ان تحديث الجامعة العربية يعني تخليصها من الهيمنة والذيلية كمؤسسة حكومية

أصبح تجديد واصلاح الجامعة العربية ضرورة موضوعية في ظروفنا الراهنة وبالتطورات التي اجتاحت دول العالم ومنظماتها بما فيها الأمم المتحدة لتأخذ دورها الطبيعي الصحيح كمنظمة اقليمية تهتم بقضايا الوطن العربي وبمشاركة المنظمات العالمية وبخاصة الامم المتحدة في القضايا المهمة التي تجابه دول العالم. منذ تأسيس الجامعة العربية 1945 بقت هذه المؤسسة المهمة طيعة لبعض الدول العربية وفي مقدمتها مصر وعلى امتداد تاريخها كان الامين العام من هذه الدولة إلا فترة انتقال الجامعة الى تونس بعد زيارة السادات الى القدس والتنازلات التي قدمها لدولة الاحتلال الاسرائيلي..
لابد من الاقرار ان عملية الاصلاح الديمقراطي أصبحت تحتل مكانة بارزة في نضال الشعوب المضطهدة وضرورة ملحة بسبب الحاجة الماسة له والتطورات المستجدة على العالم ومرور الوقت اللازم وظهور مهمات وقضايا جديدة ذات مستوى أوسع وأكبر من السابق، ولعل المتابع للاحداث لحقب الاربعينيات والخمسينيات وظروفهما ونوع العلاقات والمهمات وما اعترض من مشاكل جمة سيجد انها تختلف عن ما ظهر في الستينيات والسبعينيات وهما بالتأكيد خضعا لقوانين التطور التي ظهرت في الثمانينيات والتسعينيات في القرن العشرين، تلك الفترات التي كانت الحرب الباردة والصراع بين القطبين العالميين الاتحاد السوفيتي واوربا الشرقية وحلفائهما وبين الولايات المتحدة الامريكية والغرب وحلفائهما.. كما ان الذي يقرأ التاريخ سيجد اختلاف في نوع المهمات والمشاكل القطرية والاقليمية في كل حقبة تاريخية من حقب تلك الفترة.. بينما نجد الفترة بعد تفكك الاتحاد السوفيتي والتغيرات الجوهرية في اوربا الشرقية وحركات التحرر الوطني قد اختلفت بعدما أصبحت سيادة القطب الواحد في العالم للولايات المتحدة الامريكية بدون منازع تقريباً وفي الوقت نفسه اصبحت جبهة الشعوب والقوى المناهضة للحرب والاحتلال والاستغلال وضد العولمة حقيقية واقعية وما تحمله من مضامين انسانية تقف بقوة ضد مخططات الولايات المتحدة والدول الرأسمالية الاحتكارية ومخططاتهم من اجل الهيمنة على العالم عن طريق نشر مفاهيم وقوانين العولمة لالغاءالحدود الوطنية امام تدفق رأس المال للشركات متعددة الجنسيات.
وما يخص المنطقة العربية والشرق الاوسط نجد ان القوانين ونوعية المهمات خضعت الى التطورات الجديدة التي اجتاحت العالم والمنطقة ومست العديد من الدول المغلقة على نفسها بما فيها سقوط مفاهيم الديكتاتورية والهيمنة الدينية في الكثير من المواقع واصبحت قضية الاصلاح والديمقراطية وتحقيق مفاهيم المجتمع المدني من اولويات نضال شعوب المنطقة وقواها الوطنية الديمقراطية على الرغم من الكوابح والمواقف المتشنجة واتباع طرق عديدة لتسويف عملية الاصلاح او التلاعب عليها من أجل تهميشها من قبل الدوائر الحكومية الرسمية والمؤسسات الدينية التي ترى في الاصلاح الديمقراطي وكأنه عدواً لها سوف يأتي على حتفها ان تحقق نجاحه، وبالرغم من الدعوات الخجولة التي ظهرت هنا وهناك فإن أهم مؤسسة اقليمية ما زالت تراوح في مكانها ولم تنتقل الى الموقع الذي من الممكن ان يؤهلها لتكون فعلاً مؤسسة تشارك في العلاج للمرض المزمن في الهيمنة المطلقة على مقاليد الانظمة العربية التي تدعي الديمقراطية بينما نجد البعض من هذه الدول مازالت تحتفظ بقوانين الطوارئ ثم انتقلت لتصبح وراثية كالدولة الملكية وهو ما يتنافى مع ابسط معايير الجمهورية والديمقراطية وحقوق الانسان ، هذه المؤسسة هي الجامعة العربية، فمنذ تأسيسها ولحد هذه اللحظة بقيت على منهاجية واحدة ومطيعة للقرار الرسمي لبعض الدول المؤثرة فيها، بينما نجد ان هناك منظمات قطرية في افريقيا وامريكيا اللاتينية تخلصت من ارث السيطرة المزمنة والتدخل في قراراتها بنسب عالية بالقياس مع الزمن السابق كما نشاهد التطورات الكبيرة التي حدثت في الامم المتحدة بالرغم من المثالب الكثيرة التي ما زالت متعلقة بعملها لكنها ابدت في العديد من المرات مواقف مضادة للعديد من الدول المؤثرة والقوية وفي مقدمتها الولايات المتحدة الامريكية هذا بغض النظر عن مواقف مجلس الامن الذي اصبح كماشة بيد الولايات المتحدة وبسبب حق " الفيتو " الممنوح لها ، ومع هذا فهناك الحاح ضاغط من أجل اصلاحه وتحديثه للخروج من مأزقه بعتباره طيعا لبعض الدول دون غيرها ويأخذ مكانته الطبيعية كمؤسسة تهتم بمصير العالم دون استثناء..
