ديمقراطية العهد الملكي

يقول الباحث د.كمال مظهر أحمد: « وفي الواقع إن أكبر خطأ قاتل ارتكبه النظام (الملكي) في العراق يكمن في موقفه من الديمقراطية، فعلى العكس من منطق الأشياء، سار الخط البياني لتطور الديمقراطية في العهد الملكي من الأعلى إلى الأسفل، لا من الأسفل إلى الأعلى، ويتحمل الجميع وزر ذلك، ولكن بدراجات متفاوتة ». أعتقد أن نوري السعيد وعبدالإله يتحملان الوزر الأكبر وكان بإمكانهما تجنب الكوارث التي حصلت بسبب تهورهما واستهانتهما بالجماهير واضطهادهما للقوى الوطنية التي كانت تشكل معارضة ديمقراطية ولم تلجأ يوماً إلى العنف عدى المظاهرات التي كانت سلمية وكانت السلطات هي التي تواجهها بالعنف الدموي. وعلى سبيل المثال لا الحصر قام نوري السعيد بحلَّ البرلمان عام 1954 بعد يوم واحد فقط من افتتاحه بخطاب العرش، وذلك بسبب فوز أحد عشر نائباً من المعارضة من مجموع مائة وخمسة وثلاثين نائباً. فما هو تأثير أحد عشر نائباً معارضاً من مجموع 135 نائباً على قرارات السلطة الحاكمة؟ أليس هذا دليل على استهتار العهد الملكي بالديمقراطية؟ كذلك حكاية السيد عبدالكريم الأزري باتت معروفة ومفادها أنه تلقى صباح أحد الأيام مكالمة هاتفية من قريب له يهنئه على فوزه نائباً عن مدينة الديوانية وهو لم يرشح نفسه لأية دائرة انتخابية.

يقول الشاعر محمد مهدي الجواهري عن وضع البرلمان آنذاك وكان نائباً فيه فيقول: ( لقد وقف نوري السعيد ذات يوم وقد ضاق صدره من هذا المعارض أو ذاك ليقول بالحرف الواحد: "هل بالإمكان أناشدكم الله، أن يخرج أحدنا مهما كانت منزلته في البلاد، ومهما كانت خدماته في الدولة، ما لم تأت الحكومة وترشحه؟ فأنا أراهن كل شخص يدعي بمركزه ووطنيته، فليستقيل الآن ويخرج، ونعيد الانتخاب، ولا ندخله في قائمة الحكومة، ونرى هل هذا النائب الرفيع المنزلة الذي وراءه ما وراءه من المؤيدين يستطيع أن يخرج نائباً" . وأكد هذه الرواية كل من حسين جميل ومجيد خدوري في مؤلفاتهما. ويضيف الجواهري: "… هكذا كانت الأوضاع في العراق وهكذا كانت الديمقراطية. ولا شك إن أوضاعاً كهذه لا بد أن تخلق حالة من الكبت الجماهيري الذي يبحث عن مفجر".

كذلك الحال بالنسبة للدستور. نعم كان هناك دستور ديمقراطي، ولكنه كان حبراً على ورق وملقىً على الرفوف العالية يقابله دستور طائفي وعنصري غير مدون هو الذي كانت السلطة تحكم به العراق. فالعبرة ليست بوجود دستور مدون، رغم أهميته، بل العبرة بتطبيقه والالتزام به. فهذه بريطانيا العظمى، قلعة الديمقراطية، لحد الآن لا يوجد لها دستور مدون!!
