موت افريقي وجدل حول التعذيب:

مات في الثامن من هذا الشهر في مدينة بريمن الألمانية مواطن أفريقي من سيراليون اتهمته الشرطة الألمانية بترويج المخدرات فحقنته بمواد مقيّئة أفرغت ما في جوفه فمات اختناقاً، كما صرح مسئول في المستشفى الذي نقل اليه. وتتبع الشرطة عادة هذه الوسيلة للحصول على الدلائل الجرمية من المشتبه بافراغ معدته للحصول على اكياس المخدرات الصغيرة التي تعتقد أن المتهم قد ابتلعها. وهذه هي الواقعة الثانية بعد موت الضحية الاولى في مدينة هامبورغ. لقد أثار الموت المأساوي للمواطن الأفريقي عاصفة من الاحتجاجات ومن الاستنكار، كما أثار جدلاً واسعاً بين المعنيين بالقانون وبحقوق الانسان. وصرح ممثلون في الاحزاب عن قناعاتهم بما يخالف استعمال المواد المقيّئة فيما دافع عنه آخرون. إلاً أن الجدل الدائر تركز في جوهره على مشروعية الوسيلة وما إذا كانت تتطابق مع استعمال القسوة وتندرج في قائمة التعذيب الذي يمنعه القانون، وما إذا كانت تهدر كرامة الانسان الذي نص عليه دستور البلاد في البند الاول منه.

المحكمة الاوربية

وفي سياق الجدل ستقرر المحكمة الاوربية لحقوق الانسان في ستراسبورغ ما إذا كان استعمال المواد المقيئة من قبل السلطات الحكومية الالمانية مسموح به. وستعقد المحكمة المتكونة من 17 قاضياً في ديسمبر ـ هذا الشهر ـ بناء على الدعوة التي رفعها المحامي اولرش بوش عن مشروعية حقن موكله، من سيراليون، بسائل الـ " أبيكاكوانا " الذي أدى
إلى وفاته. وتذهب الشكوى الى المحكمة المذكورة لفشل كافة الوسائل في المانيا للحيلولة دون استعمال هذه الوسيلة الخطرة ضد المشتبه بهم كمروجي مخدرات.
كما احتج في بريمن ـ مسرح الجريمة ـ 32 بروفيسوراً من جامعتها، أذاعوا بياناً يطلبون فيه ايقاف هذه الوسيلة والالتزام الصارم بالقوانين.

أما في برلين العاصمة فقد طلبت كورنيلي زونتاغ ـ فولغاست رئيسة لجنة الشئون الداخلية في البرلمان التأكد ما إذا يمكن الاستمرار أساساً في مثل هذا الاجراء وصلته بالتعذيب. وتعتقد كورنيلي بأن المسألة حتى الآن مختلف عليها قانوناً. أما بيترا باو من حزب الديمقراطي الاشتراكي فترى بأن المسألة قريبة من التعذيب. وفي بريمن طلبت لجنة المحامين إنهاء استخدام الشرطة للمواد المقيئة لأنها لا تضمن السيطرة على حياة المتهم كما دللت التجربة. وإلى ذلك فإن موقف حزب الخضر والحزب الليبرالي هو أن حادثة بريمن بالاحتكام إلى توصيف التعذيب لا ينطبق على وفاة المتهم الافريقي ولا حاجة للخصام. و مع ذلك أعتبر الاخصائيون في الحزبين استخدام المواد المقيئة لا يمكن تبريره في كل الاحوال، بينما توجد وسائل أقل قسرية. وطالبوا مناقشة الموضوع.

وعلى خلاف ذلك فان فولفغانغ بوشباخ رئيس كتلة الاتحاد المسيحي حذر من اعتبار المناسبة التراجيدية في بريمن ذريعة لمنع استخدام المواد المقيئة وقال : يريدون إن يكون البديل هو دعوة الشرطة إلى نبش براز المتهمين بأصابعها. ويدعي خبراء و مؤيدو استعمال المواد المقيئة في وزارة الداخلية بأن المقارنة بينه وبين التعذيب وهم وهراء، بينما الوسيلة شرعية والعنف المستخدم من قبل الشرطة مسموح به وإلاّ فإنها غير قادرة على أداء عملها. وفي هذا السياق يقول بوش باخ : إن استعمال القوة لا يمكن ادراجه ومقارنته بالتعذيب.

