أصبح موضوع المصالحة خصوصا بعد قرب موعد الانتخابات في العراق من القضايا التي تشغل بال الساسة والراي العام على السواء. وكما هو الحال حول اي موضوع يمس الحياة العامة او الوحدة الوطنية ، تتنوع الاراء والاتجاهات حوله، ويشتد الجدل بين معارض ومؤيد.

ساستعرض اولا الاراء المتضاربة حول موضوع المصالحة، لاوضح الفرق بينهما، ثم احاول الوقوف فيما بعد بما يراد بالمصالحة، والمعوقات التي تقف في طريقها. لنستخلص في النهاية بان العنف والعنف المضاد المندلع حاليا في العراق هو (بفعل الفكر الاحادي) الذي يرفض الاخر المختلف، في حين تحتاج العملية السياسية الى الحوار والمصالحة وليس اجتثاث الاخر ونفي وجوده ! فالاجتثاث والنفي يرجعنا القهقري الى نمط الفكر الفاشي الذي يفترض بان التغير الجديد في العراق قد اعلن الحرب عليه .. !! والا فان ظاهرة المقابر الجماعية التي يشير اليها في الاعلام ستتكرر .. !!

وفي هذه المناسبة لو نحصي وفق المعيار (الزمني) اعداد القتلى من الاطفال والنساء والرجال من المدنيين الابرياء الذين ينتمون لسائر العقائد والامم والاعراق والذين سقطوا ضحية الفكر الاحادي خلال (العامين المنصرمين في العراق) لفاق ارقام ضحايا المقابر الجماعية التي ارتكبت خلال (الاربع وثلاثين عاما) للنظام الشمولي السابق استنادا لمعايير النسبة والتناسب الزمني . مع استنكاري المطلق لكل انواع القتل الفردي او الجماعي لبني البشر سواء في العراق او على اي بقعة من كرتنا الارضية المازومة بالعنف والارهاب!

ومن الجدير بالذكر قبل البدا بتوصيف الاراء وتحليلها لابد من التاكيد باني استخدم هذه الاراء كمادة للتحليل الفكري والتاريخي والاجتماعي وكرمز لما هو موجود في المجتمع وما هو ناقص وليس لتبرير الواقع لفائدة هذا الطرف او ذاك .

تنقسم الاراء في اللحظة الراهنة حول المصالحة الى فريقين: فريق يؤيد المصالحة ويرى بانها خطوة ضرورية لنزع فتيل الصراع والعنف.. وفريق اخر يرفض المصالحة لانه يرفض المبدا في الاساس ويقول نتصالح مع من ؟! وبالتالي ليس لدى اصحاب هذا الاتجاه ما يقدمونه من دعم للمصالحة بل يقفون بشدة امام اي محاولة للمصالحة لاحباطها.
وتتفرع من هاذين الفريقيين روافد عديدة كل منها يقدم سببا مختلفا يبرر به رفضه او دعمه للمصالحة. ويمتلك كلا الفريقين مزاعم للتدليل على صحة اقواله، ترتكز غالبيتها على جذور دينية او عقائدية حزبية. ويصطف في صفوف كلا الفريقين نخبة من المثقفين والقانونيين والاكاديميين ورجال الدين، لاعطاء تفسيرات ، فلسفية او دينية او قانونية لعرض وجهة نظر فريقه في الرفض او التأييد .

لو نعود الى خطاب اصحاب الاتجاه الذي يؤيد المصالحة ونحلل مضمونه، نلاحظ وجود اختلاف في الراي حول خطط ووسائل تحقيق المصالحة. فالبعض ممن يدعو للمصالحة يرى بان المصالحة هي ما تعبر عنه الاحزاب السياسية التي تتشكل منها الحكومة المؤقتة الحالية. واصحاب هذا الاتجاه ينكر بشكل صريح في وسائل الاعلام بان اي نشاط او فعالية تخص المجتمع المدني لا يجوز ان تكون خارج اطار الحكومة. وهذا الاتجاه تصفق له السلطات الحاكمة على الدوام. هذا المنحى في فهم المصالحة يسهم (سواء عن قصد او دون قصد) على تدجين المجتمع ثانية لهيمنة السلطة. وبالتالي يعيق (تنوير) السلطة الحاكمة الجديدة بان القمع والجمود السياسي الذي اصرت عليه السلطة الحاكمة السابقة وتصر عليه عموم السلطات التقليدية الحاكمة في المنطقة العربية ، قد قدم المبرارات التي استغلتها الحركات السياسية السرية والعلنية للعمل ضد الدولة على مدى تاريخ الدولة العربية الاسلامية القديم والحديث. ومن ناحية اخرى قدم القمع والجمود السياسي الذريعة للقوى الاجنبية الطامعة للتدخل في شؤون المنطقة بحجة حماية حقوق الاقليات المضطهدة او حقوق المراة او حماية ارواح الاجانب ..الخ

