من يتطلع لساحة العمل الحزبي في العراق اليوم ينتابه العجب ، فهذا البلد الذي كان مغلقا بدرجة كاملة طيلة أكثر من أربعة عقود بعثية عجفاء تنفس بعد التاسع من نيسان / أبريل 2003 الخالد عبير الحرية ، ونسائم الإنفتاح بعد أن هوى بهمة الغيارى وتضحيات الأحرار وإرادة وعمل الأطراف الدولية الحرة ( هبل البعث الأكبر ) ، وتلاشى ( فئران العروبة البعثية المتوحشة ) في شقوق حفرهم التاريخية ، بين دخيل ومستأمن في ( بيت خالته ) ! كما كانحال - غوبلز البعث - الصحاف ، وبين الذي تلبسته روح القطط فكان يتنقل ويتخفى بين المطابخ !! كما كان حال نائب صدام ذلك المستعرب الفظ المجرم المدعو طه ياسين رمضان الجزراوي ، وبين من كان متجبرا وضربه الرحمن ضرب عزيز مقتدر فإذا به يتكأ على عصا ذليلة ومنخورة تبين مدى طغيان وإستهتار أبناء اللؤماء ... إنه جزار كردستانى والكويت المجرم علي حسن المجيد ( كيمياوي )! ، وبين من كان جبارا عنيدا وقاتلا متوحشا فأذله رب العزة والجلال حتى شاهدنا إذلاله وهوانه على نفسه وعلى الناس كما حال المجرم برزان التكريتي ، أو ذلك التافه ووزير الطرب والخجر المدعو لطيف نصيف جاسم الدليمي ! وغيرهم من بقايا ديناصورات البعث النافق الذين أخذتهم الرجفة فتفرقوا في الأرض بعد أن زرعوا الخراب في العراق ودول الجوار.
لن نتحدث عن مصارع الطغاة فتلك حكاية نتركها للتاريخ وبما ستتفضل به علينا وثائق الأيام القادمة من معلومات تكشف وتسلط الضوء على أسرار أدق الحقب السياسية المظلمة التي عاشها العراق ولا يزال العراقيون يدفعون أثمان تداعياتها حتى اللحظة !. لقد تركت فترة الهيمنة والتخريب البعثية الطويلة بصماتها على الجسد العراقي في ظل التحالفات العشائرية والمصالح الطبقية والطائفية ، والتنظيمات الأمنية المحكمة ، فالعراق لم يكن يدار ويحكم من قبل دولة مؤسسات ! بل من خلال عصابة مافيوزية ومنظمة سرية إرهابية لها باعها الطويل في عالم الجريمة السري والسفلي ، والدولة العراقية الحقيقية هي من كانت تتحرك تحت الأرض وفي الظلام لا فوقها !، لذلك نرى اليوم بجلاء البثور والتقيحات من عمليات تخريب وإغتيال وتفجير وجميعها أمور تعبر عن رفسات الإحتضار لتلك الدولة السرية التي تهشمت وأضحت من الماضي ، لقد كان نظام البعث الصدامي لا ينجز شيئا إلا من خلال المنظور الأمني ؟! وكان تأمين النفس والخوف الدائم من أي إنقلاب مفاجيء هو الهاجس الدائم للسلطة ! وأتذكر عندما كنت صغيرا خلال أيام الإنقلاب العسكري في ( تشيلي ) في أيلول / سبتمبر 1973 ومصرع الرئيس سلفادور إليندي على يد جنود الجنرال ( بينوشيت ) بأن صدام ( النائب وقتها ) قد عقد مؤتمرا صحفيا أكد فيه من أنه لن ينجح أي إنقلاب في العراق لأنه لا يوجد ( بينوشيت ) بين صفوف البعثيين ؟!! وكان النظام قد خرج قبل شهور قليلة من محاولة إنقلاب قيل أن مدير الأمن العام ناظم كزاز كان يقف ورائها ؟ ولم يكن هنالك إنقلابا حقيقيا بل كان لعبة تصفيات جسدية بين الأجنحة البعثية المتصارعة كان من نتيجتها إعدام البعض وإعتقال البعثي البارز عبد الخالق السامرائي الذي كان صدام يخشاه ثم أعدم السامرائي عام 1979 بتهمة التخطيط لما عرف بالإنقلاب السوري رغم أنه كان في زنزانة إنفرادية لا يرى فيها ضوء الشمس ؟!!!.
