تداولت الصحف ووكالات الأنباء، وخاصة العربية منها، خبر إعلان الإدارة الأمريكية وقف عملياتها في البحث عن اسلحة الدمار الشامل في العراق. انصب تركيز بعض هذه الوكالات والقنوات الإعلامية على مسألتين رئيسيتين، الأولى فشل الإدارة الأمريكية في العثور على هذه الأسلحة، على اعتبار انها كانت الذريعة التي بررت بها حربها في العراق، اما الثانية فقد كانت إعلان الرئيس الأمريكي جورج بوش الذي كان شخصياً مَن اعلن انتهاء عمليات البحث عن اسلحة الدمار الشامل في العراق، أنه بالرغم من عدم العثور على هذه الأسلحة، إلاّ انه ليس نادماً على شن الحرب في العراق واسقاط نظام صدام حسين، وان اسقاط نظام ديكتاتوري ونشر الديمقراطية، يشكل في حدّ ذاته هدفاً كافياً لشنّ الحرب. من الطبيعي جداً ان يضع هذا الفشل، الإدارة الأمريكية امام مفترق طرق هام وحساس للغاية، ولكن على الجانب الآخر يضع مجمل المجتمع الدولي ومنظومة القانون الدولي وآلياته وهياكل عمله، امام مفترق طرق ليس هاماً وحساساً فحسب، بل ومصيرياً ايضاً.

بهذا الإعلان تفقد الإدارة الأمريكية ذريعتها في الحرب على العراق فتبدو عارية عن التغطية على (عدوانها)، فلماذا اذن يصر الرئيس بوش على (الخطأ)، وبدلاً من (التعنت)، ألم يكن من الأجدى له ان يعتذر؟ وهل ان اصرار الرئيس بوش على شرعية الحرب التي قادها في العراق، حتى بعد سقوط مبررها المعلن، هو من قبيل التعنت، ام ان هناك خلل ما في المسألة؟ للإجابة عن هذه الأسئلة، ينبغي علينا ان نجيب اولاً عن التساؤل الأهم، ألا وهو متى بالفعل قررت الإدارة الأمريكية اسقاط نظام صدام حسين، وهل ان هذا القرار جاء وليد الجو الدولي الذي تلا احداث الحادي عشر من سبتمبر، وتعاون وتحالف صدام مع تنظيم القاعدة الذي تحول منذ ذلك الثلاثاء الحزين الى، العنوان الرئيسي لحرب عالمية جديدة، تمتد ساحتها بإمتداد العالم كله، ام ما هي المسألة بالضبط؟ والإجابة عن هذه الأسئلة تحتم علينا ان نحاول ربط كل هذه الأمور، بالمنظومة التي يرى من خلالها الرئيس بوش العالم وحربه المعلنة على الإرهاب، أي العودة الى ما يسمى بعقيدة بوش التي تربط في رؤيتها بين كل من الإرهاب الدولي، وخطر اسلحة الدمار الشامل، و كذلك وجود ما يسميها هو بالدول المارقة. حيث يمكن ان يشكل الإرهاب الدولي، بإكتمال كل هذه العناصر مع بعضها البعض، خطراً رئيسياً على امن الولايات المتحدة الأمريكية والعالم. على الجانب الآخر، لماذا وقف المجتمع الدولي عاجزاً ومشلولاً امام انفراد الولايات المتحدة الأمريكية في الإمساك بزمام الحرب والسلام في العالم؟ هل ان المجتمع الدولي قام بفعل ما كان عليه ان يفعل، ام كان عليه ان يكون اكثر فاعلية، وبالتالي ماذا كان عليه ان يفعل؟ والأهم من ذلك ايضاً ماذا كان بإمكانه ان يفعل حقاً؟