الجامعة العربية تمارس عملها منذ تأسيسها كأنها جهاز مؤسسة رسمية حكومية بروتينية مملة وبيروقراطية قاتلة والمتفحص لبرنامجها وميثاقها يلاحظ الاختلاف الجوهري مابينه وما بين مواقفها العملية خلال السنين الماضية وحتى اللحظة الحالية، الا اللهم دعواتها لعقد اجتماع لوزراء الخارجية والتمهيد لعقد القمم العربية التي ظلت قراراتها حبراً على ورق و بياناتها وتصريحات امينها العام الرنانة التي تصدرها بين الحين والحين ولا يلتزم بها حتى الموقعين عليها.. وبدون الدخول في الجزئيات نرى ان المواقف التوفيقية والذيلية التي مارستها الجامعة العربية وبجانبها بعض الدول العربية كانت هي البلاء الذي اصاب المنطقة العربية، فقد وقفت هذه الجامعة دائماً مع الموقف العربي الحكومي الرسمي ناسية الشعوب العربية واستحقاقاتها في اهم قضية عالمية، حقوق الانسان والحريات العامة والخاصة والديمقراطية، لا بل وقفت في العديد من الاحيان مع الانظمة التي تمارس الدكتاتورية والاضطهاد والغاء الآخر وفي ذلك مثال قريب النظام البعثفاشي في العراق ، ولم تقف مرة واحدة تدافع عن حق هذه الشعوب والشعب العراقي بالذات في الحرية والسلام وحقوق الانسان، حتى تلك الاعمال البربرية التي مارسها النظام الشمولي اثناء حروبه العدوانية او استعمال السلاح الكيمياوي وابادة اكثر من 200 الف انسان ، بقيت عنه صامتة صمت القبور.. وطوال حقبة التسعينيات وحتى سقوط النظام الشمولي واحتلال العراق وظهور المقابر الجماعية كانت هذه الجامعة وامينها السيد عمرو موسى من اشد مناصري النظام الشمولي معلقين قراراتهم على شماعة الحصار الاقتصادي ناسين مسببي المأساة الحقيقية للشعب العراقي الذي اوصلوا البلاد من خلال سياستهم الهوجاء الى تلك المراحل المؤلمة اللاإنسانية، وكأن هذا النظام الجائر لم يشن الحرب على دولة جارة ولم يحتل دولة عربية شقيقة وهي الكويت ويهجر شعبها وينهب مؤسساتها ويخرب ثروتها الوطنية بدون ان ترف له شعرة ضمير وبحجة العراقيات الماجدات اللاتي كن وقوداً لمحرقة اكبر من جملة عارضة، محرقة نتائج الحروب والارهاب والآفات الاجتماعية والاخلاقية التي انتشرت كما تنتشر النار في الهشيم اضافة الى ممارسات اركان نظامه المهووسين بالجريمة وعشيرته وعائلته وفي مقدمتهم ولديه عدي وابنه قصي..
واستمرت الجامعة العربية كمؤسسة رسمية تابعة لبعض الحكومات العربية دون غيرها وظلت سياستها مرتبطة بها دون تغيير حتى في المواقف التي تختلف فيها الحكومات العربية نجدها تقف بجانب تلك الحكومات المؤثرة وبخاصة جمهورية مصر، وبالرغم من انبثاق العديد من مؤسسات حقوق الانسان ظلت تعالج الكثير من القضايا والمشاكل القديمة والجديدة بالاسلوب القديم نفسه مراعية وضعها كمؤسسة رسمية.
