أقصد بالشاهد التاريخي النص المنقول من المصادر التاريخية المعروفة مثل الطبري،والمسعودي ،واليعقوبي وابن الأثير، وما إلى هناك من مصادر بتاريخية يعود إليها الباحث التاريخي لمعالجة موضوع تاريخي معين، كأن تكون ثورة المختار، أو الحالة الاجتماعية في القرن الرابع الهجري، أو ثورة الحسين، أو أثر الترجمة في تطور علم الكلام ، وفي الوقت ذاته النص المنقول من مصادر كتب الرجال، والتراجم، والسير التاريخية، مثل طبقات بن سعد، وتهذيب التهذيب، وسير أعلام النبلاء، وغيرها من المصادر التي أغنت المكتبة التاريخية،وتحولت إلى معين ثر للتوغل في عمق تاريخنا وتفاصيله المتشعبة.
كثيرا ما نطالع بحوثا تاريخية مشحونه بالنصوص المنقولة من هذه الأسفار الكبيرة، وذلك لغرض الإثبات أو لغرض التفنيد أو الوصف والإخبار. وفي الحقيقة يصطدم القاري بصدمة مزعجة لما يكتشف إلى جانب هذه النصوص المؤيِّدة أو المفنِّدة نصوص أخرى مغايرة بالدلالة، بل قد تكون معاكسة لتلك النصوص المستشهد بها، وربما تشكل مادة بحث مضاد في تصوراته وأحكامه، ومن هنا لا نستغرب هذا التناقض والتضارب والتضاد في الأحكام والاستنتاجات من باحث لآخر، في موضوع واحد وقضية واحدة وموقف واحد. قد يعود ذلك بطبيعة الحال إلى المكونات الخلفية للمتعاطي مع الموضوع، أو قد يعود ذلك إلى اختلاف الذوق الفني في كيفية قراءة النصوص، ولكن لا شك في أن من الأسباب المهمة هنا هي صراحة النصوص بالاختلاف والتضاد في المضمون والمحتوى.
فليس الاختلاف هنا في الاستنتاج يرجع إلى خلفية الكاتب أو المتعاطي وحسب، بل هي مشكلة النصوص بحد ذاتها أيضا، ومن هنا ينتقي المتعاطي مع التاريخ النص الذي ينسجم مع ذوقه ومكوناته الروحية والثقافية، بل قد ينتقي النص على ضوء حركة التاريخ التي يعيش في كنفها ويتفاعل مع أحداثها ومجرياتها، فإذا كانت حتى النظرية العملية الفيزيائية هي نتاج تجارب في سياق ثقافي اجتماعي فني، فكيف بالتعاطي مع الحدث التاريخي الذي يتمتع بمررنة هائلة في سياق تفاعله مع الحياة، وتداخله مع قبليات كثيرة مختمرة في أعماق الشعور وأعماق الذات ؟
الشاهد التاريخي إذن مشكلة بحد ذاته، وذلك لتعدد مصادره، واختلاف لغته، وتباين مضمونه، و تردده بين الإجمال والتفصيل، فضلا عن وجود مشاكل داخل كل مقترب من هذه المقتربات، فتعدد المصادر يتصل بمشاكل كثيرة، منها قدم المصدر، ومنها صحة انتسابه لصاحبه، ومنها صحة النسخة التي ينقل منها الباحث، وهكذا، ولغة النص هي الأخرى مشكلة بحد ذاتها، فهناك النص الغامض، وهناك النص الواضح، وهناك النص المحير في دلالته، وهناك النص الذي يغمز من بعيد، والنص الذي يخلط بين الجد والهزل، والنص الذي يحرص على إرضاء القاري أو إرضاء السلطة، وبالتالي فإن الاستشهاد بالنص التاريخي مشكلة كبيرة جدا، ومن هنا نكتشف بسهولة مدى سطحية بعض الكتاب الذين يتورطون في بحوث تاريخية، حيث يسطرون النصوص الكثيرة، المنقولة من هنا وهناك، يعتقدون أنهم بذلك حققوا إنجازاً تاريخيا كبيرا، في حين هم يسيئون إلى التاريخ والعلم، وقد تابعت بعض القراءات التاريخية المتعلقة بالسيرة النبوية، وقد كانت كارثة علمية، فقد سطر هؤلاء نصوص من هنا وهناك بدون تحقيق سندي، ولا تحقيق مصدري، ولا قراءة تتعقب الحدث في سياق النص وظروف كتابته وظروف نقله.