الخوض في هذا الموضوع والدخول الى تفاصيل بهذه الدقة تحتاج الى مساحات اكبر، وكذلك الى اكثر من دراسة، ولتجنب الإطالة وللإختصار يمكننا ان ندخل في الخطوط العامة لهذه المسائل المعقدة الشائكة، التي هي في الحقيقة تبدو كنتيجة طبيعية لتراكم تاريخي يمتد الى اكثر من نصف قرن من عمر توازنات حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية. إذن نحن ندخل الآن ضمن حدود الكلام عن النظام الدولي بكل تعقيداته وتفاصيله وإشكالياته السياسية والفكرية وكذلك الأخلاقية، لذا فإن من الأفضل الإختصار قدر الإمكان، الإختصار والإسهاب بقدر المساحة المتاحة للخوض في كل هذه التعقيدات، والقصد من المساحة هنا هو اعمق من مساحة الورقة المتاحة للكتابة، بمعنى آخر يعني المساحة الفكرية التي يمكن ان يمنحهاالمجال الذي يغطي مقالاً صحفياً . لذلك كله وبإختصار شديد فإن اللحظة التي يعلن فيها الرئيس الأمريكي جورج بوش اصراره على شرعية حرب شنها رغماً عن انف (المجتمع الدولي)، ودون الحصول على موافقة مجلس الأمن الدولي على شنها، تشكّل مفترق طرق مصيرية، لا يضاهيها في الخطورة والأهمية سوى شن الحرب نفسها وبالطريقة التي جرت عليها، لا بل هي اكثر خطورة وأهمية بكثير. ان الرئيس الأمريكي لم يتمكن قبل الحرب من اتخاذ نشر الديمقراطية كمبرر مقنع لشن الحرب في العراق، فكان عليه ان يتمسك والى آخر لحظة بملف اسلحة الدمار الشامل، حتى لو كان يفتقر الى الحد الأدنى من الدقة والموضوعية، ببساطة شديدة لأنه لم يكن يملك غير هذا الملف. والحقيقة التي لا يمكن إنكارها هي ان الإدارة الأمريكية لم تكن تملك الأدلة القوية الدامغة على امتلاك صدام لترسانة من سلاح الدمار الشامل، واكبر دليل على صحة هذا الكلام هو ان الموقع الوحيد الذي عرضه وزير الخارجية الأمريكي كولن باول في ذلك الإجتماع الشهير لمجلس الأمن الدولي الذي مهّد له الأمريكان بعناية، والذي اعلن انه يعرض موقعاً لمعمل صغير ينتج اسلحة كيمياوية في منطقة (هةورامان) بكردستان العراق، حيث كان تمركز مقرات الجماعات الإسلامية، بما فيها جماعة انصار الإسلام الإرهابية التابعة لتنظيم القاعدة، هذا الإعلان لم يكن سوى كذبة لم تستطع الصمود لأكثر من ساعات، إذ ان افواجاً الصحفيين سرعان ما انهالوا على المنطقة ونقلوا ومن الموقع رسائلهم وتقاريرهم الخبرية التي اكدت عدم صحة ادعاء باول بخصوص معمل السلاح الكيمياوي المزعوم. حتى هذه المحاولات وكذلك تلك التقارير التي روّج لها البريطانيون كثيراً قبل عرضها امام العالم ولإعطائها الأهمية اللازمة فقد تم عرضها من قبل رئيس الوزراء توني بلير شخصياً، حتى هذه التقارير لم تجدي نفعاً في اقناع المجتمع الدولي لخوض الحرب في العراق، وكل العالم لا زال يذكر جيداً ان الحرب قد قامت في آذار 2003 وسط غضب (المجتمع الدولي) وإمتعاضه الشديدين، وكذلك رفضه القاطع للحرب. إذن ماذا كان بإمكان الإدارة الأمريكية ان تفعل؟ والمعادلة ببساطة شديدة كانت كالتالي، (المجتمع الدولي) يرفض الحرب ولا يقبل بها مهما كانت الأسباب والمبررات، وهو كان سيرفضها في كل الأحوال، على الجانب الآخر كانت الولايات المتحدة الأمريكية مصرة على شنّ هذه الحرب مهما كانت النتائج، واذا عجزت عن ايجاد ولو مبرر مقبول واحد في حينها، فإن عليها ان تفعل المستحيل لخلق مبرر يمكن ان يقنع (المجتمع الدولي) بشرعية الحرب حتى لو اضطرها ذلك الى اللجوء للكذب، بغية حثّ الدول الرافضة للحرب على تأييدها والإنضمام الى ركب التحالف الدولي الذي كانت كل من امريكا وبريطانيا تستميتان في العمل على خلقه، او على الأقل الإحجام عن الطعن في شرعيتها. اذن كان العالم ساعتها امام معضلة حقيقية، في تلك اللحظة القلقة والحرجة من عمر حكاية الحرب والسلام، كان العالم منقسماً وبشدة الى جبهتين متخندقتين، تصرّ احداهما على شنّ الحرب مهما حدث، بينما ترفض الثانية قبول هذه الحرب تحت اية مبررات او ذرائع، لا بل وتصّر على الطعن في شرعيتها مهما كلفها ذلك، وعليه فلم يكن امام كل من الطرفين من خيار سوى التمسك بموقفه حتى النهاية، وهذا ما حصل بالضبط.

