موظفو المفوضية العليا للانتخابات محاولة الجمع بين الراتب المجزي والحماية الأمريكية والسمعة الثورية\

وقفت أم حقي بوجه جورج غلوي، وهو يحث ويحرض على إيذاء العراق، قائلةً في اجتماع ضم اليساريين والإسلاميين العرب والباكستانيين والبريطانيين: "أنا عراقية ضيع أمثالك خمسين سنة من عمري، وضيع من وطني العراق مئات السنين. كل هذا بسبب هذه السياسة الحمقاء التي تشجعها أنت لتزرع المتفجرات ببلادنا، وتقتل أطفالنا وشيوخنا. أنا أنتظر طريق العودة إلى بغداد ولو سيراً على الأقدام، فمَنْ أنت وما علاقتك بنا حتى تحرض على تدميرنا كل هذا التحريض"؟ والجدير بالذكر، إنه من المفارقة أن اليهوديين أم حقي ويعقوب قوجمان جعلا صورة الفلسطيني ناجي العلي جزءاً من زينة دكانهما بلندن منذ سنوات طويلة، بينما يتهم فلسطينيون بقتله! كان ذلك قبل أن يتزوج جورج غلوي من امرأة فلسطينية، ويتلمس طريق الشعور بآلام الفلسطينيين.

صرحت المفوضية العليا ببغداد بحرمان يهود العراق من الانتخابات، وهي تعرضهم كإسرائيليين، وكأن الفلسطينيين لم ينتخبوا زعامتهم تحت حماية الاحتلال الإسرائيلي. لكن هل كل يهود العراق هم مقيمون بإسرائيل، أم أن هناك عشرات الآلاف منهم يعيشون حيث عاش موظفو المفوضية، وحيث عملوا مع مؤسسات أمريكية، وعاشوا معها حالة نفاق؟ فعلام هذه المتاجرة، وعلام هذا التدليل بالوطنية الفارغة على حساب شريحة من شرائح العراقيين وهم يهوده.

لو كانت هناك وجهة حق لفُتحت ملفات الماضي، ليظهر مَنْ هو العميل الصهيوني ومَنْ هو الوطني. أكان سمير نقاش وشمعون بلاص وحسقيل قوجمان ومير بصري وسعاد خيري عملاء أم العصابات التي هجرتهم وشجعت فرهدة منازلهم؟ تفتح الملفات حتى يظهر العسف والجور الذي تحملته هذه الشريحة، وهي التي أسست عصبة مكافحة الصهيونية، فطاردتها الدولة الملكية بهذه الجريرة. ليظهر مَنْ هو عبد الله النعساني، وما مدى قرب الحكومة العراقية آنذاك من حكومة إسرائيل في قضية تهجير اليهود بالذات. هناك جرائم ارتكبت بحق يهود العراق، وأعراض هتكت، ولا بد أن يعاد التحقيق في دفاتر تلك الفترة.

من حق يهود العراق أن يعاد الاعتبار إليهم أسوة بطوائف العراق الأخرى، فالكثير منهم ينتظر العودة، للاستقرار أو الزيارة، مثلما يفعل الآن عراقيو الخارج كافة، وليس من حق أحد لا مفوضية ثورجية ولا غيرها أن تمنع مشاركتهم في الانتخاب وممارسة حقهم الوطني، والمطالبة بحقوقهم التي اغتصبت منهم، وأن يقتص عبر القانون من الذين سلبوا متاعهم وسفكوا دماءهم، وأن تلغى القوانين الجائرة بحقهم، والتي جاءت هدية من حكومات العهد الملكي إلى بن غوريون. وإذا كانت هناك مشكلة قائمة مع دولة إسرائيل، فما ذنب المقيمين منهم بدول الشتات الأخرى؟

