كنت قد كتبت مقالاً بعنوان "فيصل القاسم من وإلى أين"، ورد فيه زعم بأن د. فيصل يؤمن في دخيلة نفسه بأن الليبرالية هي الحل، لكنني لم أذهب إلى حد نعته " بالليبرالي" (لا سمح الله)، وعندما قام الصديق صلاح عيسى، رئيس تحرير جريدة "القاهرة" الأسبوعية، في معرض إخراجه الصحفي (الرائع دائماً) للمقال، بتصديره بمانشيت: فيصل القاسم الليبرالي الذي يناصر الغوغاء، وجدت أن هذا المانشيت يدعي علي ما لم أقله، ويطلق على د. فيصل لقباً لا يستحقه (مدحاً أو قدحاً)، لكنني فوجئت في بريدي الإلكتروني بمقال من د. فيصل بعنوان: أنسنة الإعلام العربي، ولا بد أنه قد قام بنشره أيضاً، ولا بد أن إخواننا الأشاوس أصدقاء د. فيصل القدامى (على ما آمل) حين يقرأون هذا المقال، سيضربون كفاً بكف، ويقولون في نبرة حنجورية، كما في المسلسلات والأفلام العربية: لقد صبأ الرجل عن ميراث آبائه وأجداده (يا للهول)!!
انظروا ما يقول فيصل القاسم، سافراً عن وجه ليبرالي، كان مستتراً خلف مهاترات وهجائيات "الاتجاه المعاكس": " لا شك أن هناك عداءً تاريخياً بين الفكر العربي والإسلامي التقليدي من جهة والمذهب الفردي من جهة أخرى. وأقصد بذلك "الفردية" التي تقوم على تقديس الفرد بوصفه كائناً مفكراً وصاحب إرادة وقيمة كبرى بما يترتب على ذلك من إقرار بخاصتين متلازمتين: الاستقلالية والوكالة الحرة."
ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل تمادى د. فيصل – بلا خجل ولا حياء – في غيِّه الليبرالي قائلاً: "فإن الحقل الإعلامي يكاد يكون أكثر الحقول تأثراً بالنظرة الشمولية لأنظمة الحكم في بلداننا المنزوعة من الإنسانية أو الفردية بمفهومها الليبرالي. لهذا السبب تحديداً نرى أن وسائل الإعلام العربية لم تهتم منذ نشأتها إلا بالعموميات والقضايا الكبرى المزعومة متجاهلة كل ما يهم الفرد العربي كإنسان قائم بذاته له استقلاليته وكينونته الخاصة ومتطلباته واهتماماته واحتياجاته الفردية."
ويتصدى فيصل القاسم كالأسد الهصور مدافعاً عن الليبراليين قائلاً:
" علمونا في بلداننا بأن لا نهتم بالشؤون التي تهم الإنسان العادي، فهذه في مفهومنا قضايا ثانوية سخيفة لا تستحق الذكر والاهتمام، وكل من يهتم بها فهو ملعون مطعون وعميل للإمبريالية والاستعمار والصهيونية وخائن للثوابت الوطنية والقومية وجدير بالفصل من الحزب القومي."
هكذا يا سادتي عمد فيصل القاسم - في عهده الليبرالي الجديد – مباشرة إلى الأساس النظري لليبرالية، وهو احترام (تقديس) إنسانية الإنسان، والاعتراف بكيانه الفردي، وبأنه هو الأساس ومحط الاهتمام، وليس القضايا الكلية المزعومة والمفروضة، والتي يتم من خلالها سحق الإنسان، بل وتجاهل إنسانيته، ليصبح مجرد رقم في حشد أو قطيع، ويشخص مقال د. فيصل الداء قائلاً:
" وقد استغل الحاكم عبر العصور هذا الشعور القطيعي لدى الإنسان العربي لبسط حكمه الشمولي الذي قضى على أي أمل في الاستقلال الفردي أو ظهور مجتمعات ديموقراطية ترتكز على الإرادة الحرة لمواطنيها."
ما أروع أن يقرر الإعلامي الشهير:
" وقد ساعد وسائل الإعلام العربية على تكريس ثقافة إعلامية عمومية، وجود بعض القضايا الكبرى كقضية فلسطين وبعض قضايا التحرر الأخرى التي استغلتها الأنظمة العربية الحاكمة على مدى أكثر من نصف قرن لتحويل أنظار الشعوب عن قضاياها الداخلية الملحة كالتنمية البشرية والإنسانية بما تنطوي عليه من تربية وتعليم وصحة ورعاية اجتماعية ورفاه وإعلام وغيرها من الأمور الحياتية."
