لن يكون يوم الثلاثين من كانون الثاني الحالي يوما عاديا في حياة العراقيين.. وانما سيبقى في ذاكرة الاجيال المقبلة بأنه بداية عهد جديد لبلاد أنهكتها انقلابات عسكرية ومغامرات طائشة وحروب عبثية وصراعات دموية بين جماعات تعتقد انها وحدها تمتلك الفكر الصائب والحلول الجاهزة والمشروعية السياسية والوصاية لحكم العراق.. ما أغرق المجتمع في دوامات متتالية أفقدته القدرة على الاتزان والاستقرار ومواصلة العطاء الانساني. سيكون الثلاثين من الشهر الحالي استهلالا لرحلة شاقة بالغة التعقيد وذات تحديات متشعبة ستتولى ادارتها وتنظيم حركتها نخبة من السياسيين والاقتصاديين وذوي الكفاءات العراقيين الحريصين على تثبيت مرتكزات دولة عصرية متطورة مقتدرة على اللحاق بركب التقدم التقني مستفيدة من ثروات البلاد البشرية والطبيعية.. نخبة من النساء والرجال المؤهلين لبناء مجتمع مدني مسالم يقوم على احترام حقوق الانسان وتأمين العدالة الاجتماعية وتحرير المواطن من الخوف وأسبابه وأشاعة ثقافة التسامح وتسخير الموارد للنهوض بالمستوى المعاشي والاقتصادي والاجتماعي والعلمي للجميع دون تمييز. ومن المتوقع في هذا اليوم التأريخي ان يقرر العراقيون في أول وأوسع ممارسة ديمقراطية تشكيلة هذه النخبة من خلال انتخابات عامة طال انتظارها بعد انهيار النظام الديكتاتوري.. وليختار مرشحوهم الفائزون حكومة مؤهلة تتولي مسؤولية ادارة شؤون البلاد فيما بعد داخليا وخارجيا.
ومن المتوقع ايضا ان تواجه الحكومة المنتخبة كثيرا من الصعوبات على مستويات مختلفة خصوصا وان التركة التي خلفها الحكم الدكتاتوري السابق ثقيلة ومتشعبة على صعيد ادارة القضايا السياسية والاقتصادية والاجتماعية بالاضافة الى مزيج من الاختلالات الجدية وعميقة التأثير التي كرستها سياسات الحكم الاستبدادي السابق في عقول أكثر من جيلين من البشر وفي هيكلية الدولة ومؤسساتها والبنى الارتكازية وفاعليتها.
وبطبيعة الحال لن يكون بوسع المواطن العادي بين ليلة وضحاها تلمس نتائج هذه العملية الديمقراطية المتوقعة في هذه الميادين او ان يشهد تحقيقا سريعا للوعود التي طرحتها الاطراف السياسية المتنافسة في برامجها الانتخابية.. لكنه سيبدأ برؤية بعض معالمها شيئا فشيئا اذا ما أبدى مزيدا من الصبر والموضوعية والتعاون مع جهود الحكومة المرتقبة لتأمين الاستقرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي باعتبار ذلك حجر الزاوية في بناء الدولة العصرية المزدهرة.

غير ان هذا الطموح المشروع يصطدم بأكثر من عقبة تضعها أطراف داخلية وخارجية ترفض التغيير في العراق.. أي لا تريد نجاح العملية الديمقراطية.. فبعد ان عجزت أعمالها الارهابية عن ايقاف العملية السياسية راحت تفتري عليها وعلى كل من يناصرها بدعوى عدم شرعيتها.. وعندما أدركت هذه الاطراف اليائسة فشلها في ردع العراقيين الراغبين في التغيير واجراء الانتخابات، هرعت للاستفادة من الفسح الاعلامية المتوفرة لها وبدأت تطالب بارجاء الانتخابات ( لآفساح المجال أمام كل شرائح الشعب العراقي بالمشاركة فيها ولتجنب نشوب حرب أهلية) حسب تصريحات مسؤولين عرب ودوليين تضرروا من انهيار النظام الدكتاتوري. ويعلم العراقيون ان المقصود بعبارة (كل شرائح المجتمع العراقي) هم البعثيون.. اذ ان السنة يشتركون فعلا في العملية السياسية منذ سقوط الكتاتورية ضمن كيانات سياسية عديدة عدا التنظيمات الشيعية بالطبع.. فيما تمكن البعثيون من التسلل الى أغلب التنظيمات والاحزاب دون مصاعب.
ان الخلط بين السنة والبعثيين والزعم بضرورة مشاركة (كل) شرائح المجتمع العراقي في الانتخابات لكي تصبح شرعية ليس سوى محاولة ساذجة لمنح أعوان النظام البائد فرصة للعودة لآستئناف هيمنتهم على المسرح السياسي.. خصوصا وان العراقيين لم يسمعوا عن أي بيان انتخابي او برنامج سياسي لتنظيم يطلق على نفسه صفة (السنة) عدا ما يسمى بجيش أنصار السنة سيء الصيت والمعروف بجرائمه البشعة.. كما لم يسمع العراقيون بوجود حزب (سني) حرم من المشاركة في العملية السياسية.

إذن.. فالمسألة لا تتعدى كونها محاولة مستترة لتطبيع العلاقة بين الشعب العراقي ومضطهديه البعثيين دون تسميتهم.. رغم ان البعثيين في بياناتهم الموزعة في بعض مناطق التوتر العراقية وفي دمشق وبيروت وصنعاء وعمان يؤكدون بصراحة نهجهم المناهض للديمقراطية وللتعددية واصرارهم على العودة لآستلام السلطة بقوة السلاح كما فعلوا من قبل.
لو يريد البعثيون حقا، كما يزعم البعض، الاندماج سلميا مع بقية شرائح المجتمع العراقي والدخول في العملية السياسية والتنافس في الانتخابات المقبلة، ، فالطريق أمامهم سالكة وواضحة المعالم.. إذ ليس عليهم سوى القاء أسلحتهم فورا وتسليمها للسلطات المختصة واصدار بيان يدين جرائم النظام البائد والعمليات الارهابية.. ما يفتح صفحة جديدة للتعايش والتفاعل في مجتمع مدني تتلاقح فيه الاراء مهما اختلفت من اجل بناء عراق مسالم مزدهر يسود فيه حكم القانون.

ان رغبة البعثيين لآستعادة نشاطهم السياسي في العهد الجديد أمر لا يقرره سوى البعثيين أنفسهم.. ولن تتحقق ما لم يبدأوا عملية تطهير شاملة في صفوفهم يستأصلون من خلالها كل جذور الكراهية والعداء والعنف والاستبداد التي لطخت تجربتهم الماضية في الحكم، ويعيدون النظر بمواقفهم الحالية التي لم تجلب لهم ولآبنائهم وللبلاد سوى المزيد من الموت والخراب والخوف والحرمان.

[email protected]