3 – 5: المعوّقات السياسية
إنّ الدارس للسياسات العربية بشكل عام، في أغلب منعطفات القرن العشرين، يجدها موسومة بالخصائص الرئيسية التالية:
(1) - اللاعقلانية، إذ لم يعرف الفكر السياسي العربي مخاضا أيديولوجيا مثل الذي عرفته أوروبا في عصر الأنوار والثورات القومية الديمقراطية التي عصفت به، فجعلته ينتقل بالسياسة من إسار اللاهوت والأخلاق إلى سياق العلم والممارسة. ونتيجة لذلك فقد تميزت السياسات الحديثة بالواقعية، أي أنها انطلقت في تعاملها مع الأحداث من الأمر الواقع وموازين القوى.
(2) - اللاديمقراطية، إذ أنّ السياسات العربية أديرت من قبل نخب بالغة الضيق، بمعزل عن الشعب بمختلف طبقاته وفئاته وتياراته السياسية والفكرية، مما جعلها سياسات مرتجلة وغير منسجمة مع مصالح الأمة حينا أو في تناقض معها أحيانا أخرى.
(3) - القطرية، إذ أنّ الميسم القطري كان واضحا في السياسات العربية خلال أغلب مراحل القرن العشرين، وإن تغلفت أحيانا بالشعارات العربية القومية.
إنّ ما ذكرناه أعلاه يسلط الضوء على مشكلة التأخر العربي، تأخر البنية السياسية العربية بجماعها. لقد بقيت الدولة العربية، في شتى أشكالها: البرلمانية، والثورية، والأوتوقراطية، والعسكرية، التي ارتدت إطارا شبه حديث مع الاجتياح الاستعماري، ذات بنية تقليدية. والصفة الأولى المميزة لدولة ذات بنية كهذه ليس فقط كونها فوق المجتمع، بل أيضا كونها تؤسس للاندماج بين السلطة وممارسيها. هذه الدولة تتيح أوسع الفرص لممارسة أقلية ما هيمنة دائمة، والصراعات حول السلطة (وكثيرا ما تعتبر هي السياسة في مجتمعاتنا المتأخـرة) داخل هذه الأقلية تسهم أكثر في تعزيز السيطرة الممارسة لا إضعافها. هذه الأقلية، الأقوى من الشعب والراكبة عليه، بإلغائها الحياة السياسية للشعب، عطلت بالنتيجة عملية تحديث السياسة وعرقلت دمقرطتها، أي عرقلت عملية تحوّل الفرد إلى عضو في الدولـة.
وهكذا، يبدو أنّ الدولة الحديثة لم تمتد جذورها إلى الأقطار العربية، إذ بقيت على الأغلب قمعية واستغلالية. ويبدو أنّ إحدى المشكلات الكبرى للدولة العربية، التي ظهرت بعد نيل الاستقلال الوطني، أنها لم ترتبط بفكرة الحرية وفكرة العقلانية، بل ارتبطت بفكرة التوازن بين البداوة والدولة، حين مثلت البداوة حرية الأصل السابقة للدولة، ومثلت العشيرة المحافظة على بعض حرية التصرف داخل الدولة.
ففي حين أنّ المجتمع الحديث يتميز بتعدد العلاقات والمراتب الاجتماعية، التي تعبر عن نفسها في صورة مؤسسات، ثم تأتي الدولة فتتوج هذه المؤسسات وتستعيدها في إطار وحدة عامة شاملة، فإنّ الدولة العربية " الحديثة " استبعدت جزءا هاما من التجربة الاجتماعية، ليس عن طريق تحويره وتطويره إلى صورة أرقى منه، وإنما عن طريق عزله ومنعه قسرا. وبهذا فإن سلطة الدولة العربية ليست منسلخة عن المجتمع فحسب، بل هي عازلة له ومتسلطة عليه. فهي تحتل مراكز الإشراف التي تقع على تقاطع العلاقات السياسية والاقتصادية والاجتماعية الداخلية، أي أنها تسيطر على القطاعات الحديثة التي استجدت مع التغلغل الرأسمالي.
