على ما أتذكر فقد كان يوم الاثنين (14 تموز 1958).كان يوماً قائظاً ساخناً، صار مغبراً أكثر بفعل دبيب أقدام الناس المتزاحمين المتراكضين في الشوارع المتربة.كنت أحدهم، صبياً شاحباً معدماً، أنهيت الابتدائية منتظراً المتوسطة بآمال كبيرة، وقد حلقت بي هذه الهزة بعيداً عن شقائي.تكسر الجو في بلدة هيت الحالمة على ضفة في أعالي الفرات كله ببيان من الراديو .هرع الناس فرحين مستبشرين إلى جامع الفاروق .حملوا تابوتاً فارغاً من تلك التي ينقل بها الموتى الفقراء إلى المقابر وتصدروا به مظاهرتهم هاتفين : "اليوم دقينا آخر مسمار في نعش الاستعمار ".في يوم آخر، تراكضوا مستقبلين رجلاً قادماً من بغداد قيل إنه أتى حاملاً لبلدتنا أعظم هدية في العالم : إصبعاً مقطوعاً من يد نوري السعيد الذي كان ما يزال يسحل في شوارع بغداد لتحرق جثته فيما بعد !التف الناس حوله ولم أتبين حقيقة الأمر .كنت مذعوراً وكان الشارع الرئيس الوحيد المبلط يتمايل كسفينة مخلعة في بحر هائج.عدت للبيت، كانت جدتي وحدها تبكي على الملك الصغير الذي كما قالت " قتلوه قبل أن يتزوج ولا بد أن تحل على العراقيين لعنة مدمرة !"
لسنين طويلة وكثيرة بقيت مخلصاً خاشعاً ممتثلاً لجو ذاك اليوم الثوري الملتهب كالأتون الذي يصهر حديداً، غافلاً عما يكون قد أدخل لروحي وعقلي من أفكار وأخلاق ومفاهيم، حتى تولى الكبر والتجارب المؤلمة، والصدمات فتح مغاليق وعيي وتفجيرها أمامي الواحدة تلو الأخرى وإجباري على فهمها، بعد أن دفعت مع الملايين من أبناء وطني أثمانها الباهظة من العمر والروح ونكهة الحياة، والأخطر من ذلك صلب العراق ودمه وجذوره وربما من كينوته كوطن وتاريخ ومستقبل ! .كرهت تلك الثورة لاحقاً بقدر ما أحببتها سابقاً، وسخرت من عقلي القديم الذي استلب بها، وما زلت أشفق على من لا يزال مخدوعاً بها، واثقاً أن لحظة وهج الوعي ستطاله بكل أوجاعها المبرحة !
يقول أنصار ثورة 14 تموز إن العراق قد ربح بهذه الثورة، الإصلاح الزراعي ومشاريع اعمارية كبيرة وخروجه من منطقة الإسترليني .ورغم إن هذه المشاريع الاعمارية كان قد أعدها مجلس الاعمار في العهد السابق والخروج من منطقة الإسترليني قد شكك اقتصاديون مرموقون بجدواه، وجلاء آخر جندي إنجليزي من العراق كان مرسوماً بمعاهدات سابقة، إلا إننا نستطيع أن نعتبر كل ذلك مكاسب، ولكن مقابل ماذا؟
في ذلك اليوم بدأ أو أستعيد من مجاهل التاريخ الوحشي للعراق القتل دون محاكمة، وسحل الجثث في الشوارع وعلى نطاق جماهيري واسع النطاق وتحت سمع وبصر السلطة العسكرية الجديدة . قتل ملك توج بقرار برلماني ( لم تكن شرعيته ضيقة رغم التحفظات الكثيرة ) وبطريقة بشعة إذ انهالوا عليه بالرصاص بينما خرج حاملاً الراية البيضاء ومصحف دينهم الذي ما يزالون يتشدقون بما يقولون إنها قيمه السمحاء ، اقتحام بيوت العائلة المالكة والمجموعة الحاكمة ونهب محتوياتها وعدم التمييز في الإطاحة بالتماثيل ونصب الساحات بين ما هو سياسي وما هو أثر فني.وربما كان يمكن تجاوز كل ذلك على هوله لو كان مجرد هيجان انفعالي عابر لكنه كان أولى الموجات الدامية التي غرق العراق في العقود اللاحقة في بحرها الطامي وصارت لازمة لكل الصراعات اللاحقة وتقليداً ثورياً وثقافة وسلوكاً نرى في هذه الأيام أعتى وأبشع طقوسه الدموية في ذبح البشر وتفجير بيوتهم وقطع أسباب حياتهم والتصدي لمستقبلهم . وبها وسم المراقبون العراقيين بالعنف والدموية . لكن الخسارة الأكبر هي محق الدستور واستقلال القضاء والمراعاة التقليدية لجوانب من حقوق الإنسان وكل مكونات المجتمع المدني والدولة العصرية الآخذة بالتبلور والنمو ووضع الجزمة والعصا العسكرية مكانها جميعاً.غاب الرجل المدني الحاكم وحل الرجل العسكري بوجهه المتجهم وعقله الضيق ومسدسه في حزامه حاكماً مطلقاً ! .لقد وقع العراق في هذه الصفقة بنفس المحنة التي وقع بها فاوست حين ارتهن روحه للشيطان مقابل أن يعطيه كل ماديات العالم !