اعتبر يهود العراق قيام دولة إسرائيل نقمة لا نعمة، وهم لم يرحلوا إليها لولا ضغط الدوائر الرسمية المتصهينة عليهم. حرموا من الوظائف، وحرم أطفالهم من المدارس، وأصبح الشرطي ظلاً لكل واحد منهم، ولا يأمن أحدهم السير في الشارع، فما هم فاعلون غير قبول تجهيزهم من قبل وزارة الداخلية العراقية بجواز نافذ لرحلة واحدة، ومؤشر عليه بعبارة "بلا عودة". أما الذين في السجون منهم فأخذت الدولة تطلق سراحهم مقابل الموافقة على التسفير إلى إسرائيل، شهدت على الفعلة الشنيعة الوثائق الرسمية وصحف تلك الفترة. ومن العجائب أن تُسقط دولة الجنسية الجماعية عن مواطنيها، بل وأسقطت الجنسية عمَنْ عارضها من المسلمين أيضاً، وبطبيعة الحال مهدت هذه الممارسة للبعثيين أن يعدوا كل سكان الأهوار من الشيعة ليسوا عراقيين، بل هنوداً أتى بهم عامل الحجاج بن يوسف الثقفي، مثلما مهدت تصفيات سجن بغداد والكوت 1953 لحملات تنظيف السجون على يد البعثيين. لقد اجتمعت في تهجير يهود العراق مصلحة الحكومتين آنذاك العراقية والإسرائيلة، فالأولى تخلصت من عدد كبير من اليهود المنتمين إلى أحزاب المعارضة، والاستحواذ على أموالهم ومتعلقاتهم، مثلما فعل البعثيون مع تجار الشيعة في الثمانينيات، أما الثانية فحاجتها إلى بنائين، وليس هناك أفضل من يهود العراق، هذا هو الاتفاق وعهد الشرف بين الحكومتين.

علق حسقيل قوجمان، المغرم في تاريخ الموسيقى والمقام بالعراق، على تهجير طائفته بالقول: "إن هجرة اليهود من العراق كانت مؤامرة مدبرة ومحبوكة، ساهمت فيها قوى هائلة أجنبية وصهيونية وعراقية". جاء في تقرير اللجنة الحكومية الخاصة بالتحقيق في مجزرة سجن الكوت السنة 1953 "تليت على السجناء قائمة بأسماء 51 سجيناً يهودياً طالبة منهم إخراجهم لغرض تسفيرهم (جريدة الدفاع الرسمية، العدد 306 أيلول 1953). وقال مكرم الطالباني في كتابه "دماء وراء القضبان"، وهو أحد السجناء آنذاك، أنه سمع معاون الشرطة إبراهيم حسن أوان العهد الملكي يحث الشرطة على القتل واقتحام السجن بالقول: "هؤلاء يهود، تريد الحكومة إرسالهم إلى إسرائيل، ولكنهم عصوا، اقتلوهم واضربوهم بقوة"(دماء وراء القضبان). نعم كان العهد الملكي عهداً رومانسياً قياساً بسلطة البعثيين، التي لا مثيل لجورها في العالم، لكنه من جانب آخر لو أخذناه حال منعزلة فلا نجده قليل القسوة والتعسف من منتصف ثلاثينيات القرن الماضي وحتى سقوطه.

لم تجبر شرطة بهجت العطية السرية اليهود في السجون لتسفيرهم إلى إسرائيل فحسب، بل أخذت تطارد التجار والموظفين الآخرين والناشطين في الأحزاب الوطنية، مثل المحامي شالوم درويش، الذي كان عضواً في الحزب الوطني الديمقراطي، وحظي باحترام قادة هذا الحزب، كامل الجاد رجي وحسين جميل، والسبب الأساسي هو هزيمة مرشح حزب نوري السعيد في الانتخابات المحلية ببغداد أمام درويش. أما نازية رشيد عالي ضدهم فسببها لا وطنية ولا معاداة للصهيونية ولا يحزنون، بل مقر جمعيتهم المؤجر من أسرة الكيلاني لعشرين عاماً، فأخذ يبتزهم برفع السعر حتى امتنعوا من الزيادة، فأرسل لهم وهو وزير عدلية في منتصف الثلاثينيات مَنْ يخطف من شبابهم ويغتال، فتصوروا حالنا ووزير عدلنا يمتلك عصابة خطف وقتل؟

