عندما تتنحى "الثقافة" بمستوياتها التعبيرية المختلفة لتلتزم جانب الظل أوالهامش في الحياة، بدل أن تحتل موقعها الطبيعي الذي يمثل الوجه المشرق في تكوين أي مجتمع على وجه الأرض؛ وعندما تنكسر القصيدة الشعرية وتتهشم كزجاج نافذة مهملة في بيت عراقي تهزه القنابل والتفجيرات المجهولة، وعندما تلفظ القصة القصيرة والرواية أنفاسها قبل كتابتها، وعندما لا تجد اللوحة جدار من الزمن ومن الوطن تُعلق عليه، وعندما تتحول كراسي مسرح صغير إلى مقاعد محطمة، وفي أحسن الأحوال مقاعد للسياسيين الجدد ممن يركبون الموجات ويقفزون على أدوار الممثلين الحقيقيين لصوت المعاناة بجهلٍ ومن دون علوم، وعندما تُقفل أبواب السينمات بوجه الجمهور، وتتحول أندية الرياضة إلى مقار حزبية لأحزاب تفرخ أسرع من صيصان الدجاج في الحاضنات الاصطناعية، وتُقفل المقاهي والمنتديات الأدبية والبارات الجميلة وتُلجم أفواه المغنين، ويُطلق العنان فقط للصراخ والزعيق باسم الدين كل على هواه وتتحول مؤسسات المجتمع ومرافق الدولة إلى مراتع كاذبة لخداع النفس وخداع الله، عندما يحصل كل ذلك يكون زمن الخرافات قد حلَّ علينا بالتأكيد.

ولماذا زمن الخرافات؟ لنقل زمن الوقائع المريرة. لنقل زمن الجهلة. لنقل زمن طاعون الطغاة الصغار والكبار. لنقل زمن الشعوب المقهورة، التي لا تجد لقمة عيشها إلا في المزابل وبيوت الصفيح. لنقل زمن الإرهاب وزمن تجارة الخطف وزمن السرقات الكبرى، زمن الحقيقية المرعبة لا أكثر ولا أقل. العراقيون يعرفون جيدا من هو "أبو طبر" وعصابته. وبما أننا نكتب على موقعٍ عربي يقرأه الكثير من الأخوة والأخوات العرب، فلا بد من أننا مطالبون ببعض التوضيح السريع حول العصابة العراقية الشهيرة التي عُرفت بعصابة "أبو طبر".

"أبو طبر" هو اختراع بعثي عراقي، نقصد "صدامي" بطبيعة الحال، عذرا للمحبين، إذ تلك هي لغة الوقائع. أخترع حزب البعث العربي الاشتراكي الذي كان يحكم العراق أواسط السبعينيات عصابة أطلقت عليها أجهزة الأعلام الرسمية حينذاك لقب "عصابة أبو طبر". هذه العصابة روعت المجتمع العراقي من الشمال إلى الجنوب. الأمر كان سهلاً للغاية، ولا يتطلب سوى نفر من الأفراد المجرمين يدخل عنوة، وبتفويض سري من أجهزة أمن الدولة، إلى أي بيت آمن في أي حي من أحياء العاصمة أو من أحياء البصرة أو من أحياء الموصل، أو أية مدينة أخرى من مدن العراق الوادعة الأمينة وتعمل بأهل الدار ذبحا وتقتيلا بأداة متخلفة وبشعة هي "الطبر". يطلق العراقيون كلمة "الطبر" على الفأس أو الساطور مما يُقطع به الخشب أو عظام الحيوان بعد الذبح. جثم المجتمع العراقي في بيته فترة استغرقت أشهرا عديدة خوفا من عصابة "أبو طبر" التي أشيع وقتها أنها تمتلك أطرافا عديدة في جميع مدن وقصبات العراق. الأمر الذي لم يكن في الحسبان أن الأسر العراقية في الحارات والبيوتات أخذت بالتضامن التدريجي لحماية بعضها البعض في حالة طبيعية من التكافل الاجتماعي التي تفرضه الظروف والمطبات الصعبة. وراح الجيران يقضون الليالي مع بعضهم في تشكيلات وهمية من الحراسات كي يكونوا قوة أكبر لا تستطيع العصابة المذكورة القضاء عليهم كما تفعل حينما يكونوا فرادى وغافلين أو تأخذهم سنّة من النوم. في مثل هذا الوضع من الرعب العام الذي اجتاح العراق من الجنوب إلى الشمال ومن الشرق إلى الغرب يبدو من نافل القول أن الحديث عن "عصابة أبو طبر" غدا هو الحديث العام الأول والوحيد بين العراقيين قاطبة في كل مكان، كما هو الإرهاب وفقدان الأمن هذه الأيام الكالحة من تاريخ العراق المعاصر. فاختفى الحديث عن السياسة وعن الدين وعن القيم والأخلاق والمسرح والسينما والقصة القصيرة والرواية والقصائد الشعرية، وصار حديث الشارع العراقي الرئيسي هو "أبو طبر". فاليوم هجمت العصابة على بيت الوزير الفلاني وقطعته هو وأفراد أسرته أربا أربا، والبارحة ذبحت العصابة أسرة المسؤول العلاني وقطعت أطراف زوجته وأطفاله قطعة قطعة بدماء باردة وتخطيط محكم. ودارت الحال على التجار من أصحاب الأموال والميسورين، وبعدها أخذت هذه العمليات البشعة التي يحرص التلفزيون العام على بث صور لها مشيرا إلى مستوى بشاعتها الخطير فعلا، أخذت تطول الناس الأبرياء والعاديين من عامة المجتمع. استشرت هذه الحالة حتى بلغت مستوى الذروة من الترويع بحيث أنها دخلت في ذاكرة المجتمع العراقي في زمن حكم البعث العربي الاشتراكي الميمون الذي كان يحكم البلاد منذ بضعة أعوام.