يقولون إن الانقلاب العسكري اختراع عراقي بدأه بكر صدقي في الثلاثينيات، ثم العقداء الأربعة في الأربعينيات، ومنهم أخذه الشيشكلي في سوريا، ثم عبد الناصر في مصر الخمسينات ليعود بزخم أقوى إلى بغداد أواخر الخمسينيات على أيادي عبد الكريم قاسم وعبد السلام عارف، مدعوماً هذه المرة بأحزاب عراقية عبت كثيراً من خمرة الثورية المنتجة في روسيا البلشفية، أو الحركة القومية الألمانية، أو دول النهوض الشعبي ما بعد الحرب العالمية الثانية .قد لا يكون هذا مبالغاً فيه فالمزاج الانقلابي والمتقلب غير بعيد عن دماء العراقيين وهم الذين أنجزوا الثورة العظمى على مجلس الآلهة في السماء قبل حوالي ستة آلاف سنة وألقوهم من حالق واحداً بعد الآخر وتوجوا الإله الواحد الأحد مكانهم حيث ما يزال يظهر في النشاط السياسي العراقي في صور قريبة كصورة الزعيم الأوحد، ثم في العهد الظلامي الساقط القائد الرمز الذي استحوذ على أسماء الله الحسنى كلها والهوس العام بالقائد الواحد الملهم الذي إما أن ننصب له التماثيل ونعبده أو نسحله في الشوارع، ولا وسط بينهما !
يقول صديقي العزيز الكاتب عبد الخالق عبد الحسين في مقالة جديدة ممتعة له إنه دهش لما رآه قفزة في التفكير لتطرقي إلى انقلاب 14 تموز في مقالة سابقة لي عن الفساد المعاصر في العراق، بينما الأمر منطقي تماماً .فمن يقطع التطور الطبيعي للتراكم الديمقراطي ولو لفترة غير طويلة ويفتح الباب واسعاً للهمج والعسكر الهائج ليحل محل القانون ومؤسسات الدولة لا بد أن يتوقع غياب المحاسبة والمراقبة والمتابعة القانونية وبالتالي شيوع النهب والسلب السري والعلني لثروات البلاد والمحسوبية والمنسوبية والمحزوبية وإزهاق الأرواح دون جرم، أو قرار قانوني عادل، وكل مظاهر الفساد والتحلل والانهيار !
بالطبع لا يمكن القول إن الحكم الملكي كان خالياً من العيوب والنواقص والسلبيات، على العكس كان هناك الكثير منها .ولكن ينبغي ألا ننسى أن هذا الحكم لم يستمر سوى لثلاثة عقود ونصف تقريباً .وقد قام على ركام أربعمائة سنة من الحكم العثماني الأكثر بشاعة في ما عرف العالم من حكم .وإن هذا الحكم قام مرافقاً لاحتلال بريطاني أخذ منه وأعطاه، وكان يحكم مجتمعاً متخلفاً فقيراً أمياً بنسب عالية ومطلقة في بعض البقاع، معقداً في تركيبته القومية والدينية والطائفية، لكنه استطاع مع ذلك أن يحقق الكثير خاصة في مجال بناء دولة أرادت أن تنأى برجالها عن أصولهم العسكرية حيث أبرز رجالها وحتى أيامها الأخيرة كانوا من خريجي الجيش العثماني ومن ضباط جيش ثورة الحسين.وظلت تتحكم في تصرفاتهم وسلوكهم العادة العسكرية المناقضة للحياة المدنية .لكنهم افلحوا بشكل عام في بناء معالم دولة حديثة مستقلة إلى حدود معقولة وذات تجربة ديمقراطية هي على علاتها متقدمة على نظم الحكم ومفاهيمه في المنطقة .كل ذلك في أجواء الحرب الباردة التي أخذت ترسل بعواصفها الحادة الغامضة منها والواضحة منذ اندلعت أوائل الخمسينيات.
