في التبشير الذي تستغرق فيه البعض من القوى الدولية، في سبيل تحديد وترسيم مواصفات المواجهة، يبرز عنصر الثقافة بكثافة ملفتة، حيث المحاولة الراسخة نحو توسيع مجال الحضور الذاتي، كمحاولة لدرء الأخطار الزاحفة والقادمة، ومابين التوصيف الجاهز، والحشد لعناصر القوة الذاتية، يتبدى العالم في صراعية ناشبة، قوامها البحث عن الغايات والرهانات وتحديد مجال الحسابات، من دون السقوط في دوامة التبعية، تلك التي كانت تحضر وسط تشابك العلاقات السالفة، حيث الأقوى الذي يبسط إشتراطاته ومقايساته على الأضعف. العلاقة في العالم الراهن بات رهنا للمزيد من توسيع مجال طبيعة المواجهة، لاسيما وأن عنصر القوة، لم يعد متوقفا عن التحديد المباشر والمتمثل، بما هو متوفر من الإمكانات المادية التي يحدشدها طرف بعينه، بإزاء مجال فسيح لابد أن يكون عرضة للتلقي السلبي، إذ أثبت الواقع إلى أن التفاعلات الحية والمباشرة، التي تند عن الجماعات والشعوب يكون لها الحضور الفاعل والأكيد في تحديد شكل التوجه، الذي يمثل عصب التوجه نحو هذا المجال أو ذاك.

السعي نحو الكشف

بين الحداثي والتقليدي كان التوقف الطويل، والذي صار بمثابة الغطاء الذي يجعل من طبيعة الرؤى رازحة تحت ثقل المباشرة في تقييم الواقع، حتى صار الواقع المرصود نهبا للإنطباعات والتهويمات التي تفرضها الرؤى المسبقة، ليكون التفسير والتحليل وقد شابته المزيد من المظاهر الجامدة، والرؤى التي تعاني من الغيبوبة والتسطيح والإبتسار، ومن هذا كان الفقد الأكبر الذي سقط فيه المبادر الذي تسيطر عليه احتكامات الهيمنة والسطوة والقدرة على التنويع والإبداع، لكن التشخيص لديه بقي يعاني من التهالك والوهن، على الرغم من التركيز العالي الذي يتمظهر في القراءة العلمية التي يتحصن بها، ومحاولة النأي عن المسلمات والبديهيات، لكن الإخفاق كان يتجلىمن خلال هذا الإستناد المبالغ فيه والذي يصل حد الثقة المطلقة بالمواصفات القديمة التي حددتها القراءات السابقة، لواقع الآخر، حتى برزت إلى السطح جملة من العوالق، والتي راحت تكشف عن جملة من التناقضات والإشكاليات التي راح يتحسسها الطرف المبادر، والمزدهي بالمجمل من عناصر القوة، بإزاء هذا الآخر الذي تفجرت لديه مكامن القوة على حين غرة.
هل يمكن الركون إلى أن ثمة مفاجأة قد حلت على رأس الفاعل الدولي، وهو يشهد حالة الإضطراب التي يعيشها العالم اليوم، لاسيما في أعقاب الحادث السبتمبري، الذي نجم عنه إنقلابا مذهلا في طريقة تشخيص وتوظيب الرؤية بالنسبة للآخر.وإذا ماكانت الأحداث تشير إلى أن المواجهة الراهنة باتت تتركز في تكثيف ملف وصارخ بين الغرب الرأسمالي، والأصولية الإسلامية، فإن مدركات التفسير والتأويل تبقى شاخصة، وسط هذه البلبلة من الإتجاهات التي تحوزها المواجهة، لا سيما وأن مجال المعايير السابقة بات يعيش خرقا فاضحا، لمكونات والعناصر التي تحصن بها العالم الغربي، بل أن أن الكشف المباشر لأنساق الفعل وردات الفعل، باتت تفصح وبجلاء لايرقى إليه الشك، إلى أن هذا الغرب المستند إلى القدرة العالية من التنظيم والتوظيب، كان هو الآخر واقعا تحت إسار المسلمات والبديهيات، ولعل ردة الفعل الغاضبة والمدمدمة والزاجرة التي تبنتها المؤسسة العسكرية الغربية، تفصح عن حالة من الغضب الشديد والمتعلق بفقدان أحد مرتكزات العقل الأداتي، الذي طالما نافح به الغرب العالم، لاسيما وأن المفاجأة باتت تحضر وبقوة في تشكيل معالم ردود الأفعال حول هذا الزحف، الذي جاء معلنا عن نفسه في صميم الفاعلية وعقر الدار، حتى كان الجرح النرجسي للكبرياء الغربي، القوي المتمسك بثوابته وأسسه المادية والمعرفية .

