لا أستطيعُ حتى هذه اللحظة الربط َ بين "هيبة الدولة الأردنية" والحرب الضروس المفتعلة ضد النقابات المهنية، وأتساءل عن كيفية تحقيق هيبة ما لدولة من خلال قمع الصوت المعارض وتهميشه وإقصائه، واتهام ممثليه بأن بينهم "مجموعة صغيرة من الحاقدين والانفصاميين" وهو اتهام مجاني يفتقر إلى الدليل، ويأتي ليصبَّ مزيدا من الوقود في أتون هذا الحريق المفتعل الذي يحاول في كل مرة تثار فيها (زوبعة النقابات) أن يقترب من العصب الحي لهذا المنبر الحيوي في الحياة المدنية للمجتمع الأردني بسائر أطيافه.
ويخطيء خطأ فادحا كلُ من يعتبر النقابات (وكرا) لحزب سياسي بعينه، فقد كانت عبر تاريخها من أنصع علامات الديمقراطية في الأردن، وجرى تداول السلطة فيها من قبل سائر التشكيلات السياسية والحزبية الحية في الأردن دونما استثناء، وخرج من هذا الصرح النقابي العريق وزراء ونواب وأعيان وقادة رأي وزعماء سياسيون.
صحيح أن ثمة أخطاءً ترافق العمل تنمّ أحيانا عن تمترس في الرأي، وتطرف في الاختلاف، وربما (تحجّر) في المواقف، ولكن ذلك لا يستدعي بأي حال من الأحوال وصمَ هؤلاء النخبة النقابية الذين وصلوا إلى مواقعهم عن طريق صندوق الاقتراع، بـ (الحاقدين) لأن هذا الوصف اندثر مع التركة البالية للأحكام العرفية، فضلا عن أنه (أي مصطلح الحاقدين) ينتمي إلى معجم البيانات الثورية في الأنظمة الشمولية التي تضيق بالصوت المخالف، وتعمل على عزله وقهره وإسكاته.
ثم إن هناك فضلا عن المعزوفة المشروخة لـ (هيبة الدولة) معزوفة جديدة قديمة تتمثل في الدعوة إلى منع النقابات من ممارسة العمل السياسي، وهي تشبه فذلكة النقاد الكلاسيكيين الذين كانوا منهمكين في الحديث عن فصل الشكل عن المضمون في العمل الإبداعي، وهو فصل نظري يتعذر تحققه على أرض الواقع، لأنّ لا شكلا أو صورة بلا مضمون والعكس أيضا صحيح، فكيف والحال هذه يتنطع أصحاب بعض الأقلام المأجورة من فئة (كتاب التدخل السريع) فيبشرون بعهد نقابي يكون فيه المهندس أو المحامي أو الطبيب أو الصحافي أو الأديب منزوع َالدسم السياسي، ولا همّ له سوى الانهماك بالتفاصيل التقنية لمهنته، كأنما الثقافة السياسية تهمة أو عيب أو رجس من عمل (الحاقدين الانفصاميين) يتعين اجتنابه والقضاء على فلوله الضارية!.
ولست هنا في معرض التذكير بزعماء دول كثيرين في العالم وصلوا إلى سدة الحكم من خلال عملهم في النقابات المهنية والاتحادات العمالية، ومن خلال المكاسب التي حققوها للقطاع الأوسع من مواطنيهم الذين كافأوهم ونصّبوهم زعماءَ على بلدانهم.
يحزّ في النفس هذا (التحشيد) الغريب والمستهجن ضد المعارضة النقابية التي هي وجه من وجوه المعارضة الحزبية والسياسية في الأردن، ويحزّ في النفس أيضا أن حرية التعبير وشعارات الديمقراطية والشفافية والانفتاح تتحول إلى قماشة تتسع أحيانا لتشمل أرجاء الوطن كله، ثم تعود في رمشة عين لتنكمش وتضيق حتى لا تتعدى حجم علبة ثقاب، ثم نتساءل بعد هذا وذاك لماذا فشلت مشاريع التنمية السياسية، ولماذا تزكم الأنوف روائحُ الأحكام العرفية بعتمتها وهراواتها وأصفادها الصدئة؟!

mussaben@ho