ماذا يريد الشعب العراقي في مثل هذه الحال الشاذة؟ إنه يبحث عن منقذٍ. وبكل بساطة كان المنقذ هو الدولة ذاتها. هو نظام الحكم نفسه الذي أخترع هذه الأكذوبة بتخطيط من مخابرات دول انقرضت في التاريخ والجغرافيا في العصر الحديث، ولهذا حديث آخر. وبعد أن أزهقت أرواح الكثير من الأبرياء بابشع الطرق وأكثرها همجية ظهر "الحزب ـ الدولة ـ المنقذ" ليعرض على شاشة التلفزيون الرسمية نبا اعتقال زمرة "أبو طبر" المخيفة، ولم يكونوا سوى بعض الأفراد المؤلفين من أسرة واحدة، أذكر فيهم امرأتين ورجل عادي الملامح "أبوطبر" وأدلوا باعترافات مقتضبة على أساس أنهم أفراد تلك العصابة الخطيرة. عندها تنفس المجتمع الصعداء وانخرط الجميع في حياتهم الطبيعية من جديد، ولم يشغلوا أنفسهم بالمزيد من الأسئلة لأن "اللغز العظيم" انجلى، وتم قطع رأس الأفعى. بالطبع كان ذلك لا يخفى على نفر من أفراد المجتمع العراقي ممن تمرس بالسياسة ويفهم جيدا أساليب البعث بالتلاعب بالشارع العراقي.

ونعود إلى ظاهرة "الزرقاوي" التي تجتاح العراق حاليا وتشابهها الكبير مع ظاهرة "أبو طبر" الآنفة الذكر، حيث الجوهر هو ذاته والأهداف تكاد تكون متطابقة. كيف؟

1.الهدف الأول من خلق حالة عامة من فقدان الأمن الاجتماعي هو زعزعة ثقة المجتمع الطبيعية بنفسه قدر الإمكان.
2.إثارة الرعب في نفوس وتفكير أكبر عدد من المواطنين والقطاعات الاجتماعية.
3.إدارة الرعب مركزيا من قبل وسائل الإعلام التابعة للدولة أو الجهات الرسمية، أو القنوات الحرة إذا تطلب الأمر.
4.جعل المواطن العادي مشغولاً بقضية واحدة محصورة في تهديد حياته بخطر الموت المجاني المحدق به.
5.جعل كل مواطن في مرتبة "المشكوك بأمره".. أي أنه ربما يكون هو "المجرم" الذي تطارده السلطات الرسمية بهدف أضعافه معنويا وفعليا.
6.تصدير الخطر "الداخلي" ليكون خارجيا. واستيراد الخطر "الخارجي" ليكون داخليا.
7.فرض حالة الطوارئ في البلاد، وما يلحقها من أوقات منعٍ للتجول فيما يخص المواطنين بحجة الحفاظ على حياتهم. ووضع البلد في حالة حرب مع عدوٍ مجهول، بينما تفعل السلطات الحاكمة كل ما تريده بعيدا عن غضب الجماهير الحقيقي.
8. وأخيرا إعلان النصر المبين للدولة ونظام الحكم في خبر تبثه وسائل الإعلام الرسمية باقتضاب أو في حالة من التهريج، لا يختلف الأمر كثيرا في كلا الحالتين.