لذلك يبدو العالم العربي عالما مفككا، لا يحافظ على وجوده الهش إلا الاستبداد السياسي المتزايد عنفا، ويجد نفسه أسير معادلات سياسية مستحيلة، إذ أنّ الإدراك السياسي لحكامه والجزء الأكبر من معارضيهم يبدو مقتصرا على الإدانة الخطابية للمؤامرات الخارجية. ولهذا ـ أساسا ـ آلت الحالة العربية إلى التوصيف الذي ورد في تقريري التنمية الإنسانية لعامي 2002 و 2003، وأمكن للولايات المتحدة الأمريكية أن تحتل العراق، كما أمكن لإسرائيل أن تستفرد بالشعب العربي الفلسطيني.
إن جوهر العلاقة بين السلطة والشعب، في الغالبية الساحقة من الأقطار العربية، يقوم على قانون القوة والقهر، و على التغييب شبه الكامل لدور الشعب والقانون، وإلغاء حقوق المواطنة، وتفتيت المجتمع وتطويعه وإخراجه من عالم السياسة، وتعطيل أية إمكانية للتغيير والإصلاح، وقمع أي عمل معارض. بالإضافة إلى الاعتماد شبه الكلي على الأجهزة الأمنية وتحويل مؤسسات الدولة، الرسمية والشعبية، إلى واجهات صورية مسخرة لخدمة الفئات الحاكمة وطبقاتها السياسية النافذة، التي تتعارض توجهاتها ـ أكثر فأكثر ـ مع مصالح شعوبنا وتطلعاتها، وهي تقيم من مكاسبها الكبيرة ومصالحها الضخمة سدا منيعا في وجه التغيير أو أية مراجعة أو محاسبة أو إصلاح.
وإذا كانت الأزمة العامة في أقطارنا العربية، بديمومتها واستعصائها، تشكل كابحا لتطلعات شعوبنا، وتضع وطننا أمام طريق العجز عن مواجهة المخاطر والتحديات حاضرا ومستقبلا، فهي أيضا تزيد وتفاقم من مأزق الحكومات في التلاؤم مع استحقاقات مرحلة ما بعد احتلال العراق وتداعياتها، والتغيّرات الكبيرة في موازين القوى والأوضاع الدولية.
لقد أفقدت الأحداث العديد من الحكومات العديد من مصادر شرعيتها، وأوضحت مدى ضعف المؤسسات السياسية في الأقطار العربية، وأبرزت أبعاد الأزمة على النحو التالي:
1 - غياب المشاركة السياسية من قبل الجماهير العربية في الحياة السياسية، إما نتيجة اللامبالاة السياسية وضعف الوعي السياسي، وإما لعدم الثقة في الأنظمة السياسية، وإما نتيجة تضييق قنوات المشاركة من قبل هذه الأنظمة، وإما لتوافر هذه الأسباب مجتمعة.
2 - سيطرة شخص الحاكم تسانده نخبة محدودة على مقاليد الأمور، وإحكام إغلاق الدائرة السياسية، لدرجة لا تسمح بدخول أية عناصر جديدة إلا في ظل ظروف وشروط بالغة التعقيـد.
3 - الانفصال بين الحاكم والمحكوم، وعدم وجود تفاعل بين قيم وأمنيات ومطالب المحكومين والسلوك السياسي للحاكم، الأمر الذي يؤثر في مدى توافر شرطي الرضا والقبول من جانب المحكومين، وهما الشرطان اللازمان لاستمرار الأداء السياسي للسلطة وفعاليته في المجتمع.
4 - يؤدي وضع كهذا إلى اتجاه النظام السياسي إلى استخدام كافة أساليب العنف تجاه معارضيه، الأمر الذي يؤدي إلى إهدار كافة الحريات والحقوق المتعلقة بالإنسان، كما يؤدي إلى اتساع دائرة العنف في المجتمع.