لم نرى في أي يوم من الايام ان الجامعة العربية وامينها العام وقفا موقفاً تضامنياً من اي شعب عربي تعرض للاضطهاد، والحمد لله ان اكثرية هذه الشعوب تعاني من هذا المرض المزمن وكانت ومازلت تصريحات السيد عمرو موسى والبيانات الصادرة منها فيما يخص الاوضاع العربية المتردية عبارة عن بالونات هوائية بمجرد ان تلامس الحرارة تنفجر وتتبعثر بدون ان يكون لها أي أثر لأنها فقدت ليست ثقة الشعوب العربية بالجامعة فحسب انما حتى الكثير من الحكومات العربية اصبحت لا تبالي كثيراً بهذه التصريحات والبيانات فسرعان من يطويها الزمن في زاوية مظلمة من النسيان..
لكن الاوضاع تغيرت بعد سقوط النظام الشمولي وبدلاً من دعم الشعب العراقي وقواه الوطنية المخلصة من اجل نجاح العملية السياسية للتخلص من الاحتلال راح الامين العام عمرو موسى يتحرك بصورة غريبة ساعدت على ارباك الوضع ولاول مرة في تاريخ الامناء العامين وفي خطوة نادراً ما قامت بها الجامعة او امنائها القلة جداً استقبل السيد عمرو موسى قوى عراقية بحجة الاحتلال تحرض على مسلسل الدم والنزيف الوطني وتقف بالضد من العملية السياسية واجراء الانتخابات واعادة بناء الدولة ومؤسساتها الذي يصب في عملية انهاء الاحتلال ويحقق استقلال البلاد.. وعندما وجيه بذلك تحجج بحجة غير صادقة ان ابواب الجامعة العربية مفتوحة امام الشعب العربي وقواه الوطنية حسب قول السيد عمرو موسى بينما كانت هذه الابواب مغلقة امام القوى الوطنية العرقية التي كانت تكافح ضد الدكتاتورية وسياستها الهوجاء التي ادخلت المنطقة في دوامة الازمة المستفحلة الحالية وهي ساعدت على تعقيد القضية الفلسطينية وادخلت المنطقة في دوامة السيطرة وهيمنة الدول الاستعمارية وفي مقدمتها الولايات المتحدة الامريكية، فبعد احتلال الكويت وحرب الخليج الثانية منحت الدكتاتورية الفرصة الذهبية لاسرائيل في التمادي على قرارات الجمعية العامة وعدم احترامها للقوانين الدولية أكثر بكثير من السابق وهاهي مستمرة منذ ذلك الوقت في سياستها العدوانية التدميرية ضد الشعب الفلسطيني في الاراضي المحتلة اضافة إلى تعنتها واصرارها على ضم الجولان ومزارع شبعا الى دولة اسرائيل..
الجامعة العربية والسيد عمرو موسى اطلوا علينا بحجة الاحتلال بمواقفهما المعادية لمجلس الحكم وحتى الحكومة المؤقتة الذي انعكس سلباً على الشعب العراقي بينما لديهم معلومات أكيدة ان القوات الاجنبية تتواجد في بعض الدول العربية بدون ان يكون للجامعة ولا امينها العام اي موقف ظاهري بالضد منها، وان أجراء الانتخابات ومجيء حكومة منتخبة سوف يؤدي بالتأكيد الى خروج القوات الاجنبية من البلاد.
ان عملية الاصلاح الديمقراطي الداخلي للجامعة العربية يعني تمكينها من أخذ دورها الطبيعي في المنطقة وفي العالم ايضاً، وتحقيقاً لهذا المبدأ يجب عدم حصر منصب الأمين العام فقط بمصر او اية دولة أخرى وجعلها تخضع الى انتخابات حرة وبدون تأثير بعض الدول، اضافة الى تحديث اجهزتها اللازمة وتفعيل لجانها بما فيه لجنة حقوق الانسان ولجان مراقبة الحكومات العربية فيما يخص الديمقراطية والحريات العامة والشخصية، وتفعيل دورها في الحياة السياسية ليكون قرارها ملزما إذا ما نال اصوات الاكثرية.
ان تحديث الجامعة العربية يعني تخليصها من الهيمنة والذيلية كأي مؤسسة حكومية رسمية ومنحها الحق بتمثيل ليس الحكومات العربية فحسب وانما الشعوب العربية كافة لكي يزداد ثقلها الدولي في المحافل الدولية وتحظى بثقة الجماهير في المنطقة.

[email protected]