وهناك فريق اخر ممن يدعوا للمصالحة، يرى بان من يقوم بالمصالحة هي مؤسسات المجتمع المدني والنخب المثقفة وعقلاء البلد من رؤساء العشائر ورجال الدين غير المسيسين، بعيدا عن تدخل الدولة او الاحزاب المشاركة في السلطة. لان المصالحة تحتاج الى جهة محايدة تعمل بشكل مستقل عن الدولة من اجل تقريب وجهات النظر بين مكونات المجتمع. ويرى اصحاب هذا الاتجاه (وهو الاتجاه الذي نؤيده) بان هذ المنحى يساعد على التحول للنظام التعددي الديمقراطي الذي ينسجم مع نسيج المجتمع العراقي المتنوع .
اما الفريق الثاني الذي يرفض المصالحة، فابرز روافده نحددها بالاتجاهيين التاليين. اتجاه يرفض المصالحة لانه يعتبرها خطة يراد بها تبرير لاستمرار الاحتلال وحكومته العملية التي ترغب في تقسيم العراق. واتجاه اخر يرفض المصالحة لانه يعتبرها خطة يراد بها تبرير لعودة البعث الذين ارتكب مجازر جماعية بحق الشعب العراقي الى السلطة ثانية. ويعطي اصحاب هذا الاتجاه تفسيرات متنوعة لتبرير وجهة نظره . فيصدر البعض حكما معمما يختزل العرب والمسلمين في العراق ويضعهم دون تمييز في قائمة فلول صدام والزرقاوي ويتهمهم بجرائم القتل والعنف والارهاب.

وهناك بعض من اصحاب هذا الاتجاه ، يوسع قائمة الاتهام لتشمل النظام العربي باكمله. ثم يهاجم الجامعة العربية باعتبارها الممثل للنظام العربي، الذي يحمله مسؤلية الدفاع عن نظام صدام بحكم ارتباطاته الحميمة السابقة معه . وقسم اخر يحمل النظام العربي والجامعة العربية مسؤلية الدفاع عن الحكومة المؤقتة وسلطات الاحتلال، ودليلهم في ذلك مؤتمر شرم الشيخ ، رغم ان المؤتمر المذكور كان مؤتمر حكومات ليس له علاقة بالمصالحة بل بالتنسيقات الامنية ، ووفقا لتلك التنسيقات، دعا في احدى فقرات بيانه الختامي بضرورة الحوار واشراك جميع مكونات المجتمع العراقي في العملية السياسية قبل اجراء الانتخابات.

نستخلص من المعطيات اعلاه النتائج التالية:
(اولا) تظهر المواقف المختلفة اعلاه سواء الرافضة للمصالحة او المؤيدة لها في اطار الدولة ، بانها اختلافات متعارضة ومتضادة ولكنها تعمل جاهدة في ظل مبدا واحد مشترك يرفض اي محاولة صادقة لتجميع وجهات النظر لمكونات المجتمع العراقي . وقد ادت ذلك الى تدهور الاوضاع من السيء الى الاسوء في جميع نواحي الحياة للمجتمع العراقي، خصوصا بعد الانزلاق في استخدام الحل الدموي بدل الحل السلمي في حسم الموقف السياسي وفي معالجة الاوضاع الامنية والاجتماعية، بدلا من التركيز على تحسن الاوضاع الاقتصادية والاجتماعية للمواطنيين، مما ادى ذلك الى انتشار العنف والعنف المضاد بشكل خطير في العراق.
وقد ادى الانزلاق في العنف والعنف المضاد الى ظهور مشاكل امنية خطيرة لم تساعد على تحقيق الحد الادنى من القدرة على الاجتماع السياسي وبالتالي الوفاق السلمي الذي يحفظ مكونات المجتمع العراقي ويحميها من الدخول في معترك الصراع الاهلي الذي سيتعدى حتما حدود العراق، لوجود قوى اقليمية غير محايدة، ترغب في عدم الاستقرار في العراق لاهداف تتعلق بمصالحها السياسية والقومية الاستراتيجية.

