للجمهوريات العربية التي أصبحت تورث الإبن حكم أبيه، أو هي في الطريق إلى القيام بذلك، إسم خاص تتميز به عن الجمهوريات التي لم تنل شرف حدوث التحول بعد، وعن الملكيات التي لن يكون بمقدورها معايشة الحدث ذاته إلا بمعجزة قد لا يستغرب في قدرة العقل السياسي العربي الحاكم على اجتراحها، ما دام قد أظهر إلى الوجود ما أصبح يعرف ب"الجملكيات"، ومفردها "جملكية"، أما رئيسها -وذلك هو لب المقال- ف"جملك" صغير يجمع بين ظاهر جمهوري ديمقراطي وباطن ملكي قهري واستبدادي.
و "الجملك" ظاهرة درامية عربية معاصرة، ترجمت مستوى الزيف والتزوير والنفاق الذي وصلت إليه الحياة السياسية العربية، فبدل المصارحة والشفافية والمكاشفة، يهيمن اللف والدوران والمخادعة، وبدل الجرأة في الصدع بما هو حاصل، من جهة الرغبة الجامحة التي تهيمن على الحاكم العربي (رئيس الجمهورية) في توريث السلطة لإبنه، تحل الخدعة التي تصور الإبن منقذا للنظام الجمهوري الديمقراطي وخير خلف لأحسن سلف وأفضل من يمكن تأمينه على مصالح الدولة وشعبها المسكين.
و"الجملك" أشبه الناس بوالده من حيث مواصلة الجمع بين لقب رئيس الجمهورية وصلاحيات ملك مطلق وقيصر مستبد وسلطان فاسد، ومن حيث اعتماده على بطانة سيئة وحاشية متزلفة وحرس يقال أنه جديد، لكنه لا يملك من الجديد غير إعادة انتاج القديم الممجوج في قوالب جديدة وتعويض الشعارات البائدة بأخرى مناسبة، تتفق مع مستجدات الساحة المحلية والدولية وتشوش على الناس أي قدرة في تلمس الحقيقة الصافية.
تاريخيا، لم يعرف العرب إذا ما استثنينا الفترة التي حكم خلالها الرسول(ص) وخلفاؤه الأربعة الراشدون، غير نظام "الملك العضوض"، الذي يكدس السلطات جميعها في يد الحاكم المستبد، ويجعل من الشعب رعية تؤمر فتطيع وتنهى فتنصاع، كما يحول الوزراء والقضاة والفقهاء إلى مجرد وسائل لتنفيذ الأوامر وتبرير الجور والتماس المبررات والأعذار لفساد السلطة ونزوات القائم بالأمر.
وخلال الزمن المعاصر، تحايل العرب على عصرهم ليستمر نظام الحكم لديهم كما اعتادوا عليه طيلة قرون "ملكا عضوضا" أو "قيصرية وكسروية"، حتى مع تغير المسميات واختلاف الصفات والألقاب، فالجمهوريات العربية كما الملكيات تماما، ورؤساء الدولة في النظام الجمهوري، هم تماما كرؤساء الدولة في النظام الملكي، حيث استوى رئيس الجمهورية مع الملك المطلق، في هيمنته على جميع السلطات، وتماهي شخصه مع الدولة ذاتها، ورفع إسمه فوق إسم الله، وصوره فوق صور الأنبياء والمرسلين وأولياء الله الصالحين.
والجمهورية في التاريخ العربي المعاصر، لم تكن في معظم حالاتها تتويجا لإرادة شعبية أو ترجمة لتحولات ثقافية وسياسية واجتماعية عميقة طالت غالبية أفراد المجتمع، بقدر ما كانت نتاج انقلابات عسكرية لمجموعات من صغار الضباط المغامرين، وجدت في إعلان النظام الجمهوري مصدرا للشرعية وأداة لاستقطاب المساندة الدولية من المنظومة الشيوعية، التي كانت أول من أطلق على الانقلابات العسكرية تسمية الثورات الشعبية، وعلى أنظمة الحكم القهري المستبدة ديمقراطيات اجتماعية.
ولأن الجمهورية العربية المعاصرة لم تكن نتاج إرادة شعبية، فإن نظرة المجتمعات إليها وكيفية تعاملها معها، لم تختلف عن تلك النظرة والكيفية اللتين كانتا سائدتين من قبل في التعامل مع الأنظمة الملكية، فعبد الناصر على سبيل المثال كان في عقل المصريين الباطن " خديوي" أو "فرعون" جديدا، مثلما مثل بورقيبة في ذهنية غالبية التونسيين "بايا" معاصرا، بل إن هؤلاء الرؤساء قد نالوا من السلطة والحظوة والمكانة ما لم ينله الملوك والفراعنة والبايات الذين سبقوا.