5 - غياب المؤسسات السياسية الفاعلة القادرة على إعداد وتدريب وتجنيد المواطنين بالأسلوب الديمقراطي الذي يقوم على الحوار والمناقشة الموضوعية.
6 - شيوع قيم الاتكالية والفردية والانتهازية السياسية في المجتمع.
7 - غياب البنى الاقتصادية والاجتماعية والإطار الثقافي والفكري اللازمين للممارسة الديمقراطية.
8 - عدم الاعتراف بالتعددية السياسية، وعدم إمكانية تداول السلطة بأسلوب ديمقراطي منظم.
وثمة عوائق موضوعية تجد مرجعيتها لا في البنية الذهنية، أو الموروث اللاشعوري، وإنما في الوضع الداخلي الملموس، أو في الظرفية الخارجية وطبيعة النظام الدولي الذي تتحكم فيه الولايات المتحدة الأمريكية التي لها يد طولى في الاستفراد بصياغة مصير الشـعوب.
1 - على صعيد البنية الداخلية للبلاد العربية، نجد أنّ الذي يسود في أغلبها اقتصاد ريعي، فالمداخيل التي تفعّل دواليب الاقتصاد العربي مصدرها ليس نتيجة لمجهود بشري فعال، وإنما بمثابة هدية من باطن الأرض. لقد تحول النفط من أداة لتسهيل الديمقراطية في الوطن العربي إلى معوّق لها، من أداة لتحقيق كرامة الإنسان إلى أداة لتركيعه وإذلاله.
2 - أما على صعيد الظرفية الخارجية، فعلى الرغم مما يروج له عالميا من كون النظام الدولي الجديد، الذي تطبل به وسائل الإعلام الغربية، يبشر ويدعو إلى احترام حقوق الإنسان، ويسهر على انتشار الديمقراطية في كافة أرجاء المعمورة، بل ويمارس ضغوطا على الحكومات التي يعتبرها ديكتاتورية، فإنه وللأسف الشديد نجد أنّ الدول الكبرى، في كثير من الأحيان، إنما تستعمل مفاهيم الديمقراطية وحقوق الإنسان للضغط على الشعوب وإذلالها عوض تحقيق الكرامة الإنسانية، فهي تتلاعب بالقيم الإنسانية لتمرير مخططاتها، وتحقيق مصالح جديدة في بقاع أخرى من العالم أو على الأقل للحفاظ على مصالحها القديمة.
إنّ البنى، الموصوفة أعلاه، التي تقف موقف العداء من التنوير والفكر والثقافة وتلجأ للمصادرة والاعتقال والنفي والتشريد والقتل، تعمل جاهدة على إشاعة روح الخوف والترهيب لإضعاف دور المثقفين " ضمير الأمة "، فيتحول بعض منهم إلى مسوخ تضرب على كل دف، وتنفخ في كل مزمار ما دام ذلك في رحاب السلطة وحمايتها.
و من أجل تجديد الثقافة السياسية العربية يمكن الإشارة إلى أهم القواعد والمبادئ:
(1) - اعتبار ساحة الفعل السياسي مفتوحة على الدوام على قوى ومجموعات ذات تصورات فكرية ومشارب سياسية متباينة، سواء تم اعتبارها ضمن صنف الحلفاء أو المنافسين أو الخصوم من جهة، واعتبار التحول والتغيير من جهة أخرى قانونا راسخا في كل واقع سياسي. الأمر الذي يفرض على الممارس السياسي اعتماد قدر كبير من المرونة في التعامل مع الشأن السياسي تمكّنه من القدرة على التكيّف مع معطيات الواقع المتحول.
(2) - ضرورة التزام الخطاب العقلاني والواقعي في العمل السياسي، لما يتيحه ذلك من إمكانية الإحاطة بالواقع الشامل والتعرف على العوامل المؤثرة في سيرورة تطوره. إذ أنّ الواقعية والعقلانية تقتضيان تقديرا دقيقا للإمكانات الفعلية للذات التي تتوخى الفعل والتغيير في وضع سياسي ما، ذلك أنّ تضخيم تلك الإمكانيات يترتب عليه رسم خطط وبرامج للممارسة مكلفة ماديا وفاشلة عمليا، وفي ذلك هدر للطاقات في معارك مجانية أو غير متكافئة قد تنتهي إلى كارثة محققة.