(ثانيا) اصحاب المواقف الرافضة للمصالحة المذكورة اعلاه تعتبر احدهما يشكل خطر على وجود الاخر. لذلك يطالب كلا الفريقين باجتثاث الاخر. وقد ادت هذه السياسية اللاعقلانية الى زيادة جذور التصدع بين مكونات المجتمع العراقي وزيادة التوتر والقلق لدى الناس والارتداد الى الايديولوجيا القديمة كألية للدفاع عن الذات. وقد ازدادت الالية الدفاعية تلاحما لوجود اكثر من ايديولوجيا تعمل على استقطاب القوى المتذمرة من تدهور الاوضاع الامنية والحياتية للمواطنيين.

والان سانتقل من مجرد السرد والاحصاء الى التنقيب عن الجذور الثقافية والفكرية لهذه الاتجاهات المتعارضة التي تهز حاليا العراق وعموم الشرق الاوسط هزا عنيفا معرضة الامن الاقليمي والدولي لخطر الحروب والدمار! اذا اخذنا الفريق الذي يعتبر المصالحة وسيلة لتبرير الاحتلال ، ويرفض الحوار والتعددية والديمقراطية باعتبارها صناعة غربية تنتمي لثقافة الغرب المحتل ، فهذا الفريق يخلط بين الغرب كاستعمار وبين الغرب كحضارة قدمت للبشرية خدمات جليلة لا يمكن انكارها. ويعمم هذا الفريق ذنوب الاستعمار على جميع الحضارة الغربية ويعتبرها منحطة، بما فيها من حركات علمية وفكرية واجتماعية انسانية محبة للخير والسلام وتؤمن بالحوار مع الحضارات وترغب في مساعدة الشعوب الفقيرة وتقوم باعمال خيرية لضحايا الحروب والمجاعات والكوارث السياسية والطبيعية. ولعل تفسير اصحاب هذا الاتجاه تكمن في مناهضته للاصلاح السياسي.
اما الفريق الذي يعتبر المصالحة تحقق مصالح فلول صدام واعوانه. ويضع العرب والاسلام في سلة فلول صدام والسلفين، فيخلط هذا الفريق بين الاسلام والعروبة وبين الاستبداد والقمع والارهاب. ووفقا لهذا الموقف فاصحاب هذا الاتجاه تتبنى الصورة والانطباعات الخاطئة التي تروج لها بعض الدوائر الغربية العنصرية عن العرب والاسلام. والتي ادت الى انتشار العداء والكراهية بين الامم والحضارات بدل الحوار والقبول بالاخر المختلف. وبذلك فكلا الفريقين المتعارضين اعلاه ذو نزعة مثالية ذاتية. وهذه النزعة لها علاقة بالمذهب المثالي . فالمثاليون من كانط وما بعده من فلاسفة المان يميلون الى نفي اي حقيقة خارج اطار الذات سواء كانت فرد او حزب او جماعة او طائفة.

والان ماذا يراد بالمصالحة؟
ما يراد بالمصالحة هو تجاوز الولاءات الطائفية والاثنية والتقسيمات المشحونة بالمواقف العنصرية والتفوقية لاي طائفة من طوائف المجتمع على حساب الطائفة الاخرى والارتقاء بالعلاقات الى مستوى انساني ارقى في النظر للتنوع اللغوي والديني والثقافي بين مكونات المجتمع العراقي في اطار الوحدة العراقية.
من يدير عملية المصالحة يقتضي ان يتسم بالحلم وسعة الصدر وبعد النظر والفكر السديد ويعرف بان الطبع غلاب وان النوازع البشرية لها هيمنتها على الانسان. فيغفر ويسامح ويتجاوز وينصح في رفق وان يدرك بان الدكتاتورية تركت خلفها شعب مهشم، اكتسب الناس خلال اربعة وثلاثون عاما كثير من الامراض الاجتماعية. وان اعسر العسر التخلص من الامراض الاجتماعية ما بين عشية وضحاها.

ولمعالجة المشاكل الأجتماعية يتطلب تحسين الحالة الأقتصادية ومحاربة الفقر اولا قبل محاربة الافكار. فالفاقة والحاجة لتوفير متطلبات الحياة الضرورية تؤثر كثيرا على أحوال المجتمع وأخلاقه، وتدفع الناس للتنازل عن القيم والاخلاق. مما يجعل الغاية تبرر الوسيلة.

ومن اجل تحقيق العدالة يقتضي محاكمة المتورطين في انتهاكات حقوق الانسان وتعويض الضحايا والمتضررين في مرحلتي النظام الدكتاتوري السابق والأحتلال اللاحق، من اجل احتواء مشاعر الغضب لدى الضحايا وتهدئة روح الثأر والانتقام. وتحقيق العدالة يعني اعطاء الحقوق بحيث لا تضيع الواجبات. فعندما تعطى الاقليات او الاكثريات حقوقها هناك واجبات للوطن يجب ان لا يفكك، بحجة حماية حقوق الانسان. وعندما يطالب بحقوق المراة، فهناك حقوق للاسرة يجب ان لاتهدر، بحجة حماية حقوق المراة، واولها تربية الجيل المقبل (قوة المجتمع وراس ماله). والحديث الشريف يقول (كلكم راعِ وكلكم مسؤول عن رعيته).