وقد لخص الشاعر معروف الرصافي الوضع قائلاً:
علم ودستور ومجلس أمةكل عن المعنى الصحيح محرف

محاسبة الضحية بجريرة الجاني
لا استغرب هجوم دعاة الملكية على ثورة 14 تموز وتحميلها جرائم الفاشية البعثية، فالأمر معروف، ولكن الذي حيرني وأصابني بالدهشة هو هجوم الصديق العزيز القاص إبراهيم أحمد الذي كثيراً ما أتحفنا بمقالاته الموضوعية القيمة في مقارعة أيتام الفاشية المقبورة. نعم، ذهلت مما قاله في مقاله الأخير(الفاسدون يتحدون)، والذي كنت أتوقع منه أن يشخص لنا أسباب هذا الفساد الإداري المتفشي الآن في العراق بعد سقوط الفاشية ويضع إصبع الاتهام على الداء ويصف له الدواء الناجع. إلا إنه ومع الأسف ترك الموضوع المهم وفاجئنا بإقحام ثورة 14 تموز كسبب في هذا الفساد بقوله : (إنهم العسكر الظامئون للسلطة الذين داسوا يوم 14 تموز المشئوم من عام 1958 على دستور الدولة ووضعوا مكانه جزمتهم العسكرية لتفوح منها عفونة الدم والتهور والجنون !لقد ظل ،هؤلاء العسكر همجاًً رغم بذلاتهم العسكرية ورتبهم العالية وأبوا أن يعيدوا الدولة العراقية لبناة المجتمع المدني رغم ادعاءهم أن ثورتهم كانت ضد الظلم والتعسف والفساد...). من حسن الطالع أن الصديق إبراهيم أحمد ليس من دعاة الملكية. ولكن من الواضح أن إقحامه ثورة تموز في هذا الفساد يصب في خدمة هؤلاء، وإني أفهم وأتفهم سبب غضبه وشعوره بالإحباط مما جرى ويجري من تخريب وفساد على أيدي شذاذ الافاق من أيتام العهد البعثي البائد، حيث كان الكاتب نفسه ينتمي إلى القوى السياسية التي ساهمت مساهمة فعالة في التحضير لثورة تموز وصفقوا لها وساندوها. فأي دستور هذا الذي سحقه العسكر بالجزمة؟ ومن هم الذين قرروا إلغاءه؟ أيها الصديق، ليس العسكر الذين الغوا الدستور الملكي وكتبوا الدستور المؤقت، بل هم من خيرة المدنيين المتضلعين في القانون في ذلك الوقت من أمثال حسين جميل وغيره من أعضاء الحزب الوطني الديمقراطي وأحزاب جبهة الاتحاد الوطني آنذاك.
فالثورة قد هيأت لها القوى السياسية المدنية المنضوية في جبهة الاتحاد الوطني، بعبارة أخرى، مؤسسات المجتمع المدني. أما دور الجيش فكان أداة التنفيذ فقط. وكما يقول حنا بطاطو إن ما حصل في فجر يوم 14 تموز 1958، كان انقلاباً عسكرياً في ساعاته الأولى فقط. ولكن بعد ساعات، حولته الجماهير الشعبية بقيادة القوى السياسية إلى ثورة عارمة وبقيت هكذا إلى يوم اغتيالها في 8 شباط 1963. كما ويقول المستشرق الفرنسي المعروف مكسيم رودنسون:(إن ثورة 14 تموز هي الثورة الوحيدة في البلاد العربية).
كذلك ذكر الباحث الدكتور ليث عبدالحسن الزبيدي في بحثه (رسالة ماجستير عن ثورة تموز)، أن اللجنة العليا للضباط الأحرار قد رشحوا الراحل كامل الجادرجي لرئاسة حكومة الثورة فرفض، وطلب الزعيم عبدالكريم قاسم من حسين جميل أن يترأس الوزارة فرض العرض أيضاً، وأصرت قيادة حزب الوطني الديمقراطي على أن تكون رئاسة الحكومة بيد العسكر، وهكذا اضطر الزعيم عبدالكريم قاسم أن يترأس الحكومة بنفسه حيث كان رئيساً للجنة العليا لتنظيم ضباط الأحرار. لذلك فالذي يتحمل إجهاض ثورة تموز هم قادة الأحزاب الوطنية الذين خذلوا ثورتهم وأشعلوها صراعات دموية فيما بينهم بعد نجاح الثورة من أجل المصالح الفئوية مما مهد السبيل إلى تكالب الأعداء على العراق من الخارج والداخل، كما هي الحال اليوم، إلى أن اغتالوها. فكان الأجدر بالصديق الكاتب أن يلقي اللوم على فرسان انقلاب 8 شباط 1963 الذين اغتالوا الثورة، ولكنه ومع الأسف الشديد صب جام غضبه على الضحية وترك الجاني.