قد يكون هناك اختلاف شديد على تسمية اهداف ودوافع الولايات المتحدة الأمريكية من حن شنها للحرب في العراق، وقد جاء نتيجة لذلك الجدل الحامي حول مبررات هذه الحرب، وكذلك شرعيتها، او عدم شرعيتها، وتفادياً للدخول في جدل بيزنطي لاينتهي، فأننا سنتجاوز هذه الإشكالية، لكن على الجانب الآخر، ترى ما هي اهداف ودوافع رفض الحرب من قبل (المجتمع الدولي)؟ ماذا كانت مبرراته في التمسك بهذا الرفض والطعن في شرعية الحرب؟ هل كانت الدفاع عن نظام صدام حسين الذي كانت تربطه مصالح قوية مع هذه الدول؟ ام كان التمسك بسيادة القانون الدولي، الذي بات عاجزاً حتى عن تفسير ما يحدث في العالم، فما بالك بمهمة تنظيمه والحكم عليه؟ ام ان المسألة كانت دفاعاً عن سيادة دولة عضو في المنظمة الدولية، يحق لها ان تفعل بشعبها ما يحلو لها، وان على العالم اجمع ان ينأى بنفسه عن التدخل في مثل هذه الأمور (الداخلية)؟ ام ان كل هذه الأسباب والمبررات قد اجتمعت لتشكّل مع بعض الأرضية الصلبة للتمسّك بخيار رفض الحرب؟ بالتوازي مع حديثها عن اسلحة الدمار الشامل كمبرر للتغطية على حربها في العراق، كانت الولايات المتحدة الأمريكية تطرح حينها – ولو بصورة خجولة بعض الشيئ – افكاراً حول نشر الديمقراطية وتحويل العراق الى مركز إشعاع ديمقراطي يعمّ المنطقة بأسرها بعد الإنتهاء من مهمة اسقاط النظام الديكتاتوري الحاكم في بغداد، فكان ان طرحت بعد ذلك افكاراً لمشاريع حول الإصلاح والديمقراطية في المنطقة العربية والعالم الإسلامي. قوبلت هذه الدعوات بحملة رفض شرسة من قبل الأنظمة والأوساط الإعلامية العربية، لا سيما الرسمية منها. وخرجت علينا هذا الأنظمة بمتاهة (الإصلاح من الداخل، ام الإصلاح المفروض من الخارج)، ومن هنا كان من مصلحتها ان لا تنجح العملية السياسية في العراق، وان لا ينعم العراق بالحد الأدنى من الإستقرار، فكانت تدخلاتها المستمرة نتيجة للضغوط التي تعرضت اليها جراء الوضع العراقي الجديد. المسألة بإختصار شديد هي انه من المستحيل، بل من الغباء ولو مجرد التفكير في احداث التغييرات الديمقراطية في هذه المنطقة بالإعتماد على الداخل وحده، والأدلة على صحة هذا الكلام على كثرتها فهي واضحة الى درجة السطوع، فبدون دور و تأثير العامل الدولي وخاصة الدعم الأمريكي والغربي بصورة عامة لكان الكلام عن اسقاط ميلوسوفيج وايداعه السجن، وكذلك اجبار الرئيس ادوارد شيفاردنادزة على الرضوخ لإرادة الشعب الجورجي وترك كرسي الرئاسة (لشاب صغير)، ثم اجبار السلطة الكرواتية على اعادة اجراء الإنتخابات التي زوّرتها، ضرباً من الخيال. ولكان الحديث عن الوصول الى اتفاق سلام تاريخي بين الأخوة الأعداء في السودان لا يزال مجرد حلم اقرب الى المستحيل.