ومفهوم الرعاية وفق المنظور الاسلامي في هذا الحديث لها دلالة خاصة . فعبارة (كلكم راعٍ ) تنفي بأن يكون هناك راعٍ واحد. بل أن الرعاية هي حفظ الأمانة وأقرار المسؤولية وهي موزعة على جميع أفراد المجتمع رجالا ونساء وحكام ومحكومين كل حسب مسؤليته. لكل طرف له حقوق وواجبات اتجاه الطرف الثاني . وان الحقوق لاتضيع عندما تؤدى الواجبات والمسؤوليات. ولكن تضيع الحقوق والواجبات معا حين يذكر حق ولا يذكر الواجب. وحين نطلب من غيرنا ولا نطلب من انفسنا. )لمزيد من المعلومات حول موضوع المصالحة والاصلاح يراجع البحث الذي قدمته للجان عمل مشروع العدالة الأنتقالية في العراق وكنت عضوة ومنسقة لجنة المسؤولية والحقيقة والمصالحة. والبحث منشور في مجلة الحقوقي العدد العاشر 2003 والتي تصدرها جمعية الحقوقيين العراقين في لندن)

واخيرا نخلص مما تقدم، بان المصالحة مهما اختلفت الاراء حول اهدافها، فهي ليست الا ارضاء للراي الاخر المختلف والاعتراف بوجوده. وهذا الهدف من اهم الاسس القوية التي تستند عليها الديمقراطية وبدونه تكون الديمقراطية عرجاء وبدونه تكون الانتخابات وسيلة لعودة الدكتاتورية من جديد!ان اصحاب الفكر المثالي اعلاه، يطالبون بالانتخابات والدعوة الى الديمقراطية، بينما يرفضون المصالحة ويطالبون بالاجتثاث وبالتالي فهم يناقضون انفسهم. لان حسب المذهب المثالي نفسه يقول الفيلسوف الالماني كانط (مؤسس المثالية الالمانية) ان ما يميز السلوك الاخلاقي امكان تعميمه دون ان يناقض نفسه. وبعطي مثالا على ذلك مسالة الايفاء بالوعد. فيقول كانط بان مفهوم الوعد لا يستقيم الا مع تصور صدقه. لذلك فالوعد الكاذب يناقض مفهوم الوعد، لانه ينتهي بالناس الى الكف عن تصديق اي وعد. اي ان نجاج الوعد مرهون بمقدار الثقة التي يخلعها الناس على صاحب الوعد. وهذا بدوره مرهون بمدى وجود الصدق، وبالتالي تنعدم قيام الوعود بوجود الكذب وخيانة الوعود. ويصدق هذا المثال على تعميم الديمقراطية. فمفهوم الديمقراطية هو الاعتراف بحقوق الاخر المختلف وهذا المفهوم ينعدم اذا عممت دعوات العداء والاجتثاث ورفض المصالحة، حيث ينتهي بالناس الى الخوف والقلق والامتناع عن الادلاء بارائهم بحرية، خوفا من القمع والاجتثاث. لان الديمقراطية تتناقض مع الاجتثاث. وبذلك تمتنع قيام انتخابات حرة وبالتالي تفضي عملية الانتخابات الى القضاء على الديمقراطية وتتسلق الدكتاتورية من خلال سلم الانتخابات مهما كانت هوية المتسلقين. حيث لا يوجد هناك ضمانة تكفل عدم ممارسة السلطة بشكل اعتبادي، لان السلطة من حيث مصدرها وموضوعها لايمنكنها الا ان تكون خاصة ولا تتسامح مع الاخر. بهذا الاعتقاد دخلت اوربا الى العصر الحديث.. وان اردنا ان نلحق بهم ونخرج من العصور الوسطى يقتضي ان نتبنى اعتقاد جديد لاضفاء الشرعية على السلطة ليس مسيسي الله او العقائد الثورية احدهما ! والاعتقاد الجديد المطلوب هو مراقبة المشترع وتجريده من كل محاولة لخلط ارادته الخاصة مع ارادة الدولة والا سيكون مصيرها مثل مصير دولة صدام !

د. راقية القيسي باحثة في شؤون العراق
[email protected]