وبعد لعبة قيام ما يسمى ب( الجبهة الوطنية التقدمية ) في تموز / يوليو 1973 التي تم إستدراج ( الحزب الشيوعي العراقي ) لها ، ليتحالف الشيوعيون مع قتلتهم البعثيون برغبة من القيادة السوفياتية وقتها !! ووفقا لتقويمات بعض القياديين الشيوعيين العاطفية من أن ( صدام ) هو ( كاسترو العرب ) ! وينبغي التحالف معه ؟ رغم أن كاسترو ورفاقه كانوا يقاتلون في الغابات بينما صدام ورفاقه كانوا ( بلطجية البارات )! وهي فروق جوهرية لم يكتشفها الحزب الشيوعي العراقي وقتها ؟!!...
أقول بعد تلك المناورات الجبهوية خلت الساحة العراقية من أي وجود حزبي معارض في العلن سوى النشاطات السرية للأحزاب الإسلامية ، أما الأحزاب القومية والدمقراطية فقد تشتت بتشتت الضباط والقيادات التي كانت ترعاها فالناصريون والقوميون والبعثيون اليساريون حطوا رحالهم في الشام ، واللبراليون إتجهوا غربا وشمالا ! وأضحى الشعب كما يريده النظام أن يكون : - (( صار الشعب شدة ورد ... والريحة بعثية )) !! وإستمر الحال حتى حط الإخوة الأمريكان رحالهم في بلاد ألف ليلة وليلة ؟ فما هي الصورة الحزبية العراقية الآن ؟ لقد نبتت على حين غرة مجموعةهائلة من الأحزاب والتجمعات السياسية لم يسبق لها الظهور بهذه الوفرة في تاريخ العراق المعاصر ، فبعد إنقلاب تموز / يوليو 1958 ظهرت نفس الحالة الإنفتاحية والشهية المفتوحة للتنظيمات الحزبية إلا أن أحزاب ذلك الزمان كانت محدودة للغاية وتكاد تقتصر على الإتجاهات اليسارية ! أما اليوم فالوضع مختلف بالمرة فتغيير روح العصر وإرتفاع الوعي الثقافي والسياسي بالإضافة لنمو الظاهرة الطائفية والعشائرية قد أضافت للصورة أبعادا مختلفة ويمكن التأكيد على الظهور الواسع للأحزاب الدينية أو التجمعات ذات الصبغة الطائفية والتي لا تحمل أي برنامج حقيقي سوى تلك الشعارات الدينية أو اليافطات الطائفية وقد برزت هذه الظاهرة عند الطائفة الشيعية وقد لعبت إيران وأجهزتها الأمنية والإستخباراتية وفي الحرس الثوري دورا مركزيا فهذه فرصتها ، والإيرانيون خبراء للغاية في إقتناص الفرص عبر برودهم المعروف وصبرهم اللا محدود !

أحزاب ماضوية ؟!
ولعل من أبرز الظواهر الغريبة في الحياة الحزبية العراقية المستجدة هي ظهور وتبلور الأحزاب ذات الصلة والعلاقة بأحداث الماضي القريب فمثلا ظهر ما يسمى ب ( الحزب القاسمي الديمقراطي ) !! الذي يدعو للتجميد والسير على خطى قائد إنقلاب 14 تموز / يوليو 1958 اللواء عبد الكريم قاسم ؟! ويرأس هذا الحزب سكرتير قاسم السابق السيد قاسم الجنابي ؟ والذي أنقذ في اللحظة الاخيرة من الإعدام مع سيده في تلفزيون بغداد يوم 9فبراير 1963 ! ولا أدري حقيقة كيف يفكر هذا الحزب خصوصا وأن ( مهديه المنتظر ) عبد الكريم قاسم كان فاشلا سياسيا وتسبب عهده بكوارث كما خلق أزمات محلية وإقليمية فضلا عن كونه نظام متقلب مشوش الرؤى يفتقد لإستراتيجية واضحة ضعيف في هيكله العام وبسبب ضعفه المفرط تمكن البعثيون وكانوا قلة منبوذة من إسقاطه في تحالفهم مع الناصريين والمخابرات المصرية والامريكية أيضا !! ويبدو أن العواطف المفرطة هي التي أضحت معيارا لتشكيل الأحزاب والتجمعات السياسية !أما الناصريون فأمرهم أعجب وأغرب إذ أنهم لا زالوا متعلقين بقميص الراحل جمال عبد الناصر الذي رحل ومصر والعالم العربي في حالة هزيمة عسكرية ونفسية مزرية كما أن نظامه كان مثالا للنظام الإستخباري والقمعي ! فهل سيأتي مستقبل العراق من خلال أشباح الماضي من الطغاة الوطنيين أم القوميين أم الأمميين؟ وماذا لو طالب ( القاسميون ) بدم زعيمهم القتيل من ورثة ( جمال عبد الناصر ) لأنهم القتلة بحكم الواقع التاريخي المجرد للأحداث !!.
إنها معضلة التاريخ والسياسة في العراق الجديد؟ فكل شيء في العراق اليوم في حالة إسهال!

com.dawoodalbasri@hotmail