يا ألف أهلاً ومرحباً بصديقي المفكر والإعلامي الموهوب، وهو يختتم مقاله قائلاً: " لقد آن الأوان لأن نؤنسن الإعلام العربي بحيث يصبح أكثر اهتماماً بالإنسان منه بالسياسات والقضايا العامة. لقد حان الوقت لأن نبدأ من القاعدة إلى القمة وليس العكس وهو ما يفعله الإعلام العربي منذ انطلاقته. علينا أن نصحح مسار إعلامنا بقلبه رأساً على عقب. وصدقوني عندما نعالج همومنا ومشاكلنا الصغرى فإن "قضايانا الكبرى" ستنحل بشكل أوتوماتيكي، فالإنسان المهمّش والمهمل لا يستطيع أن يتصدى للشؤون العظمى ما لم يكن قد تخلص من همومه الصغرى التي رسمها (مثلث ماسلو) الشهير. فهل يصبح إعلامنا في خدمة الإنسان؟ ألسنا بحاجة إلى أنسنة الإعلام العربي؟ أم علينا أولاً أن نؤنسن أنظمتنا السياسية منزوعة الإنسانية من خلال دمقرطتها، والباقي يأتي تباعاً؟ "
إن ما عرضه علينا د. فيصل هو القاعدة الليبرالية التي نأمل أن تتسع دائرة الإجماع عليها في شرقنا الكبير، وما خلا ذلك من تفصيلات، أو سياسات ورؤى تطبيقية، هي من الأمور القابلة للاختلاف، بل ويستحب فيها تنوع الرؤى، إثراء للفكر والتجربة، وتصحيحاً لأخطاء أو تجاوزات الممارسة العملية.
إلى هنا ونقول لصديقنا د. فيصل القاسم: مرحباً بك في زمرة المهتمين والمعنيين بإنسانية الإنسان، وبقضايا المواطن الحقيقية.
مرحباً بك في زمرة المطالبين بتصحيح مسار الفكر السائد في المنطقة، وزمرة المساهمين في تعديل اتجاه الإعلام، ليكون في خدمة الإنسان، وليس أداة في يد قاهريه ومستعبديه، إعلام يستكشف آفاقاً جديدة للإنسانية، وليس إعلاماً متمترساً في كهوف التخلف الأزلية.
مرحباً بك يا أخي فيصل في تيار الليبراليين الجدد، ومرحباً بمقالاتك المستقبلية في المواقع التي تتسع صدورها لرؤاهم، مرحباً بك كإضافة نوعية وليست كمية، فنحن لا تجمعنا أيديولوجية أو نظرية جامدة موحدة، نحن مجرد تيار من مفكرين يعشقون الحرية، ويؤمنون بإنسانية الإنسان، هذه هي القاعدة، وإن شئت الشرط الوحيد لتيار الليبرالية الجديدة، ومن هنا ننطلق أفراداً أحراراً، يسهم كل منا وفق رؤاه وقناعاته الخاصة، في استكشاف عوالم جديدة، تحقق ما نصبو إلية من حرية، وتحقيق كامل لفردية وإنسانية الإنسان.
يقولون "أول الغيث قطر"، لكن أول الغيث الليبرالي شلال هو مقدم "الاتجاه المعاكس الشهير".
لا أكتمكم أنني بعدما كتبت السطور السابقة أضع يدي على قلبي تخوفاً وتحسباً، فالعرب متهمون بالانفصام بين الأقوال والأفعال، وأنا أخشى الآن أن يخذلني أخي فيصل، فلا يترجم أقواله إلى تغييرات جوهرية في برنامجه الشهير، ويظل الحال على ما هو عليه!!
هل تتوقعون معي أن يقدم د. فيصل على إعلان عمالته للحضارة وللإنسانية، وخيانته لميراث الكراهية والدموية، وللتخلف العروبي المقيم، بأن يوقع على بيان الليبراليين العرب، الموجه لمجلس الأمن لمحاكمة منظري الإرهاب؟!!
أرجو ألا أكون واهماً إذا زعمت أن الليبرالية ليست مجرد حلم لمجموعة من المثقفين المتأثرين بالفكر الغربي، بل هي تيار يسري تحت السطح الشرقي الذي يبدو ساكناً، بل ويوشك أن يقلب الصورة التقليدية، لتزحف الجماهير ساعية لحياة أفضل، حياة جديرة بأن تعاش.

[email protected]