(3) - اعتماد ثقافة الحوار انتصارا لفكرة أو دفاعا عن موقف وحماية لمصلحة خاصة أو عامة. وفي سياق ذلك ينبغي الحرص على عدم اعتماد الأساليب المتطرفة في التعاطي مع قضايا الخلاف، فقد تسيء الحدة المفرطة في الجدل السياسي بين المواقف المتعارضة إلى القضية موضوع الحوار، إذا لم تعرف الأطراف المتجادلة كيف ومتى تترك للمارسة هامشا يسمح باختبار مختلف الآراء والأطروحات وتمييز الصائب منها عن الخاطئ.
(4) - الاستعداد الواضح لتمكين الأجيال الشابة من تحمل مسؤولية قيادة العمل السياسي باعتبار ذلك شرطا أساسيا من شروط تجديد شباب الأمة العربية.
وتكتسب الدعوة إلى التعددية وحق الاختلاف أهميتها مما تشهده بعض أقطارنا العربية من انقسامات عمودية تهدد وحدتها وتسهل لأعداء الأمة تمرير مخططاتهم التقسيمية على أسس ما قبل وطنية. إنّ إدارة التعددية الفكرية والسياسية بشكل حضاري، بما تفرضه من قيام مؤسسات تشريعية وتنفيذية وقضائية مستقلة، وبما تفرضه من علاقة المواطنة والمساواة في الحقوق والواجبات، تحمل بين طياتها إغناء لوحدة مكوّنات الدولة.
ولذا، فإنه ليس من قبيل الترف الفكري الدعوة إلى ضرورة تطوير نسق عربي ديمقراطي مؤسس على مشروعية التعددية وحق الاختلاف، مما يتطلب:
(1) - وفاقا بين السلطات القائمة في أقطارنا العربية وبنى المجتمع المدني لصياغة حل انتقالي تدريجي نحو الديمقراطية، بحيث تتم دمقرطة هياكل السلطة وبنى المجتمع المدني في آن واحد، ضمن إطار توافق على مضمونه ومراحله مجموع القوى والتيارات السياسية والفكرية الأساسية. ويبدو واضحا أنّ نجاح هذا المسار مرهون بمدى استعداد السلطات العربية لترشيد بنائها على أسس عقلانية وديمقراطية.
(2) - استحضار الخريطة الاجتماعية العربية للتعرف على مدى قدرة المجتمعات العربية على استيعاب القيم الديمقراطية وفسح المجال أمام مؤسسات المجتمع المدني. وذلك لأنّ أغلبية النخب السياسية العربية تخشى الديمقراطية الحقيقية، وتتخوف من نتائجها، بسبب كون علاقاتها بجسم هذه المجتمعات لا تمر عبر قنوات ومنظمات المجتمع المدني التي تجعل في الإمكان احترام قواعد الممارسة الديمقراطية.
(3) - إنّ الديمقراطية عملية مستمرة، تتضمن معاني التعلم والتدريب والتراكم، ولذلك فإنّ أفضل طريق لتدعيم الديمقراطية هو ممارسة المزيد من الديمقراطية. كما أنها ليست عملية قائمة بذاتها، بل لها متطلباتها وشروطها الثقافية والاقتصادية والاجتماعية والقانونية والمؤسسية. ولذلك فإنّ العبرة ليست بتحقيق التحول الديمقراطي فحسب، ولكن توفير ضمانات استمراره وعدم التراجع عنه. وذلك بتجذيره في البنى السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية للمجتمع. كما أنّ الديمقراطية ليست نظاما بلا أخطاء أو بلا مشكلات، بل لها مشكلاتها حتى في الديمقراطيات العريقة، وهنا تبرز أهمية القدرة على تطوير أساليب وآليات فعالة لتصحيح مسارات التطور الديمقراطي. وبغض النظر عن المعاني المتعددة لمفهوم الديمقراطية، فإنّ المفهوم يدور بصفة أساسية حول ثلاثة أبعاد رئيسية: توفير ضمانات احترام حقوق الإنسان، واحترام مبدأ تداول السلطة طبقا للإرادة الشعبية، والقبول بالتعدد السياسي والفكري.