أنا لا أريد الدفاع عن العسكر ولا أود عودة الإنقلابات العسكرية، معاذ الله، فذلك العهد قد ولى إلى غير رجعة. ولكن الانقلابات العسكرية كانت جزءً من النضال الوطني في تلك الحقبة من تاريخ النضال السياسي في القرن العشرين، شئنا أم أبينا، حيث كانت الأحزاب السياسية تتنافس بشراسة على كسب العسكر إلى جانبها لاستخدامهم لٌلانقلابات العسكرية، بسبب غياب الوسائل السلمية لتداول السلطة، ومن هذه الأحزاب، حزب الوطني الديمقراطي بقيادة الديمقراطي الليبرالي كامل جادرجي نفسه والذي لعب دوراً مهماً في انقلاب بكر صدقي وكذلك في ثورة تموز كما هو معروف. أما استنكارنا الآن لدور الجيش في السياسة ونحن في القرن الحادي والعشرين، فهذا أمر جديد في حقبة تاريخية جديدة ولم يحصل إلا بسبب الكوارث التي جلبه نظام البعث الفاشي على العراق وانتهاء الحرب الباردة وسيادة القطب الواحد. لقد حصل انقلاب عسكري في البرتغال في السبعينات من القرن الماضي، والعسكر هم الذين مهدوا للديمقراطية بعد عام من انقلابهم ونجحت الديمقراطية في البرتغال. ولكن فشلت ثورة 14 تموز في تحقيق الديمقراطية في العراق بسبب عدم النضج السياسي وتخلف القوى السياسية ومؤسسات المجتمع المدني التي ساعدت على اغتيال الثورة قبل تحقيق أهدافها الوطنية.
نعم، كانت الانقلابات العسكرية تعتبر العلاج الناجع الوحيد المتوفر في تلك المرحلة التاريخية لإزاحة الحكومات المستبدة، أشبه بدواء كان يستخدم قبل ثلاثين عاماً وكان مصحوبات بمضاعفات جانبية side effects ، والآن حل محله دواء أفضل. لذا ليس من حقنا مقاضاة طبيب استخدم ذلك الدواء في تلك الفترة لأنه يوجد اليوم دواء أفضل. كذلك الخيار بين الديمقراطية والانقلاب العسكري، لم تكن الديمقراطية أو الوسائل السلمية متوفرة في العهد الملكي لتحقيق التغيير المنشود عدا اللجوء إلى العسكر. وحتى الآن، فالديمقراطية (الدواء الجديد) ليست مضمونة النجاح رغم إسقاط النظام البعثي الفاشي، فهذا الذي يجري في العراق اليوم من إرهاب ويحصد أرواح خيرة أبناء شعبنا من سياسيين ورجال الشرطة والأمن والمدنيين الأبرياء، يؤكد ذلك وهو أشبه برد فعل المريض الذي يعطى حقنة من البنسلين ثم تظهر عليه أعراض الحساسية المفرطة ضد هذا الدواء ويمكن أن يقتله. وتأكيداً لهذا فقد قرأنا قبل أيام بياناً وقعته فلول البعث الإرهابية والتي انتحلت لها أسماء منظمات إسلامية مثل: "أنصار السنة" و"الجيش الإسلامي في العراق" و"جيش المجاهدين"..الخ أعلنوا فيه (إن الديمقراطية كمبدأ تعتبر "لا اسلامية"، وان مراكز الاقتراع هي في الواقع "مراكز للكفر" وان الانتخابات ستؤدي الى استصدار قوانين "منافية للاسلام."). فما العمل في هذه الحالة؟ هل نستجيب لهؤلاء الإرهابيين ونتخلى عن الديمقراطية لأن هناك شريحة من الشعب العراقي تقف ضدها وإن إسقاط نظام صدام حسين كان خطأ