لم تكن الضغوط على هذه الدولة ناشئة فقط عن متطلبات شعبية أو داخلية بحتة. كان الكثير منها ضمن ما يسمى بصراع الشرق والغرب على أرض العراق، وبوقود من أرواح العراقيين ( ولا تتسع هذه العجالة بالخوض بتفاصيل دقيقة وكثيرة ويكفي الإحالة إلى مجريات وثبة كانون 48 التي قامت ضد معاهدة بورت اسموث حيث راح فيها الكثير من الضحايا، وأجهضت هذه المعاهدة ليبقى الحال على ما كان عليه وفق الاتفاقية القديمة الأسوأ منها طبعاً.وهكذا كانت تجري الكثير من الصراعات الوطنية، حيث يسجل شهداء وأمجاد في سفر الخلود الموهوم وكأن على العرقيين وحدهم أن يبقوا على شعلة الخلود على جبال الأولمب )
أذكر إنني حين كنت حزبياً أكتب في جريدة طريق الشعب (ناطقة باسم الحزب الشيوعي ) أوائل السبعينيات كلفت من إدارة تحرير الجريدة بالالتقاء بالسيد رشيد مطلك الذي كان صديقاً حميماً لعبد الكريم قاسم والوسيط الأمين بينه وبين جبهة الاتحاد الوطني عبر صديقه الآخر عامر عبد الله عضو المكتب السياسي للحزب الشيوعي العراقي، لأعرف منه تفصيل تلك المهمة المثيرة وخبايا تلك الحقبة الهامة .كان يمتلك مطعماً راقياً يقع في منطقة الكرادة قريباً من تمثال كهرمانة، على ما أتذكر .حيث كان يجلس فيه عادة ويستقبل ضيوفه .كان مسترخياً على أحد كراسي المطعم الواسع ببذلته الأنيقة وربطة الفراشة الزاهية تشد عنقه وعلى وجهه الأسمر الممتلئ ابتسامة متحفظة، وقد تحلق حول مائدته أصدقاؤه من سياسيين وحزبيين متقاعدين .أتذكر منهم الآن فقط كاظم الصفار، عضو قيادة تنظيم القيادة المركزية الشيوعي .كان يقاطعه أحياناً لينفس عن كرهه للجنة المركزية للحزب الشيوعي .جلست معهم مرتين أو ثلاث. وأردت مواصلة محاورته على انفراد وتسجيل ذكرياته، لكن الموت تخطفه فجأة. ومع ذلك كان قد سرد لي تفاصيل ووقائع هامة وأحاديث له مع قاسم جرت بينهما في مطعم شريف وحداد المطل على التقاء جسر الأحرار بشارع الرشيد .كان قاسم يريد من جبهة الاتحاد الوطني الإسناد المعنوي والشعبي، ومن الشيوعيين بالذات تلمس موقف السوفيت والصينيين من ثورته ( كانت الخلافات بين السوفييت والصينيين لم تظهر للعلن بعد ) .بدا لي واضحاً من كلامه أن عبد الكريم قاسم وتنظيمه العسكري كان سيقوم بانقلابه أو ثورته العسكرية حتى لو لم يجداً دعماً ومساندة من جبهة الاتحاد الوطني، وحتى إذا لم يوافق عليها السوفيت والصينيون .