إنّ إعادة اكتشاف الديموقراطية اليوم يعيدنا أولا إلى إعادة اكتشاف مفهوم المواطن من خلال استحضار مجموعة من الأبعاد التي يحيل إليها هذا المفهوم:
(1)- البعد الإنساني: فالمواطن ليس فردا فحسب، إنه المواطن – الإنسان، فالمفهوم الحقوقي يحيلنا بالضرورة إلى مفهوم أوسع: مفهوم حقوق الإنسان القابل دائما للتجريد والتعميم، وبالتالي للتطوير كلما برزت عقبة في وجه المساواة والعدالة في مجتمع من المجتمعات. هذا البعد الإنساني، يتطلب نظرة ثقافية وتربوية تقوم بشكل أساسي على التسامح وتعلّم قبول الآخر والتعامل معه بذهنية أخوة المواطنة وأخوة الإنسانية معا. ولكي ندخل هذا الخلق في مسلكيات المواطن العربي، تبرز أهمية شروط التنشئة الوطنية الإنسانية التي تفترض استيعاب المناهج النقدية في الدراسات الإنسانية: نقد العنصرية والتمييز على اختلاف أشكاله، ونقد العقلية الخرافية، والتعريف بأسباب المسلكيات اللاعقلانية... الخ.
(2)- البعد التنموي البشري: الذي يحيل بدوره إلى حلقات مترابطة في معاني المفهوم الجديد للتنمية وشروطه:
-تنمية وعي المواطن السياسي كإنسان مسؤول للمشاركة في الحياة السياسية.
-تنمية حس النقد والبحث عن الحقيقة ليكون الخيار والرأي عقلانيان.
-اعتبار مستوى التعليم ومستوى الصحة ومستوى الوعي البيئي ومستوى المشاركة معايير أساسية في درجات التنمية.
كل هذه الأمور شكلت رافعات جديدة للوعي بأهمية المواطن إنسانا فاعلا في السياسة والثقافة والتنمية معا.
(3)- البعد العالمي للمواطنة: ليس المقصود بالبعد العالمي للمواطنة القــــول بـ " المواطنية العالمية "، وكأنها استجابة للنزوع الذي تنحو نحوه العولمة اليوم، ولا الاعتقاد بالفكرة الداعية إلى توحيد العالم في ظل حكومة عالمية. فثمة من يدعو اليوم إلى إعادة تأسيس مجال المواطنة وثقافتها بعد أن شابها، في مرحلة ازدهار دور الدولة القومية، مشاعر قومية، وأحيانا شوفينية وعنصرية كان لها دورها التسعيري في حربين عالميتين. بل أنّ هذه المشاعر الشوفينية والعنصرية عادت فتفاقمت بعد أن حولت العولمة الاقتصادية والإعلامية المواطن إلى مستهلك شره، وحولت المنطق السياسي إلى منطق سوق، فاستنفرت الهويات الذاتية في مواجهة الهويات المغايرة حتي في الوطن الواحد ولدى المواطنية الواحدة بذريعة البحث عمن يحمل مسؤولية الأزمات الاجتماعية والضائقة الاقتصادية.
إنها حركة تعمل على إعادة تركيب العالم بمواطنة في مجتمع ديموقراطي يسعى إلى المزيد من تنوعه، لا إلى المزيد من شموليته ووحدته، وكما كان الأمر في مرحلة بناء الدولة القومية أو في مرحلة حركات التحرر الوطني. هذا جانب من جوانب البعد العالمي لمواطنة أضحى عليها أن تستوعب اختلافا قريبا أو بعيدا عنها، ولكن محيطا بها بصورة دائمة، لا بفعل انعدام المسافات فحسب، بل بسبب حضور هذا الاختلاف في العيش والحياة اليومية.