وفي تغطية للحدث المأساوي كتب كريستيان رات وكوسيما شمت تحت عنوان " الاجبار على التقيؤ يشك أن يكون تعذيباً " نقلت التغطية ندوة لنشطاء حقوق الانسان الذين تحدثوا عن " الاجبار القسري للمتهمين بتناول المواد المقيئة على انه تعذيب ". وقال التحقيق : يجب على السيناتر توماس روفيكامب في لجنة الداخلية في بريمن ( من الاتحاد المسيحي ) أن يوضح أمام المواطنين : من هو المسئول عن المعلومات الخاطئة التي احيطت بموت المواطن الافريقي. لقد أعلن السيناتور في 4 /1 مباشرة من خلال التلفزيون بأن المواطن الافريقي هو المسئول عن موته من جراء عضه على كيس يحتوي على كمية من الكوكايين تسربت إلى معدته. لم تكن هذه هي الحقيقة بينما كان المشتبه به يرقد في المستشفى فاقدا الوعي منذ 27 / 12 إثر أجباره بالقوة وحقkiP حقنه بالقوة بالمواد المقيئة. وقد صرح طبيب الطوارئ في اليوم نفسه بأن الفحوصات الاولية قد اظهرت أختناقه.

مواد مقيئّة

في تعليق كتبه كريستيان رات في صحيفة " تاغتسايتونغ " قال فيها : ساعتان فقط تبقى في المعدة تلك الاكياس الصغيرة من المخدرات لمن يبتلعها، ثمَّ تذهب إلى الامعاء. لذلك فإن اجبار حقن المواد المقيِّئة ضد المشتبه به من قبل الشرطة ينبغي أن يتم بسرعة. ولاجل ان لا يمضي الوقت المحدد تجري الشرطة العملية على عجل. بتعبير آخر ليس لدى الشرطة الوقت الكافي للقيام بالاستفسار والتحقيق المعقول مع المشتبه به، فهي تسارع بحقنه بالمواد المقيئة مباشرة لكي يقذف ما في جوفه. وبالطبع يقود هذا الامر إلى خطورة غير متوقعة على حياة المتهم. لقد قاد استعمال هذه الوسيلة في التحقيق إلى مقتل اثنين من المتهمين في هامبورغ وفي بريمن ليدلل على خطورة حقن المتهمين الذي قد يؤدي إلى الموت. لهذا ينبغي وقف استعمال المواد المقيئة ضد المشتبه بهم. إنها عملية خطرة، وتنطوي على هدر لكرامة الانسان والحط من شأنه، وعليه فإنها غير مبررة اطلاقاً. وعندما تسجل بريمن ضحية ثانية فقدت حياتها بهذه الوسيلة فإن الحديث عن حوادث مؤسفة وحالات فردية لم يعد منطقيا وصحيحاً، بل أن العملية برمتها تصبح غير ملائمة للاستخدام.

إن اتهام البوليس، في شمال ألمانيا، باستعراض القوة والسلطة لإرضاء المواطنين هو اتهام واقعي. وحين تعلن الشرطة بأنها تجبر المتهمين ببيع المخدرات على" قذف ما في أمعائهم " تؤكد الاتهام بأن استعمال المواد المقيئة يتحوّل إلى وسيلة وليس إلى غاية للحصول على أدلة اتهام ضد المشتبه بهم. وهو مشهد أقرب إلى أفلام هوليود عندما يتحول رجل التحري إلى قاضي يفرض العقوبة. والحقيقة أن هذا الأمر لا علاقة له مطلقاً بمفهوم الكرامة وضمانة الحقوق في دولة القانون. أما عندما يفكر المرء بأن استخدام هذه الوسيلة يجري عموماً ضد الأفارقة الملونين فيجدر القول بأن التمييز العنصري يلعب هنا دوراً في المسألة. عندما قال نائب رئيس الشرطة فولفغانغ ديشنر في سياق عملية خطف طفل تكللت بنجاح الشرطة في العثور عليه : الغاية تبرر الوسيلة، فإن الامر هو الآخر ضد القانون. أما بالنسبة إلى استعمال المواد المقيئة فيبدو واضحاً بأن الوسيلة هي الغاية المرجوة. والواضح أن الشرطة ومن يساندها تهمل على نحو مرعب احترام المشتبه بهم والتغافل عن حقوقهم المدنية والقانونية.

إن استعمال المواد المقيئة موثقة في حالات كثيرة لدى " آمنيستي انترناسيونال " وفيها العديد من الحالات التي تسميها حالات عنف الشرطة المستخدم ضد المشتبه بهم. ويقول المعلق مستذكراً ما ورد في دستور ألمانيا الاتحادية من أن كرامة الانسان مقدسة ولا تمس : " هذا المبدأ ـ كرامة الانسان ـ حق لكل شخص، لا يستثنى منه شخص ذو سلوك حسن أو ذو سلوك سيء.