اذن وكخلاصة لما تقدّم لم يكن شنّ الحرب في حد ذاتها محل كل هذا الجدل، بل الطريقة التي جرت عليها. والآن وبعد انكشاف كل هذه الأهوال، وكل هذه المقابر الجماعية المنتشرة على طول العراق وعرضه، بات واجباً اخلاقياً على (المجتمع الدولي) ان يعيد النظر في اخلاقية حساباته في رفض الحرب على العراق. بينما بات لزاماً على الولايات المتحدة الأمريكية ان تكون اكثر وضوحاً وشجاعة، وكذلك اكثر عدالة في النظر الى العالم ومشاكله وكوارثه، فهذه القوة العظمى شاءت، ام أبت عليها مسؤوليات دولية، وعليها ان تكون بمستوى هذه المسؤوليات والتحديات. الحقيقة هي انه كان على الرئيس بوش ان يعلن مبرره الحقيقي في شن الحرب على العراق، قبل بدء العمليات العسكرية، كان عليه ان يعلن بأنه ذاهب الى العراق لإسقاط النظام الديكتاوري الحاكم في بغداد، لا ان يختفي وراء اكاذيب من قبيل اسلحة الدمار الشامل، ولكن ذلك لم يكن ممكناً حينها لأن (المجتمع الدولي) ما كان ليقبل بها. وعليه فإذا كان على بوش ان يندم، فهو على هذه المسألة بالتحديد وليس على شن الحرب واسقاط صدام ونظامه. على الجانب الآخر لا يزال هناك المزيد من الأنظمة الديكتاتورية المستبدة، والتي تصرّ على تطوير اسلحة دمار شامل، وهي بمجرد التعاون مع منظمة ارهابية يمكن ان تعرض امن العالم الى خطر. لذا فعلى العالم اذا كان يشعر بالحد الأدنى من المسؤولية الأخلاقية، ان يعيد النظر في حساباته القديمة البالية. واذا كان من الواجب تجنب اللجوء الى اعلان الحرب مرة اخرى، وفي منطقة اخرى من العالم، فإن على (المجتمع الدولي) وهو يقف على اعتاب احداث اصلاحات على منظمة الأمم المتحدة، ان يعمل على صياغة افكار ومؤسسات وآليات عمل تتكفلّ بردع العدوان والإستبداد والديكتاتورية وقمع الشعوب المغلوبة على امرها تحت ستار ترهات من قبيل سيادة الدولة القومية التي عفا عليها الزمن، على الدول الرافضة للحرب في العراق ان تساهم بقوة من اجل ولادة نظام دولي جديد يتمتع بالعدالة، وتحويل المنظمة الدولية من منظمة للحكومات والدول المتحدة على شعوبها، الى منظمة حقيقية لأمم الأرض، وإلاّ فإن عليها ان تتوارى وتشعر بالخجل من كل هذه الكوارث التي تحوّل العالم يومياً الى بركة دماء وحشية...