ويبدو إن جبهة الاتحاد الوطني والحزب الشيوعي العراقي كانا متلهفين مندفعين لهذا الانقلاب العسكري حتى لو لم يجد دعم ومساندة السوفيت أو الصين. وهذا ما حصل فعلاً !فعامر عبد الله فيما كتب وما سمعته منه شخصياً، حين التقى ببعض القادة السوفيت في موسكو وفاتحهم بموضوع الثورة، نصحوه بألا يقدموا عليها وأن يتريثوا بها في الأقل في الوقت الحاضر. ربما لم يشاءوا المغامرة بخرق صارخ لاتفاق الجنتلمان او اتفاق القرم الذي يطلق يد السوفيت في شرق أوربا وجنوب شرق آسياً ويجعل من منطقة الشرق الأوسط محاطة بخط أحمر للغرب ومصالحهم .وفضلوا الإبقاء على التوتر الغامض الذي يستنزف الغرب بدماء الوطنيين العراقيين.وكذلك كانت نصيحة الصينيين بل وبفتور وبرود أيضاً .وربما كانوا ينطلقون في ذلك من تقديرهم لظروفهم وموازين القوى آنذاك .ولكن حين حدث الانقلاب وتحفز الغرب للانقضاض عليه أعلن السوفيت وقوفهم إلى جانبه وأسموه بالثورة الوطنية وقاموا بمناوراتهم الشهيرة على حدودهم الجنوبية جاعلين الليل نهاراً كما قيل ! هنا يمكن القول إن المعسكر الاشتراكي لم يكن هو الذي دفع لهذا الانقلاب لكن وجوده كان مشجعاً لقادته ومسانديه من السياسيين.وقد كان قادة الحزب الشيوعي في حماسهم للثورة يخالفون مواقف ووصايا فهد مؤسس الحزب الذي كما هو معروف لم يثبت في برنامج الحزب ولا في أدبياته اللاحقة شعار إسقاط النظام الملكي .آنذاك وعلى ما يبدو كانت السياسة ومواقفها الخطيرة تتخذ دون روية كافية أو دراسة معمقة وبعيدة النظر !
لم تكن حقيقة أن الانقلاب العسكري يجهز عادة على المكتسبات المدنية الحضارية بالحقيقة الصعبة والمعقدة أو المتقدمة جداً التي لم يستطع إدراكها قادة وسياسيو ذلك الزمان، لكي يقال إن وعينا الحالي هو الذي يساعدنا على الحكم الصحيح .لقد كانت واضحة جلية حتى للناس البسطاء ، فهم يتوجسون منه خيفة وهذا ما جعل في وقتها كامل الجادرجي يرفض تسنم مهام وزارية في الحكومة إلا إذا عاد العسكريون إلى ثكناتهم .وإن يؤخذ عليه موافقته على الانقلاب العسكري وهو الذي يعرف طبيعة العسكر وذهنيتهم المحدودة .
قام هذا الانقلاب الذي كان في اعتقادي تلبية لطموح رومانسي لضباطها أكثر منه تلبية لطموحات الشعب للتغير.وإلا لماذا لم يسلم قاسم السلطة للشعب مهيئاً له الظروف المناسبة بما امتلك من قوة وسطوة؟ترى ألم يكفه عام أو عامان للاعداد لانتخابات عامة واستئناف الحياة الديمقراطية بصورة أرقى وأفضل مما كانت عليه في العهد الملكي؟ لكنه واصل تفرده في السلطة مظهراً شكلاً واضحاً من الاستبداد والدكتاتورية مما سهل للفاشيين المجرمين في 8 شباط 1963 للانقضاض عليه وعلى من وقف معه أو حشر معه فارتكبوا تلك المذابح البشعة التي قتل فيها آلاف من خيرة أبناء العراق، وفتحت الطريق لنكبة 17 تموز 1968 بمجيء البعثيين ثانية ليشنوا حروبهم على العراقيين وجيرانهم ويستجلبوا نكبات وويلات أخرى.الجريرة الكبرى لذلك الانقلاب العسكري أنه حطم أبواب الدولة العراقية ليدخلها العسكر فيطردوا من زواياها آخر نسمة للديمقراطية والقانون المدني ويشيعوا فيها أنفاسهم اللاهثة ونهجهم ومزاجهم وأهواءهم ونزعتهم الانقلابية والعدوانية .لا شيطان يدمر الدولة كذاك الذي يأتي محتذياً جزمة العسكر! ولا عدو للحضارة والحياة المدنية وللديمقراطية كالعسكر إذا تحكموا بالقرار السياسي وهذا ما أدركته أوربا بعد حروبها المدمرة فحصنت نفسها من أشباحهم وطرائقهم .فحتى وزراء الدفاع في دولها صاروا سياسيين يرتدون الثياب المدنية !قبل سنوات دخلت ثلة من العسكر إلى البرلمان البرتغالي وأرادت فرض إرادتها فاهتزت أوربا واقشعرت كل خلية في جسدها الأشقر.بينما الأمور عندنا ما تزال تحل بواسطة العسكر أو رؤساء كانوا عسكراً أو آباؤهم كانوا عسكراً فأورثوهم سلطاتهم العسكرية والحزبية، مطمئنين أن القرآن قد شتم الملوك ولم يشتم العسكر "إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة وكذلك يفعلون " ولو كانت الخبرة الحديثة وراء هذا النص لجاءت ( إن الجنود إذا دخلوا قرية أفسدوها الخ ... ).
