انتخب الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية وغزة السيد محمود عباس (ابو مازن) رئيساً للسلطة الوطنية استنادا الى برنامج سياسي واضح طرحه الرجل خلال حملته الانتخابية. يتلخص هذا البرنامج في العودة عن عسكرة الانتفاضة في ضوء ما الحقته العسكرة من خسائر طالت كل بيت فلسطيني وعائلة فلسطينية. لم يكذب "ابو مازن" على احد ولم يغش احدا. كان سلاحه الوحيد سلاح الصدق. وجاء انتخابه باكثرية شعبية تصل الى ثلثي عدد الناخبين. في المقابل، لم تستطع المعارضة المتمثلة في "حماس" تحقيق نجاح يذكر عبر دعوتها الى مقاطعة الانتخابات. واظهرت الارقام النهائية ان نسبة الاقبال على صناديق الاقتراع كانت كبيرة وان المقاطعة كانت مفيدة، اقله من ناحية معينة. تتمثل هذه الناحية في ان "حماس" اخذت حجمها الحقيقي وصارت تمثل نسبة لا بأس بها في الشارع الفلسطيني قد تصل الى عشرين في المئة، هذا اذا اخذنا في الاعتبار ان الحركة الاسلامية تشكل ما يزيد على نصف المقاطعين. اما النصف الآخر فانه يمثل اولئك الذين يبتعدون عادة عن صناديق الاقتراع بشكل تلقائي... في فلسطين وسائر بلدان العالم المتحضر.
باختصار، ان "ابو مازن" يمتلك شرعية حقيقية مصدرها الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية وغزة. تضاف اليها الشرعية التي مصدرها منظمة التحرير التي يرأس لجنتها التنفيذية. وتبقى المنظمة الى اشعار آخر "الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني" وذلك من وجهة نظر القمة العربية التي اتخذت قرارا في هذا الصدد في الرباط عام 1974.
من هذا المنطلق يحق لرئيس السلطة الوطنية الفلسطينية تنفيذ برنامجه الانتخابي نظراً الى ان الشعب الفلسطيني ايد هذا البرنامج، في حين يحق للمعارضة التمسك بموقفها شرط ان تلجأ الى الوسائل السلمية في سعيها الى ذلك، في حين ان التمسك بالسلاح ورفض وضع هذا السلاح في خدمة السلطة الوطنية يمثل تحدياً لارادة الشعب الفلسطيني، وهي ارادة عبر عنها من خلال الانتخابات بوضوح ليس بعده وضوح...
في النهاية ماذا يريد الشعب الفلسطيني؟ قال هذا الشعب كلمته واكد انه يريد تحقيق اهدافه الوطنية بوسائل سياسية خصوصاً بعدما تبين ان الوسائل الاخرى لا تجدي وان السلاح يظل اللعبة المفضلة لدى ارييل شارون.و اللجوء الى هذه اللعبة هو ما يتمناه رئيس الوزراء الاسرائيلي من كل قلبه. انه بكل بساطة تلبية لتمنيات شارون ورغباته.
لا شك ان مقاومة الاحتلال حق مشروع لشعب صامد مثل الشعب الفلسطيني. لكن هذا الحق لا يعني بالضرورة اللجوء الى العمليات الانتحارية او الى صواريخ "القسام" التي تؤذي الفلسطيني اكثر مما تؤذي الاسرائيلي. والمقاومة، اي مقاومة تتخذ اشكالاً مختلفة واهم ما في اي مقاومة هو فعاليتها اولاً واخيراً. ومنذ توقيع اتفاق اوسلو عام 1993 بعد انعقاد مؤتمر مدريد في تشرين الاول (اكتوبر) من العام 1991, خاض الفلسطينيون سلسلة من المعارك السياسية ادت في النهاية الى الانسحاب الاسرائيلي من ارض فلسطينية وذلك للمرة الاولى في تاريخ الصراع على تلك الارض وبدء تنفيذ المشروع الصهيوني على حساب صاحب الحق في الارض اي الشعب الفلسطيني. كانت هناك انتفاضة الحجارة التي اجبرت الاسرائيلي على التراجع سياسياً وعسكرياً ثم جاءت المبادرات السياسية التي اظهرت عبرها القيادة الفلسطينية براغماتية كبيرة. واثمرت هذه البراغماتية التي انطلقت من شعار ان لا وجود لانتفاضة من اجل الانتفاضة عودة ياسر عرفات الى ارض فلسطين مع عشرات الآلاف من ابناء شعبه. وقد حقق الزعيم التاريخي للشعب الفلسطيني نصف حلمه بأن دفن في ارض فلسطين. اما النصف الآخر للحلم فانه يتحقق عندما يدخل جثمانه القدس ويدفن في ترابها.
من المعيب الا يتذكر عاشقو العمليات الانتحارية كل تلك الانجازات التي تحققت بما في ذلك ان السلاح الذي يحملونه انما تأمن لهم بفضل اتفاق اوسلو. ومن المعيب الا تكون هناك استجابة للدعوة الى وضع هذا السلاح في خدمة البرنامج السياسي الذي طرحه "ابو مازن" والذي انتخب على اساسه. ففي النهاية ان "ابو مازن" يمثل حالياً الخيار الوحيد من اجل استعادة الجانب الفلسطيني المبادرة السياسية. قبل كل شيء انه رئيس شرعي وهو يمتلك برنامجاً سياسياً واضحاً انتخب على اساسه كما انه قادر على دخول البيت الابيض وقد اتصل به الرئيس بوش الابن مهنئاً ووجه اليه دعوة للمجيء الى واشنطن وذلك في تاريخ لم يمر عليه الزمن بعد.
من يقف في وجه وقف العمليات العسكرية يكون حليفاً لارييل شارون، لا لشيء لأن استمرار العمليات لن يوفر غطاء لاستمرار بناء "الجار الامني" بغية تكريس الاحتلال وللجرائم اليومية التي يرتكبها الجيش الاسرائيلي في حق الشعب الفلسطيني فحسب، بل انه يوفر أيضا غطاء لرئيس الوزراء الذي كل همه الا يتمكن مسؤول فلسطيني من دخول البيت الابيض مجدداً. من يقف في وجه دعوة "ابو مازن" الى وقف العمليات العسكرية انما يعمل عند شارون من حيث يدري او لا يدري وليس فقط ضد الشعب الفلسطيني والشرعية التي اسبغها على "ابو مازن".. ان الشعب الفلسطيني يريد الحياة لا اكثر ولا اقل وليس صحيحاً انه يبحث عن الموت والانتحار... ذلك هو مغزى انتخاب "ابو مازن" بالاكثرية الحضارية التي انتخب بها.