، سواء كانوا مواطنين أو عمالة الوافدة. باتت كل مؤسسة في ديارنا تبدو وكأنها حكومة عربية مصغّرة، تحتضن الدكتاتور الذكر وتمجده وتبجله وتهلل وتكبر له، فيطول فساده من هُم تحت إمرته من العباد، ويبث سمومه في أرجاء البلاد.
على المستوى الأسري حتى المساكن صار لا سكون فيها ولا سكينة، تمتلئ كثير منها بالفتية المسحوقين بحذاء الأب "السي السيد" والمدهوسين تحت نعاله، كما صورّه لنا محمد شكري في سيرته الذاتية "الخبز الحافي". يظل الابناء طوال مدة مكوثهم تحت سقف "الأب المستبد" مكسورين بأوامره ومذلولين بنواهيه. فينشأ الواحد منهم وهو يقتات على الخضوع والخنوع لدرجة أن كلمة "لا" لا يستدل عليها لسانه ولا هي تَقَرَبه. أما دُور التعليب والتلقين الخاصة بتعليم الصبية فحدّث عنها ولا حرج، مفهوم "من علمني حرفا صرتُ له عبدا" "والعصا لمن عصا" نهج مازال قائما حتى الساعة في كثير من المدارس وفي الجامعات بأنماط مختلفة، حيث يرتدي الطالب فيها كساء العبد المطيع، والمعلم يقوم بدور السيد المُطاع ذو السلطة المطلقة التي لا يقوى ان ينازعه عليها احد.
الظلم الواقع على الذكور من الذكور له أوجه متعددة ومختلفة، فهو أقسى وأبشع بكثير من ظلم الأنثى للذكر، لأن آثاره مدمرة وذات أبعاد نفسية وخيمة. فلو اُجريت دراسة ميدانية بين الذكور العرب لعرف العالم ان في داخل معظمهم بقايا قهر من ذكر. الرجل حين يواجه أي عنف من امرأة متعجرفة ومستبدة، خاصة حين تكون زوجة له، كما ذُكر في الدراسة المصرية، فبإمكانه أن يخلّص نفسه منها، ويسّرحها في الشارع بكلمة واحدة والقانون سيكون في صفه. بينما حين يكون الذكر تحت سلطة ذكر مستبد كأب أو أخ اكبر أو عم أو خال أو رئيسه في العمل، فإنه ليس من السهل عليه أن يجد له منفذا أو مخرجا للخلاص، ففي حالات كثيرة يختار الذكر أن يتجرع الألم، ويهضم الضيم، ويجتر معاناته اليومية باستسلام، لأنه لا حيلة له ولا قوة، فيعيش ضحية قهر السنين، ومرات عدة يتحول مع الأيام إلى أنموذجا دكتاتوريا قاهر لمن هم اضعف منه.
انه كان من الأجدى للفنان حسين الشربيني، والموسيقار مجدي الحسيني، والصحافي إبراهيم قاعود والدكتور أحمد المعصراني، مؤسسي جمعية حماية الرجل تلك، التي هي بمثابة محاولة عطار لترميم ما تسبب في افساده الدهر، أن يقوموا بمشروع حقيقي يكسر أولا دوائر العنف التي تحوم حول الذكر ويقتلعها من الجذور. فإذا أردنا أن نحمي أفراد الأسرة بكاملها من القهر، لابد من إيقاف عنف الذكور ضد الذكور وتفتيته في جميع مواطنه، بدءا بالبيت ثم الشارع والمدرسة والجامعة ومن ثم العمل، لأن تلك الأماكن هي التي تُشكّل شخصية الذكر، وتُؤثر بشكل مباشر على تركيبته النفسية تأثيرا بالغا، وبالتالي تنعكس تجاربه فيها على أدواره كفرد اجتماعي وموظف وأب وزوج ورفيق.