4 – العرب وما بعد الحداثة
غدت قضية الحداثة وما بعدها مسألة سجالية لم تزل الثقافة العربية منشغلة بها انشغالا ساذجا، وكثيرا ما تحمّل ظواهر فكرية معاصرة في حياة الغرب بأكثر مما يمكن تحمّله سياسيا من قبل البعض من كتابنا العرب. أما " ما بعد الحداثة "، فقد عكس نوعا من تأزم الحداثة نفسها وقام علي ثلاث ركائز: الوعي بالذات بتحريرها، وتجاوز أكذوبة المركزية وعقلها التسلطي، والتحول من معقولية التوحيد إلي معقولية التنوع.
لقد شهدت كتابات " ما بعد الحداثة " انتشارا واسعا في الثقافة العربية خلال العقد الأخير، واتخذت أشكالا متعددة ومتمايزة، منها: البحوث المستقبلية المبشرة بحضارة " ما بعد الحداثـة "، لا في شكل نقدي، وإنما من منظور رصد التحولات في مستويات إدارة المجتمعات وبلورة القيم وضبط المعارف، وصولا إلى تأكيد حالة القطيعة بين الموجة الجديدة وحقبة الحداثة بكل عناصر مناخها الفكري والمجتمعي.
وهنا سنكتفي بسؤال نعتقده الأساس والمحوري في استكناه دلالة ومرجعية انتشار كتابـات " ما بعد الحداثة " في سياقنا العربي وهو: إلى أي حد تعبر هذه الكتابات عن حاجة موضوعية في ثقافتنا وأرضيتنا المجتمعية والفكرية، وما هو بالتالي الفرق بين عوامل نشأتها في تربتها الأصلية وظروف بروزها في خطابنا الفكري؟.
إذ من الواضح لنا، أنه إذا كانت كتابات " ما بعد الحداثة " في السياق الغربي، لا تنفصل عن تصدعات ديناميكية الحداثة ذاتها، حتى ولو اتخذت أحيانا طابعا نقديا تجاوزيا أو عدميا، فإنها في الفضاء العربي تعبر عن موقف مغاير هو العجز عن ولوج هذه الديناميكية، والإخفاق في بلوغ مرامي التحديث التي تأسس عليها المشروع النهضوي العربي.
وهكذا، فإنّ المراحل المقبلة من حياتنا العربية تتطلب منا جميعا الكثير والكثير، فمسؤولية التحديث والحداثة ليست مسؤولية الدولة وحدها بل مسؤولية الدولة والمواطنين في وقت واحد، والمرأة والرجل دون تمييز ولا أفضلية، فهي مسؤولية مجتمع يحتاج إلى تغيير في المفاهيم الاجتماعية، وتطوير للقيم السلوكية، وإصلاح للممارسة السياسية، وتثوير للمجالات العلمية والثقافية والإعلامية. إنّ المستقبل يدعونا إليه، ويدفعنا نحو آفاق تطوره التي لا حدود لتقدمها، ولا سبيل أمامنا سوى أن نستجيب إلى نداء المستقبل، فالمستقبل هو الحياة الواعدة والنكوص عنها جريمة لا يمكن أن يقترفها عاقل في زمن تغيّر كل شيء فيه.
وفي هذا السياق، نطرح الأسئلة الآتية: هل تطور أي مجتمع من المجتمعات يمكن أن يحصل من دون تأثيرات خارجية؟ وبين عجز الحكومات العربية والحلول الأمريكية الفوقية هل من طريق ثالثة؟ هل من طريق عربية للإصلاح والحداثة؟.
