... ستكون أصعب وأشق بكثير من مراحل التفاوض حوله!!

لست متشائما!! ولكنها المتابعة المتتالية لمسلسل حلقات التفاوض بين حكومة الخرطوم وقيادة الحركة الشعبية لتحرير السودان والتى توجت بتوقيع الاتفاق النهائى وملاحقه الثمانية بين الطرفين يوم 9 الجارى، والتى يتضح لكل مدقق فى ظاهرها وباطنها وخفايا سيناريوهات حلقاتها المتتابعة ان نتائجها وما يترتب عليها كان يصب مباشرة فى خانة المكاسب التى يسعى اليها الطرف الجنوبى على حساب مصالح حكومة البلاد المركزية التى انهك قواها من ناحية خلافها المتواصل مع التيارات السياسية الشماليه والضغط الخارجى ومن جهة ثانية أزمة اقليم دارفور التى يعتبرها البعض أحد أهم العوامل التى دفعت حلقات الاتفاق الاخيرة الى السير قدما بلا ابطاء نحو خط النهاية فى التاريخ المشار اليه..
لست متشائما!! ولكنى لا أجد اجابات شافية على ما تتطرحه القراءة المتأنية من أسئلة حول العديد من الموضوعات ذات الصلة المباشرة بأطراف ثلاثه سينعكس عليها الاتفاق مباشرة.. الحكومة المركزية والجنوب والوطن السودانى برمته!!..
الاتفاق يدعم هياكل الدولة السودانية القائمة،وينشأ هياكل ومؤسسات جديدة لم تطرح مبررات الأخذ بها على بقية ابناء الشعب السودانى ولا عبرت حيالها رموزه الوطنية عن آرائها!! فإلى جانب اعادة هيكلة مؤسسة الرئاسة التى سيتمتع فيها ممثل الجنوب بحق الاعتراض على اية قرارات سيادية تتصل مباشرة بأدارة شئون الدولة، أضيفت الى مؤسسات السودان التشريعية " مجلس الولايات " الذى انيط به " حق الرقابة على التشريعات التى تصدرها الدولة بحيث لا تتضمن ضررا يمس بالاقاليم او ينتقص من حقوقها، اضافة الى ذلك هناك اللجان القومية للأمن والخدمات والميزانية والنفط التى ستوفر للجنوب وحده حق الحصول على ثلث عدد اعضاء الوزارة المركزية واجهزة الأمن وأعضاء الخدمة المدنية، يحظى الإتفاق بعدد من الضمانات الدولية التىتحميه ضد النقضاو التحايل عليه او التهرب من تنفيذ ما جاء فيه مثل هيئة التقييم الدولية التى تتابع تنفيذ بنود الاتفاق وتعقد اجتماعات فصلية وتصدر تقريرا دورية ومثل الرقابة الدولية التى ستعينها الامم المتحدة والتى ستتكون من عشرة آلآف جندى تقريبا..
الملاحظة التى لا خلاف عليها ان حكومة السودان المركزية القادمه ستكون مسئولة فقط عن الاقاليم الشمالية لأن " الجنوب سيكون خاضعا خضوعا تاما لمسئولية حكومته التنفيذية الخاصة به ولمجلسه التشريعى الخاص به بعيدا عن مسئولية وتشريعات الشمال الا فيما نذر من حالات رمزية لا زال الستار مسدلا عليها..
وايضا لا خلاف على ان التنظيمات والتحالفات الشمالية إستبعدت كلية من ان يكون لها دور فى هذا الاتفاق وملاحقه الثمانية، مما سيترتب عليه نوع من الإعتراض او الممانعة فى الموافقة على ما نص عليه الأمر الذى سيفرز مجالا جديدا لإستنزاف طاقة الحكومة المركزية يضاف الى مجالات استنزافها الآخرى التى يأتى على رأسها أزمة دارفور..