بين السياسي والإجتماعي

أين الإخفاق إذا كان ثمة حديث عنه، وأين مكامن الفعل إذا كان ثمة حديث عن توزيعات لمعالم القوة والمبادرة .في ظل الزحف لقوة محدودة جاءت تقاتل بطريقة الأشباح حيث القناع واللثام والتستر بما هو متاح وممكن .ومن هذا الواقع المباشر تبرز للعيان المزيد من الرؤى التي ينبغي وضعها تحت طاولة التشريح والتقصي، لاسيما فيما يتعلق بموضوعة طبيعة النظرة السائدة حول هذه الثقافة أو تلك بالنسبة للمجتمعات، وهل الأمر يبقى منوطا بالتوزيع الجاهز المستند إلى مبدأ التعميم حول هذا المجتمع أو ذاك، أم أن استراتيجيات جديدة لابد أن يكون لها حضورها الفاعل، على مستوى المتداول من الأفكار والمعالجات والرؤى والتصورات.وإذا كان التوقف الطويل الذي ميز طبيعة النظرة حول موضوعة العلاقات الدولية، والتي تتنازعها مقومات القدرة والإمكانيات المتاحة على الصعيد السياسي، فإن عالم اليوم وبما أفرزه من مقومات وقدرات على صنع المفاجاءات وكسر القواعد الراسخة والثابتة، يكون بحاجة ماسة إلى تفعيل العامل الإجتماعي، من دون السقوط في دوامة التقديم والتأخير لهذا العامل على حساب الآخر.هذا مع أهمية الأخذ بالإعتبار أن طبيعة الموجهات التي تفرضها مقومات الرؤى والتشخيص للظواهر، لابد أن تتوقف مليا عند المدى المتحين الذي يدور فيه، توجهات الفاعل السياسي على النطاق الرسمي، والذي ظل يؤدي وظيفة المعيق للتفسيرا والقراءات التي يمكن أن تضعها ماكنة صنع القرار الدبلوماسي الغربي، فما يتبدى على السطح يكون بمثابة الغطاء الكثيف الذي يعوق، مدركات التفسير الواعي لما هو مضمر ومتماه داخل النسق الثقافي لدى الآخر .ومن هذا تحديدا بات الحديث يترى عن أهمية التوجه نحو القراء الجديدة للإسلام والمسلمين، وكأن الأمر يتعلق بقوم نزحوا إلى كوكب الأرض مؤخرا، أو أن المكتبة الغربية تفتقر إلى القراءات المعمقة للتاريخ الإسلامي التي وضعها المستشرقون.

التنقيح والتعديل

هل فقد الغرب نضارته بعد أن أوغل في ترسيخ العامل السياسي على حساب القراءة الإجتماعية، وهل هو اليوم بحاجة إلى تنقيح ما متحصل عليه من أفكار ورؤى وتصورات حول الآخر، وهل يمكن الوقوف عند تعزيز مجال الرؤى المتضادة التي ما إنفك يمارس إعادة توضيبها وإعدادها في طريقة تعامله مع الآخر.وإذا كانت ممارسة إعادة التركيب تتبدى في أشد مواصفاتها عقلانية، فإن التفاصيل المباشرة والتجارب الحية تبقى تشير إلى نزعة إنفعالية حادة، وقد تقمصت هذا الغرب الذي طالما تحصن بالكياسة المعرفية.إن التركيز المباشر الذي ينزع إليه الغرب في أعقاب الحادث السبتمبري، يفصح وبجلاء عن الحدة التي تتلبس مضامين ترسيم معالم العلاقات الدولية على صعيد المسرح السياسي، حتى ليكون من الواضح والفاضح، بروز كم الخروقات التي يتم تبريرها تارة بالإرهاب، أو ترقيعها تارة أخرى بالتنافس الإقتصادي والتجاري.وإذا كان مضمون المواجهة التي تتصاعد تفصيلاته اليوم في المجال الإسلامي وقد توقف عند المعطى العقيدي، وطريقة التفسير والتأويل، فإن مضمون الصراع يتخذ ملمحه الإستثماري بإزاء المنافس الأوربي، أو الإستناد إلى استنزاف الموارد الذي تتم مارسته مع بلدان الشرق الأقصى، تحت دعوى بروز العملاق الصيني، أو تنامي قوة النمور الآسيوية، في الوقت الذي يكون الإتكاء إلى توفير الحاجات الأساسية، من خلال الأسعار الرخيصة لليد العاملة المتوفرة هناك.