لقد انتزعت أموال طائلة من الطائفة اليهودية، انتزعها قادة الشرطة، وأعوان محكمة النعساني، وكان الابتزاز يأتي على صفحات جريدة اليقظة (حزب الاستقلال). كانت هناك عصابات منظمة لمطاردة اليهودي في مقر عمله أو متجره بالسوق أو في داره. فالكل يريد الحظوة بوطنية على حسابهم، فصوت معاداة إسرائيل والصهيونية المدوي كان غرضه تجهيز إسرائيل بحوالى مائتي ألف مقتدر على العمل والبناء. كان يهود العراق هدية الحكم الملكي وأركانه لإسرائيل. ألا تنتهي هذه اللعبة، وتتوقف المتاجرة بمعادة يهود العراق.
فليست ليبيا أكثر إنسانية، ولا أقل ثورية منا، ففي نوفمبر الماضي حضرت وزارة الخارجية الليبية مؤتمراً ليهودها، وشجعتهم على العودة، وصدرت قرارات لعودة أموالهم إليهم، وهذا نص من الرسالة الموجهة إلى يهود ليبيا ببريطانيا: "السادة أعضاء مؤتمر يهود ليبيا/ لندن: بعدد التحية، إننا في الجماهيرية العظمى وبتوجيه من الأخ القائد معمر القذافي نؤكد على القيم الإنسانية للأمة العربية ودينها الإسلامي الحنيف في التعايش بين الشعوب المحبة للسلام، ومن هذا المنطلق فإننا نجدد الرغبة في مواصلة الحوار مع أبناء الجالية اليهودية الليبية المقيمة في الساحة البريطانية، أتمنى لمؤتمركم النجاح والتوفيق. التوقيع سليمان ألشحومي أمين الشؤون الخارجية بمؤتمر الشعب العام بالجماهيرية العظمى في 22/11/2004). فهل ستعيرنا الثورية العربية إن شاركت أم حقي ويعقوب قوجمان ومير بصري في الانتخابات؟ وهما أشد عداوة للصهيونية ولإسرائيل من ياسر عرفات نفسه.

لليهود بالعراق أموال مجمدة، لعبت فيها الحكومات المتعاقبة ما لعبت، لكن آن الأوان أن يعود الحق لأهله، من أرض وبناء وتجارة، وأماكن مقدسة. ليس لدى العراقيين أدنى شعور بالعداوة لأبناء بلدهم اليهود، فأحد الشباب، وهو من االمقيمين بلندن، سافر إلى العراق وزار ذا الكفل، وكان قد اضطر إلى هجرة العراق في 1970، فوجد الترحاب من الناس المحيطين بالضريح، وسألوه أين أنتم؟ هذا مكانكم؟ هكذا يفكر الإنسان العامي، صافي النية والضمير، ولكن خوفنا من مرتدي ثوب الثورية والوطنية. يكذب مَنْ يعادي إسرائيل ويظهر عدائه ليهود البلاد الشرقية العربية، بل هذا عين ما تريده إسرائيل، وهي الآن تنظر إلى أي تقارب بين اليهود الشرقيين وبلدانهم السابقة بالخوف والوجل، لأنهم حطب جيوشها وماكثة مصانعها.

قبل قيام دولة إسرائيل احتفى يهود العراق بالملك فيصل الأول فأقاموا له حفلاً خاصاً في 18 تموز 1921، وجاءوا بالتوراة الأصلية، وهي لا تخرج إلا للملوك والعظماء "مكتوبة على درج من الرق مصوناً في غلاف من ذهب فلثمها جلالته"(غنيمة، نزهة المشتاق في تاريخ يهود العراق). ثم ختم كلمته بالقول: "إني لا أريد أن أسمع كلمة مسلمين ومسيحيين واسرائيليين، فالعراق وطن القومية، وليس فيه سوى أمر واحد هو أن يقال عراقيون فقط"(الوردي، لمحات اجتماعية). لكن قبيل قيام دولة إسرائيل كان تهجير يهود العراق هدفاً لدى الصهيونية العالمية، فهم من أرقى طبقات يهود الشرق علماً وثقافة وتجارة ومهارة ومالاً وعدداً، ولا يتم هذا الأمر من دون عون الحكومة العراقية وشرطتها السرية، ومن دون عون النازية. فتحقق الفرهود بجهود مفتي القدس أمين الحسيني وبجهود مدرسين سوريين وفلسطينيين، وبجهود أعوان حزب الاستقلال القومي العراقي. فتأملوا حجم الخدمة التي أسداها هؤلاء، بقصد أو من غير قصد، لتحقيق حلم الصهيوينة التي يدعون معاداتها. ليس من حق أحد أن يمنع يهود العراق، ومَنْ فضل منهم الهروب عبر إيران، وتحمل المخاطر، على تسليم جنسيته لاسقاطها في دوائر النفوس ببغداد من المشاركة في حقهم الطبيعي في الانتخابات، فالديمقراطية لا تتجزأ ولا تتبضع. ختاماً، إن أراد موظفون متنفذون في المفوضية العليا الاحتفاظ بثوريتهم بين أصدقائهم إلى جانب الراتب المجزي والحماية الأمريكية الموثقة فلهم هذا، لكن أن لا يأتي عبر التجارة بمعاداة يهود العراق.

[email protected]