بهذا يمكن معرفة أية جناية اقترفها أولئك العسكر الطائشون .ورغم إنهم رحلوا عن دنيانا حاملين سيئاتهم وحسناتهم .وإن التاريخ سيقول كلمته بهم بروية وهدوء أكبر .ولكن لا بد للحكومة الشرعية القادمة من إجراء محاكمة اعتبارية لهم ولعملهم الإجرامي الخطير، وقول كلمة قانونية فاصلة به تقطع الطريق مستقبلاً على العسكر من التدخل في الشئون العليا للدولة وتجعل تغيير الحكومة أو نظام الحكم محصوراً بمجلس الشعب المنتخب بطريقة ديمقراطية نزيهة، وترسيخ تداول السلطة وتعدد المرشحين المدنيين لها لينالها من هو جدير بها ويخرج منها من يثبت فشله.
لم يكن رأيي بانقلاب 14 جديداً ليفاجئ الصديق عبد الخالق. لقد نشرته قبل أكثر من عشر سنوات في استطلاع لمجلة الثقافة الجديدة ( المجلة النظرية للحزب الشيوعي العراقي ) .وقد واجهت على صفحاتها حملة شعواء رمتني بشتى التهم والشتائم .وقد يتصور البعض إنني من أنصار الملكية الآن، أو من أتباع حركتها السياسية وهذا غير صحيح .فأنا مذ تركت الحزب الشيوعي العراقي أواخر الثمانينات لم أنتم لأي حزب أو حركة سياسية، حرصاً مني على استقلالي الفكري والحياتي.واليوم لا أرى بعد ما جرى أن من المجدي عودة الملكية، فالعراق اليوم حاله مع الملكية كحال رجل أدرك بعد السبعين من العمر أنه كان مخطئاً حين كفر بمؤسسة الزواج ولم يتزوج أو إنه طلق زوجته الطيبة المسكينة .ألا تكون كارثة إن يسعى للزواج بعد السبعين؟خاصة من شابة يضج جسدها بالأنوثة الطاغية والأحلام المتفجرة؟ طاب ثراك يا جدتي لقد حلت علينا لعنات كبرى كثيرة، ربما إحداها وقعت فقط لأننا قتلنا مليكنا الشاب في يوم كان يتأهب فيه للقاء خطيبته ويحلم بولي للعهد في وطن جميل آمن له مع أطفال العراق الذين كان يحييهم بابتسامته الوادعة من سيارته بين جسر الخر والرصافة !ولكن هيهات لك يا جدتي وهيهات لي معرفة سبب كل هذه اللعنات الرهيبة !وحتى لو عرفنا، هل تستطيعين في قبرك وهل أستطيع أنا في منفاي الذي يريد قاطعو الرؤوس له أن يطول، القول: إن البغلة والبغال كلها مختبئة في إبريق الوضوء؟

هامش أساسي :
إن نشوء حركة ثقافية مبدعة خلاقة في العراق لم يكن بمعزل عن جوانب عافية في دولة العهد الملكي، ونظامها السياسي، ومناخاتها العامة آنذاك .وهذه أسماء أبرز قادتها :الرصافي، الزهاوي، الجواهري، السياب، البياتي، نازك الملائكة هجري ددة، كوران، عبود الكرخي، روفائيل بطي إبراهيم صالح شكر، ذنون أيوب، التكرلي، عبد الملك نوري، فائق حسن، جواد سليم، علي الوردي، على جواد الطاهر، جواد علي، كوركيس عواد، المخزومي، طه باقر، عبد الرزاق الحسني، عبد العزيز الدوري، عبد الجبار عبد الله، حقي الشبلي، ابراهيم جلال، جعفر السعدي، زينيب، القبنجي، حضيري، داخل حسن، زهور حسين، سليمة مراد، الغزالي، ناظم نعيم، عباس جميل، وحيدة خليل، يحيى حمدي، إبراهيم كبة، الجادرجي، مير بصري، محمد حديد، حسين جميل، عبد الفتاح إبراهيم الخ ....بينما العهد الثوري اللاحق لم يكتف بلجم هؤلاء واضطهادهم أو تشتيتهم، بل هو لم يسمح بظهور مبدع بوزن أي من هؤلاء الرواد والرائدات.