كان المؤرخ يهرع إلى الطبري واليعقوبي وغيره من المصادر التاريخية وينقل ما يحلو له من نصوص، ويخرج كتابا عنوانه مثلا ى( تاريخ الأمم الإسلامية / العصر الأموي )، وهو مجرد تنظيم لنصوص لا أكثر ولا اقل، وبتطور أساليب البحث وتطور مفهوم التاريخ، تجنب المؤرخون وكتاب التاريخ مثل هذه الطريقة الساذجة في التعامل مع التاريخ، وكانت البداية هي نقد السند، أي التعامل مع النص من خلال السند، باعتبار السند هو الحامل لمسؤولية النقل هنا، ولم يكتف المؤرخون الجادون بذلك وحسب، بل راحت مشارطهم تشرح ذات المؤرخ الكبير، أي تشرح الطبري بالذات، سواء على صعيد سيرته، أو مذهبه، أو مدى حفظه، أو مدى تأثره بالعوامل الذاتية وغيرها، ولم ينته الأمر، بل هناك القراءة الجديدة للنص التاريخي التي تتعدى الكلمات والسطور لتتوغل إلى أعماق المقصود، قراءة النص في سياق كم هائل من المقتربات الثقافية والدينية والفنية، فإن النص ليس قطعة جامدة بل هو محمَّل بذخيرة سرية هائلة يجب تفكيكها بمهارة ودقة.
لم يعد المؤرخون وكاتبو التاريخ الجادون يؤمنون أو يطمأنون حتى إلى تقييمات الرجاليين برواة الخبر، بل هناك عملية تحليل وتفكيك للكل المعلومات والتقييمات التي أطلقها علماء الرجال، فلم يعد توثيق الطوسي مثلا لأبي مخنف كافيا بأخذ روايته في موضوع الطف، ولم يعد تكذيب ابن حجر لأبي مخنف كاف في ترك روايته، ولم يعد شتم الذهبي للمختار دليلا كافيا في تحليل شخصية المختار، ولم يعد قول أبن حجر فوق النقد والقراءة، ولم يعد خبر الطبري أهم من خبر المسعودي، لم يعد يكفي الإسناد حتى وإن كان ذلك في سفر الطبري، فإن النص التاريخي هو حصيلة ثقافة ضخمة، حصيلة قوى خفية يجب الولوج إلى صلبها، ودهاليزها، ومن هنا لا نستغرب أن تكون رواية الوحي في لحظته الأولى التي ترويها عائشة هي رواية ضعيفة جدا، فإن تنتهي إلى رواية واحد، وهناك حرص زبيري عليها، الأمر الذي يثير شكوكا حولها.
حقا هناك عبث تاريخي، وكيف لا يكون هناك عبث وهناك تعامل حرفي ساذج مع المصادر ؟ وهناك قراءة سطحية للنصوص ؟ اختيار مقصود على ضوء نية مسبقة ؟ة
هل نتعجب إذا قلنا أن قصة العنكبوت مثلا مكذوبة ؟
لقد تطور البحث التاريخي ولم يعد مجرد استعراض للنصوص، فتلك كارثة كانت قد سببت مشاكل إنسانية كبيرة، وليس سرا أن القول بان المسلمين حرقوا مكتبة الاسكندرية تخضع اليوم لقراءات تاريخية جدية، انتهت عند بعض الغربيين إلى إنكارها من الأساس، وهل نستغرب عندما تطل دراسات تاريخية جديدة تبري ( بيرون ) من جريمة حرق روما ؟ وهل نستغرب إذا قرأنا بأن هناك دعوات جديدة لإعادة كتابة التاريخ ؟
[email protected]