تلك هي أعمال مدروسة من قبل أجهزة المخابرات لوضع ملايين من الناس في حالة متشابهة واحدة. ومن ثم تسهيل أمر قيادتهم وفق الشروط المفروضة نفسيا نحو الأهداف المُضمرة. الإيهام بأن الشبح المدعو أبو مصعب الزرقاوي، والذي أخجل شديد الخجل وأنا أكتب حروف هذا الاسم مُكرها كونه يقع ضمن السياق، هو أكثر أهمية من شبح الشبح الآخر المدعو صدام حسين، يكون واهما جدا. وإذا حققت قوات التحالف نصرها المبين في إلقاء القبض على صدام حسين في العراق، وهي عاجزة عن تحديد موقع إدارة عمليات الزرقاوي يصبح الأمر أشبه بالنكتة السمجة. أسماء من قبيل أسامة بن لادن وأيمن الظواهري وأبو مصعب الزرقاوي تحتاجها أجهزة المخابرات الأمريكية كما يحتاج الملاك للشيطان. الذي يدفع الثمن الباهظ هو عوام الناس والشعوب المغلوبة على أمرها كما الشعب العراقي اليوم. لا يقتنع العراقي على الإطلاق بعدم إمكانية سيطرة أمريكيا السياسية والعسكرية على ضبط مجرد مسألة بسيطة تتلخص بالسيطرة على حدود بلد "محتل". بلد تحتله قواتها الرهيبة المتطورة عسكريا بينما تتعرض فيه هذه القوات إلى أقسى الضربات الموجعة على يد نفر قادم من خارج الحدود!
لنعفي الحكومة العراقية المؤقتة من هذه المهمة الصعبة. الحكومة العراقية الحالية حالة هلامية تشابه عدم الوجود. الوجود الفاعل والحقيقي في العراق هو البيت البيض. وهذا ليس كلاما مجازيا، وإنما هو كلام يقع في صلب القانون الدولي طالما بقي العراق تحت الاحتلال الرسمي. لم تُحسم أمور السيادة العراقية وتسليم السلطات الحقيقية للعراقيين إلى حين. وفي هذا الوقت بالذات تحتاج القوات الأمريكية إلى مبررات للبقاء في العراق طالما بقيت الأمور كما هي عليه الآن. الأمر الذي جعل رئيساً عربيا كالرئيس المصري حسني مبارك يصرح بضرورة مكوث القوات الأمريكية في العراق لمجرد أن انسحابها يعني بالنسبة له "حرب أهلية عراقية".لستُ من المطالبين بالانسحاب الفوري للقوات الأمريكية من العراق، ليس بسبب الحرب الأهلية الوشيكة بين السنة والشيعة والأكراد، ولكن من قبل التشبث بإرساء نظام ديموقراطي في العراق وإتاحة الفرصة الجدية للعراقيين لممارسة دورهم المفقود في الحياة السياسية طيلة عشرات السنين.

سيبقى الشعب العراقي يدين بالشكر والامتنان للشعب الأمريكي ولحكومته لما له من فضل على تحريره من نظام قمعي متخلف وجاهل تجاوزه التاريخ، وسيكون ممتنا أكثر لو ترك له تقرير مصير الزرقاوي وصدام حسين وغيرهم من القتلة السفاحين. العراقيون أولى بتنفيذ هذه المهمات التي تمت بالصميم إلى تكوينهم السياسي والاجتماعي الخاص وإرثهم في التاريخ، ويجب أن يتعلموا دروس التاريخ من نبو خذ نصر وحمورابي مرورا بمقتل الإمامين علي بن أبي طالب ومن بعده أبنه الحسين في واقعة كربلاء، إلى تسلط الحجاج بن يوسف الثقفي على رقاب العراقيين، وزهو أبي الطيب المتنبي وبشار بن برد ورحابة أبي الحسن البصري وعذاب أحمد بن الحسين بن منصور الحلاج. تاريخ ضخم فيه فائدة ودروس وعبر لا يفهمها الأمريكان جيدا، ليس لعلة فيهم، ولكن لصعوبة في قراءة كل هذا التاريخ الطويل والمعقد واستخلاص العبر والدروس منه كما يجب.