في كل الأحوال، يجب أن نعترف بأنّ دول المنطقة العربية بحاجة ماسة إلى التطور في اتجاه ديمقراطي حقيقي. لكن لابد من التأكيد، في الوقت نفسه، على أنّ الديمقراطية لا يمكن أن تكون مجرد وصفة مستوردة من الخارج طبقا للمواصفات الأمريكية، وإنما هي – أساسا - فعل محلي داخلي وطني وتفاعلات ونضالات شعبية. إذ يبدو واضحا أنّ المسألة الديمقراطية في نظر الولايات المتحدة الأمريكية هي عبارة عن " أداة " من أدوات السياسة الخارجية، فمثلما تستخدم المعونات في دعم الأنظمة والدول من أجل خدمة مصالحها كذلك تستخدم هذا الشعار تبعا لمدى قرب أو بعد النظام المعني من السياسة والمصالح الأمريكية، إذن نحن أمام حالة تتعلق بالمصالح والاستراتيجيات الأمريكية.
باختصار يدور الأمر حول وحدة معركة الحرية: استقلال الوطن وحرية المواطن والإنسان، التحرر من السيطرة الخارجية لا كبديل عن الحرية السياسية والثقافية وحقوق الإنسان، بل كأفضل شرط لتحقيقها. فبكل بساطة لا يمكن للشعوب أن تدافع عن سلطات دول تجوّعها وتحاصرها وتساومها حتى على حقها في مناقشة الشؤون العامة.
ولكن، فلنجرؤ على توكيد وجود أخلاقية كونية، هي تلك التي ألهمت الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في العام 1948. فعلى العكس من مزاعم أعداء الحرية والأصوليين من كل حدب وصوب، ليست هذه الأخلاقية نموذجا غربيا، بل إنها ميزة إنسانية. وهي ميزة كل الشعوب، وكل الأمم، وكل الديانات. لذا يجب علينا، أكثر من أي وقت مضى، أن نعمل على حمايتها وإحيائها وأن نكون على مستوى قيمتها الكونية. والتوكيد على هذه الكونية يعني التشديد على التضامن الذي يوحد كل الناس، كما يعني البحث في كل ثقافة عن تعبيرات مثال أعلى مشترك، ويعني الإقرار بأنّ الحقيقة يمكن أن تعبر عن نفسها بعدد لا متناهٍ من اللغات. ليس ثمة أي تناقض بين الأخلاقية الكونية وتنوع الثقافات، لأنّ احترام هذا التنوع هو من صلب هذه الإنسانية التي ننادي بها ونتمناها.
إنّ انخراط العرب في العالم المعاصر يتطلب منهم البحث عن مضمون جديد لحركتهم القومية التحررية، بما يؤهلهم لـ " التكيّف الإيجابي " مع معطيات هذا العالم، وبالتالي الانخراط في مقتضياته الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية، بما يقلل من الخسائر التي عليهم أن يدفعوها نتيجة فواتهم التاريخي، لريثما تتوفر شروط عامة للتحرر في المستقبل. فالعرب ليسوا المبدأ والمركز والغاية والنهاية، هم أمة من جملة أمم وثقافات، لا يمكن أن ينعزلوا عن تأثيرات وتطورات العالم الذي يعيشون فيه.
ومن أجل ذلك، تبدو الديمقراطية في رأس أولويات التجديد العربي، فمسألة التقدم العربي تستدعي مقولات جديدة: المجتمع المدني، الديمقراطية، الدولة الحديثة، المواطنة. وتبدو أهمية ذلك إذا أدركنا أننا، بشكل عام، لا نملك لغة سياسية حديثة، منظمة وممأسسة، في بنانا السياسية والثقافية، إذ بقينا خارج تسلسل وتاريخ الأحداث، فماضينا مازال ملقى على هامش حاضرنا، بل يهدد مستقبلنا.

كاتب وباحث سوري مقيم في تونس

المقال في الأصل ورقة قدمت – بالنيابة – في إطار الندوة التي أشرفت عليها " مؤسسة الشجرة للذاكرة الفلسطينية " في المركز الثقافي العربي بمخيم اليرموك - دمشق في الفترة ما بين 6 و 9 ديسمبر/كانون الأول 2004 ضمن محور " معوّقات الحداثة العربية والقضية الفلسطينية ".