لقد فرض الاتفاق على الطرفين نوعا من المشاركة يتطلبها تطبيقه خلال فترة الست سنوات الانتقالية على مستوى كافة المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والمالية والامنية.. للطرفان معا 80 % من مقاعد الحكومة المركزية (52% لحزب المؤتمر الوطنى الحاكم و 28% للحركة الشعبية) و20% لبقية القوى السياسية سواء كانوا يمثلون الشمالين المتعارضين مع حكومة البشير او يمثلون المنشقين عن الزعيم الجنوبى قرنق، هذه الشراكة إذا ألبت الآخرين عليهما ستعطل خطوات كثيرة وستدفع كل منهما الى محاولة الالتفاف على الآخر بمد يد التحالف الى منافسيه.. قرنق نحو قوى الشمال السياسية التى كان يوما عضوا فيها وحكومة الخرطوم نحو جماعات الجنوب التى اعلنت عدم تبعيتها لقرنق!!..
إننى اتسائل كيف سيكون حال هذه الشراكة اذا تمسك حزب المؤتمر بمسعاه لتوظيفها لصالح دعم ما يوصفه مسئوليه بانه انتصار " لاهدافه التى تمسك بها وحرص على ترسيخها
خلال نضاله التفاوضى مع الطرف الجنوبى " لدعم ركائز حكمه التى تعرضت لهزات على امتداد فترة سنوات حكمه الاخيره، بينما تعمل الحركة الشعبية جاهدة لوضع اللبنات اللازمة لبناء " سودان جديد ذو هوية إفريقية بحته يتصف بالعلمانية والديموقراطية والتحرر من الهيمنة العربية والإسلامية ".. وأين ستكون جماهير الشعب السودانى وقاه السياسية ذات الماضى المعروف من هذا الخلاف.. وأتسائل كيف سيكون حال هذه الشراكة اذا إعترض ممثل الجنوب الذى سينضم الى مؤسسة الرئاسة بعد إعادة تشكليها على قرارات سيادية يرى انها تتعارض مع مصالح حكومة الجنوب ومجلسها التشريعى وتتعارض مع بنود اى من البروتوكولات الثمانية التى وقع عليها الطرفان..
على مستوى التعليقات الغربية على اتفاق السلام هذا، هناك من توقع من الكتاب ان ينحاز جزن قرنق الى رموز الازمات التى تنغص على حكومة الخرطوم حياتها سواء كانوا فى دار فور او فى الشمال او حتى قوى الضغط الخارجية من أجل تعكير مياه العلاقات بينها وبينهم جميعا.. وفى نهاية المطاف هو المستفيد لان اى من هذه الاطراف ليس له تأثير مباشر على الجنوب الذى يتمتع بنوع من الاستقلال الذاتى حتى فى التشريع.. وربما يصبح نموذج تفاوضه الذى أوصله الى ما يريد على مستوى السياسة والاقتصاد والمال والنفط، نموذجا يحتذى به على مستوى أزمة اقليم دارفور وغيره من الاقاليم السودانية التى تفكر فى انتهاز الفرص - التى تظن انها اصبحت سانحة وقابلة للتكرار - لكى تحصل على ما يحقق لها طموحاتها الظاهرة والخفية سواء كانت متواضعه السقف أو بلا سقف.. المهم ان تجرب!!..
لذلك نقول ان الشراكة التى تتضمنها نصوص الاتفاق وبروتوكولاته ان لم تنقلب الى تحالف قوى ومتين يرتكز على المكاشفة والمصارحة والشفافية يضع مستقبل السودان كوطن واحد له حدود تجمع فى داخلها شعب متعدد الاعراق والثقافات غير مستعد للانقسام والتجزئة لاى سبب من الاسباب او تبعا لرغبة هذا الزعيم او ذاك او جريا وراء مطامع آنية وقعت اسيرة غوايات الغير، سواجه فى كل مرة يسعى الى تطبيق بنوده على ارض الواقع بعدد لا نهائى من المصاعب والاشكالات التى ستسنزف قوى ابنائه جميعا خصوصا ما بقى لحكومة حزب المؤتمر الوطنى من جهد بعد هذا الصراع الطويل مع حلفائها القدامى ومعارضيها فى الداخل وقوى الضغط الخارجية المتصاعدة..

استشارى اعلامى مقيم فى بريطانيا