وتأليه الحكام وتقديسهم والارتقاء بهم إلى درجة الأنبياء والمعصومين، أيا يكن اللقب الذي يتلقبون به، أكان الملك أو رئاسة الجمهورية، عادة عربية بائسة وتقليد ثقافي وسياسي عربي مريض وظاهرة اجتماعية مزمنة، ومن هنا فلا غرابة في استواء الجمهوريات بالملكيات، بل وتحول الجمهوريات إلى جملكيات، فالشعوب العربية لم تشعر بعد بالحاجة إلى جمهوريات حقيقية تجسد معاني لفظها، وإن شعرت فعلا فهي ما تزال عاجزة عن الصدع بما تشعر، ناهيك عن تحويل هذا الشعور إلى واقع ملموس.
والواقع أن الصلة بين نوع نظام الحكم والعقلية السائدة في المجتمع، صلة وثيقة جدا، فنظام الحكم يسعى جاهدا إلى تكريس عقلية تنسجم مع رغبته في الحفاظ على طبيعته الاستبدادية الفاسدة، والعقلية السائدة في المجتمع عادة ما تنتج حاكما من صنفها، وهي في العالم العربي عقلية ملكية مستبدة بامتياز، حيث يصعد الحاكم إلى سدة الحكم بشرا عاديا، فإذا به بعد فترة وجيزة من ممارسة السلطة قد انتهى ربا من دون الله، تزور سيرته البشرية العادية لتصبح سيرة إلهية، وينفخ في جسده ومرآه ومسمعه حتى يصدق أنه لا ينطق عن الهوى وأن قوله إن هو إلا وحي يوحى وأن كلامه درر وأفعاله منتهى ما يحلم به المواطن.
ولأن الآلهة لا يلدون بشرا، فأبناء الآلهة هم من صنفهم، فلا غرابة إذا من أن يرث الإله أباه الإله، بل هو الأجدر بذلك والأصلح، ولعل في ظهور الجملكيات العربية أبرز دليل على أن العقل العربي ما يزال عقلا ملكيا بامتياز، ومثلما لم يصبر في السابق على الخلافة الراشدة، فغيرها سريعا إلى ملك عضوض، فإنه اليوم لا يصبر على "الجمهوريات" حتى وإن كانت شكلية، فتراه يسارع إلى اختلاق الدلائل واستحضار الحجج والتحايل على بنود الدساتير والتلاعب بفصولها، حتى يرث الإبن أباه على رأس الجمهورية، ويتأكد أصل العرب على أنهم ليسوا مواطنين بل رعية.
الجملك العربي الذي ورث أباه، أو هو في سبيله إلى فعل ذلك، يختلف في خصائص كثيرة عن سلفه الوالد، في اتجاه سلبي من شأنه بطبيعة الحال أن يكرس أكثر واقع الفساد والديكتاتورية، ومن ذلك على سبيل المثال افتقاد الجملك لأي شرعية من أي نوع كان، فهو لم يقد انقلابا عسكريا حتى يحصل على ما كان يسمى شرعية ثورية أو تاريخية، ولم ينظم انتخابات نزيهة وديمقراطية حتى يحصل على ما يعرف بالشرعية الشعبية، وخلاصة القول أنه ليس لهذا الحاكم المبتدع عربيا، غير شرعية الغلبة والقهر.
والمتأمل في سيرة رؤساء الجمهورية العرب الذين ورثوا الأبناء أو هم في سعيهم إلى ذلك، أنهم من أبناء الطبقات الفقيرة – والمتوسطة في أحسن الأحوال-، وهو ما جعلهم ينتهجون في الغالب سياسات اجتماعية واقتصادية تأخذ في الحسبان هموم الفقراء ومعاناتهم، وتحرص على تأمين الخدمات التعليمية والصحية والاجتماعية المجانية، أما "الجمالك" الجدد الصغار فبخلاف آبائهم، ولدوا وفي أفواههم معالق من ذهب، ينظرون إلى بلدانهم من زاوية القصور التي تربوا فيها، وإلى الشعوب من فوهة طبقة المترفين ومحدثي النعمة التي يحيط بهم أبناؤها.
وعلى هذا النحو، فإن حكم الجملك الأصغر سيواصل سياسة الاستهتار بالشرعية الانتخابية والديمقراطية على غرار حكم الجملك الأكبر، بالنظر إلى أن في ذلك ضرورة وأصل وجود، فيما سيتميز باستهتار من نوع جديد بالسياسات ذات الطابع الاجتماعي والشعبي، وهو ما يعني أن حكم الجمالك الجدد سيكون بمثابة خسارة مزدوجة للشعوب العربية المحكومة من قبلهم، إذ ليس بالمقدور تحقيق الديمقراطية المطلوبة نخبويا ودوليا على المستوى السياسي، كما لن يكون بالمقدور المحافظة على المكتسبات الاجتماعية والاقتصادية التي حققتها الطبقات الفقيرة والوسطى طيلة العقود السابقة من حكم الجمالك القدامى..الجملك الصغير إذا عصارة عصر الفساد العربي على كافة الأصعدة والمستويات، وليسعد العرب بهذا الاختراع.

كاتب المقالتونسي، مدير مركز دعم الديمقراطية في العالم العربي - لاهاي